الإصحاح الثامن

 

نجد هنا خطاب بلدد، وهو إستمر في نفس منهج أليفاز في محاولة إثبات شر أيوب وبينما بني أليفاز رأيه علي الرؤي والإعلانات الإلهية بني بلدد رأيه علي حكمة بني المشرق وتقليد الأباء الأولين. وأيضاً كان كلام بلدد كلام رائع ولكنه أخطأ في التطبيق، بل كان كلامه بلا أي عطف أو شفقة علي أيوب المسكين.

 

الأيات (1-7):-" 1فَأَجَابَ بِلْدَدُ الشُّوحِيُّ وَقَالَ: 2«إِلَى مَتَى تَقُولُ هذَا، وَتَكُونُ أَقْوَالُ فِيكَ رِيحًا شَدِيدَةً؟ 3هَلِ اللهُ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ، أَوِ الْقَدِيرُ يَعْكِسُ الْحَقَّ؟ 4إِذْ أَخْطَأَ إِلَيْهِ بَنُوكَ، دَفَعَهُمْ إِلَى يَدِ مَعْصِيَتِهِمْ. 5فَإِنْ بَكَّرْتَ أَنْتَ إِلَى اللهِ وَتَضَرَّعْتَ إِلَى الْقَدِيرِ، 6إِنْ كُنْتَ أَنْتَ زَكِيًّا مُسْتَقِيمًا، فَإِنَّهُ الآنَ يَتَنَبَّهُ لَكَ وَيُسْلِمُ مَسْكَنَ بِرِّكَ. 7وَإِنْ تَكُنْ أُولاَكَ صَغِيرَةً فَآخِرَتُكَ تَكْثُرُ جِدًّا."

 قال أيوب كلام كثير صحيح، أما بلدد فإحتد وهاجمه. أقوال فيك ريحاً شديدة= هو شبه كلام أيوب بريح شديدة لأنه كان يتكلم بحدة، ولكنها أقوال تافهة بلا قيمة كالهواء. هل الله يعوج القضاء= أيوب لم يقل هذا. ولكن بلدد يظهر أنه يدافع عن الله لكنه في الواقع يحاول إثبات شر أيوب وأنه يستحق ما هو فيه من ألام. إذ أخطأ إليه بنوك دفعهم إلي يد معصيتهم= هذا القول فظيع. حتي وإن كان أولاد أيوب أشرار، فما كان يجب علي بلدد أن يزيد جروح أيوب هكذا بينما هو قد أتي ليعزيه. ثم يدعو أيوب للتوبة فيعيده الله أحسن مما كان. فإن بكرت أنت= لا تكن شريراً مثل أولادك الذين فاتتهم فرصة التوبة فهلكوا بل إسرع وإنتهز الفرصة وتب. ويسلم مسكن برك= إن كنت تقدم توبة حقيقية وترضي الله في طرقك ويكون بيتك مسكن بر لا مسكن ظلم، ولا يكون في بيتك غنيمة غنمتها بدون وجه حق حينئذ يستمع لك الله.

 

الأيات (8-10):-" 8«اِسْأَلِ الْقُرُونَ الأُولَى وَتَأَكَّدْ مَبَاحِثَ آبَائِهِمْ، 9لأَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ وَلاَ نَعْلَمُ، لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى الأَرْضِ ظِلٌّ. 10فَهَلاَّ يُعْلِمُونَكَ؟ يَقُولُونَ لَكَ، وَمِنْ قُلُوبِهِمْ يُخْرِجُونَ أَقْوَالاً قَائِلِينَ: "

نظرية بلدد هي أن نكبة الأشرار أكيدة حتي وإن كانت فترة من حياتهم مزدهرة فبالتأكيد ستكون فترة قصيرة بعدها يأتي عليهم الشر. ويبرهن علي ذلك بأن يلجأ لحكمة الأباء الأولين الذي سجلوا هذا الرأي= اسأل القرون الأولي= وهذا ما تفعله كنيستنا التي تهتم بأقوال الأباء. والفلسفة تعلمنا بأن الإنسان يبدأ من حيث إنتهي أباؤه، أي هو ينتفع بخبراتهم ويضيف عليها. بينما الحيوان يبدأ من حيث بدأ أبائه. لذلك يتقدم الإنسان في المعرفة ويبقي الحيوان علي ما هو عليه. لأننا نحن من أمس= أي خبرتنا هي لا شئ. بجانب خبرة وحكمة الأباء الأولين لذلك فأنا آخذ وأقتبس من حكمتهم. وكأنه يقول لأيوب أنت لا تصدقنا ولا تريد أن تعترف بنظريتنا، هب أننا لا نعرف شئ وخبرتنا قليلة بسبب نقص أيامنا= أيامنا علي الأرض ظل= أي قصيرة، لكن حاول أن تستفيد من خبرة الأولين الذين من قلوبهم يخرجون أقوالاً= أي أن ما يقوله الأباء يقولونه بصدق من كل قلبهم حسب ما يؤمنون به وما إختبروه.

 

الأيات (11-19):-" 11هَلْ يَنْمُي الْبَرْدِيُّ فِي غَيْرِ الْغَمِقَةِ، أَوْ تَنْبُتُ الْحَلْفَاءُ بِلاَ مَاءٍ؟ 12وَهُوَ بَعْدُ فِي نَضَارَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ، يَيْبَسُ قَبْلَ كُلِّ الْعُشْبِ. 13هكَذَا سُبُلُ كُلِّ النَّاسِينَ اللهَ، وَرَجَاءُ الْفَاجِرِ يَخِيبُ، 14فَيَنْقَطِعُ اعْتِمَادُهُ، وَمُتَّكَلُهُ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ! 15يَسْتَنِدُ إِلَى بَيْتِهِ فَلاَ يَثْبُتُ. يَتَمَسَّكُ بِهِ فَلاَ يَقُومُ. 16هُوَ رَطْبٌ تُجَاهَ الشَّمْسِ وَعَلَى جَنَّتِهِ تَنْبُتُ خَرَاعِيبُبهُ. 17وَأُصُولُهُ مُشْتَبِكَةٌ فِي الرُّجْمَةِ، فَتَرَى مَحَلَّ الْحِجَارَةِ. 18إِنِ اقْتَلَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ، يَجْحَدُهُ قَائِلاً: مَا رَأَيْتُكَ! 19هذَا هُوَ فَرَحُ طَرِيقِهِ، وَمِنَ التُّرَابِ يَنْبُتُ آخَرُ."

هذه الأيات غالباً هي قطعة شعر قالها الحكماء القدماء ويرددها هنا بلدد متهماً أيوب بأنه مرائي شرير وكان نجاحه وقتياً.

هل ينمي البردي في غير الغمقة. أو تنبت الحلفاء بلا ماء= البردي والحلفاء ينميان علي ضفاف النيل في مصر. وهما يحتاجان للماء الكثير وحينما يقطعان وينفصلان عن الماء سريعاً ما يجفوا. أو إذا إنقطع عنهم الماء= وهو بعد في نضارته لم يقطع ييبس بسرعة جداً بالمقارنة مع العشب ويفقد نضارته. و هكذا الإنسان المرائي حين يترك الله يموت ويهلك ويذهب عنه بهاؤه. قد يستمر بهاؤه ونجاحه فترة ولكن سريعاً سيزول عنه كل إزدهار بسبب شره لأن الله سيتخلي عنه مثلما يبس البردي بسرعة حين إنقطع عنه الماء. ولذلك لأن جذور البردي ضعيفة جداً فإن لم يُروَ جيداً ييبس بسرعة جداً مهما بدا في خضرة وجمال وقتي.

ورجاء المرائين خداع شديد لأنفسهم، فالشرير إذا نجح وقتياً يمني نفسه بأن نجاحه سيستمر، وهو يثق في نفسه بغرور وربما في كفاءته. ولكن ما نجاحه إلا كبيت العنكبوت= ولكن نجاحه هذا لابد وسيزول كما يزول بيت العنكبوت بسهولة جداً بالمكنسة أي عندما يأتي الله ليطهر بيته. إن العنكبوت يبني بيته ويعجب به جداً ولا يدري أنه واهي جداً وفي لحظة ينتهي. بل هناك مقارنة تعقد بين العنكبوت والنملة فكلاهما يكد ويعمل بجد، ولكن بينما النحلة تتغذي علي الندي السماوي، أو علي ثمار الندي السماوي فتنتج عسلاً (ثمار الندي السماوي أي كلمة الله) والعسل الناتج يكون فيه غذاء وفائدة للجميع، نجد العنكبوت يتغذي علي إصطياد الحشرات وإفتراسها. وهكذا الشرير ينهب بيوت المظلومين وحين يزول نجاح الشرير وينهدم كل ما بناه. ينقطع إعتماده= أي رجاؤه.

ثم شبه المرائي بشجرة تنمو وسط أحجار، والشجرة أقوي من البردي ولها جذور تمتد لتبحث عن الماء. لكنها لوجودها وسط الأحجار لا تعيش طويلاً لأن جذورها تصطدم بالأحجار. وهذه الشجرة مهما كان جمالها فأي دودة أو حشرة زراعية تجعلها تجف. وما حدث مع يقطينة يونان مثل واضح فلا يوجد شئ ثابت في هذا العالم. رطب تجاه الشمس= أي تخضر تجاه الشمس وعلي جنته تنبت خراعيبه= الخراعيب هي الأغصان. أي أن أغصان هذه الشجرة ممتدة وتظلل البستان المزروعة فيه. ولكن مشكلة هذه الشجرة وجود حجارة كثيرة (راجع مثل الزارع) وأصوله مشتبكة في الرجمة= أي جذور الشجرة مصطدمة مع الحجارة. مثل هذه الشجرة أي آفة تقتلها سريعاً وتتلاشي حتي إن إقتلعه من مكانه يجحده قائلا ما رأيتك= كلام بأسلوب شعري بمعني أنه بعد إختفاء الشجرة وهلاكها، لو ظهرت مرة أخري فمكانها يقول لها لا أعرفك. وهكذا الشرير فكل نجاحه ينتهي (طريق الأشرار تهلك مز 6:1). ولا يترك شيئاً لنسله ينتفعوا به. هذا هو فرح طريقه= نهآية أفراح الشرير خراب كل شئ. هذا هو الدرس الذي تعلمنا الحياة إياه. ولكن هل يستفيد الناس؟‍ أبداً فبعد أن ينتهي شرير ويخرب يقوم آخر مكانه من التراب ينبت أخر. ربما قوله من التراب يعني الشجرة التي يمكن أن تنبت مكان الشجرة القديمة ولكن سيكون لها نفس المصير فالأحجار ما زالت موجودة. وربما يشير للخاطئ الذي مات وذهب للتراب وسيأتي بعده أناس ترابيون (عالميون، دنيويون، شهوانيون) يكونون في مثل شره وحماقته، وأيضاً سيكون لهم نفس مصيره.

 

الأيات (20-22):-" 20«هُوَذَا اللهُ لاَ يَرْفُضُ الْكَامِلَ، وَلاَ يَأْخُذُ بِيَدِ فَاعِلِي الشَّرِّ. 21عِنْدَمَا يَمْلأُ فَاكَ ضِحْكًا، وَشَفَتَيْكَ هُتَافًا، 22يَلْبِسُ مُبْغِضُوكَ خَزْيًا، أَمَّا خَيْمَةُ الأَشْرَارِ فَلاَ تَكُونُ»."

 بلدد في ختام حديثه يضع أمام أيوب طريقي الحياة والموت، البركة واللعنة. بمعني أن نصيبه البركة لو كان كاملاً مستقيماً، فالله لا يرفض الكامل. بل يملأ فاه ضحكاً. ويلبس مبغضوه خزياً= قد يخزي أعداء البار هنا في الأرض ولكن من المؤكد أن خزيهم سيكون كاملاً في السماء حينما يرونه متوجاً بالمجد. والعكس فالله لا يأخذ بيد فاعلي الشر. ويهدم مسكنهم= أما خيمة الأشرار فلا تكون.