المزمور الثلاثون

 

        ·            وهو مزمور شكر لداود، ويقول البابا أثناسيوس الرسولي أنه قاله لما عرف أن الرب قد غفر إثمه، وتجددت بالتوبة نفسه الكائنة في بيت الرب والتي هي ذاتها بيت الله وبعد أن كان نتيجة الخطية (امرأة أوريا) مستوجباً الموت والجب، شفاه الله بتوبته وقَبِله ثانية. وقد يكون عنوان المزمور "تدشين البيت" قد أضيف لاحقاً بعد أن انتهى سليمان من بناء الهيكل.

        ·            هذا المزمور مناسب جداً وضعه هنا بعد المزمور السابق، الذي يحدثنا عن عمل الروح القدس في تجديد الإنسان وبناء إنساناً جديداً كهيكل لله، يملك الله عليه فالإنسان عموماً كان بسبب خطيته هالكاً، وبعمل المسيح وتجديد الروح القدس صار له خلاص. فداود بسقوطه يرمز لسقوط الإنسان وفي توبته وقبول الله له ثانية يرمز لعدم هلاك الإنسان نهائياً بل هناك رجاء في شفاء الإنسان من مرض الموت.

        ·            وترنم الكنيسة هذا المزمور في صلاة الساعة الثالثة لتذكر الأعداء الذين كانوا محيطين بالمسيح وحكموا عليه بالموت والله لم يجعلهم يشمتوا فيه بل أقامه وأصعد نفسه من الهاوية، وأصعد معه نفوس البشر الذين فداهم وأقام منهم الروح القدس كنيسة مسبحة مرتلة تحيا في سلام، لقد شفاها الله. لقد فقدنا صورتنا الأولى، صورة الله، ولكن كان عمل المخلص أن يقيم منا مسكناً له دشنه الروح القدس.

 

الآيات (1-2):- "1أُعَظِّمُكَ يَا رَبُّ لأَنَّكَ نَشَلْتَنِي وَلَمْ تُشْمِتْ بِي أَعْدَائِي. 2يَا رَبُّ إِلهِي، اسْتَغَثْتُ بِكَ فَشَفَيْتَنِي."

هذه صلاة شكر من داود لله الذي قبل توبته. وصلاة شكر ترفعها الكنيسة والطبيعة البشرية التي خلصت من الموت ولم تعد الشياطين تشمت فيها. والشفاء هنا هو شفاء من وباء يصعب وقفه (2صم16:24).. إني أنا الرب شافيك (خر26:15) وكم من أمراض جسدية ونفسية بل الموت نفسه قد لحقت البشرية بسبب الخطية. الشفاء المقصود هو شفاء كامل للنفس والجسد والروح ، فيكون له حياة ابدية بجسد نوراني ممجد .

 

آية (3):- "3يَا رَبُّ، أَصْعَدْتَ مِنَ الْهَاوِيَةِ نَفْسِي. أَحْيَيْتَنِي مِنْ بَيْنِ الْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ."

نزل المسيح إلى الجحيم لينقذ من كان فيه ساكناً على الرجاء (أف6:2). والآن فالفردوس مفتوح لكل من ينتقل من اولاد الله . بل لهم حياة ابدية ومجد ابدي عوضا عن الجحيم = الْجُبِّ

 

الآيات (4-5):- "4رَنِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَتْقِيَاءَهُ، وَاحْمَدُوا ذِكْرَ قُدْسِهِ. 5لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ. حَيَاةٌ فِي رِضَاهُ. عِنْدَ الْمَسَاءِ يَبِيتُ الْبُكَاءُ، وَفِي الصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ."

هنا يسأل المرتل كل من آمن بخلاص الله أن يسبح الله معه، ودعاهم داود قديسين أو أتقياء، فالله قدسهم، ومن تقدس يسبح الله فلا انفصال بين حياة القداسة وحياة التسبيح، فالروح القدس الذي حل علينا هو يقدس (اي يكرس قلوبنا لله) وهو ايضا من ثماره الفرح (غل 5 : 22)، ونتيجة الفرح الطبيعية هي ان نسبح (وهذا ما حدث مع زكريا واليصابات  لو 1). ونرى هنا مراحم الله، فغضبه لا يمتد طويلاً= لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ = فالله يغضب ليؤدب لا لينتقم. أما السبعينية فترجمتها لأن سخطاً في غضبه وهما متكاملان. فالله في غضبه، سخط على الإنسان فمات ولكن في رحمته لم يتركه طويلاً بل دبر فداءه سريعاً. وهذا هو ما قاله الله (اش 54 : 7) وحَيَاةٌ فِي رِضَاهُ = أعطانا قيامة مع المسيح. فبموت المسيح عنا جلب علينا رضا الله ووهبنا حياة أبدية برضاه وليس باستحقاقنا.

وهذا المزمور هو تسبحة البشرية التي كان محكوما عليها بالموت ، واحياها المسيح بفدائه ،وتسبحة كل خاطئ تائب حتى الآن فبخطيتنا نستحق الهلاك في الجب وبتوبتنا يرضى الله علينا فننجو من الجب، ونسبح الله على قبوله لنا. والتسبيح هو عمل الروح القدس فينا الذي يدفعنا لنسبح كما عَلَّم داود المرتل لغة التسبيح. عِنْدَ الْمَسَاءِ يَبِيتُ الْبُكَاءُ وَفِي الصَّبَاحِ التَرَنُّمٌ = ففي المساء دفن المسيح وبكي أحباءه وفي باكر الأحد قام فرنموا. وفي مساء هذا العالم يكون لنا ضيق وحزن وفي فجر الحياة الأبدية يحل السرور والترنم. فالعالم مساء والأبدية صباح لأن شمس البر ضياؤها. وفي مساء المسيحي (سقوطه في الخطية) بكاء وحزن وفي صباح توبته سرور وفرح.

 

الآيات (6-7):- "6وَأَنَا قُلْتُ فِي طُمَأْنِينَتِي: «لاَ أَتَزَعْزَعُ إِلَى الأَبَدِ». 7يَا رَبُّ، بِرِضَاكَ ثَبَّتَّ لِجَبَلِي عِزًّا. حَجَبْتَ وَجْهَكَ فَصِرْتُ مُرْتَاعًا."

هنا يحدثنا المرتل عن حالته قبل الخطية إذ ظن نفسه انه لن يتَزَعْزَعُ وكان مطمئناً لذلك، وإذ إتكل على ذاته أخطأ فحَجَبْ الله وَجْهَه عنه، فصار محروماً من نعمة الله ورحمته. ولقد حدث مع داود هذا فعلاً إذ في كبرياء قلبه أراد إحصاء الشعب فسقط سقطة عظيمة. وهنا يعترف أن كل ما كان جميلاً وعظيماً فيه إنما هو برضاء الله وليس لبر فيه= يَا رَبُّ، بِرِضَاكَ ثَبَّتَّ لِجَبَلِي ( لبهائي) عِزًّا والعكس حين صرف الله وجهه عنه تحوَّل الجمال والقوة إلى قلق واضطراب. وهذا ما حدث للبشرية إذ بسقوطها فقدت سلامها وقوتها وسلطانها.   جَبَلِي = في المسيح صرنا جبالا اي نحيا في السماويات وثابتين في ايماننا وراسخين فيه كالجبال الثابتة ، والمسيح جبل في رأس الجبال (اش 2 :2) والروح القدس هو يثبتنا في المسيح فنستمر جبالا ( 2كو 1 :21-22) وهذا الثبات في المسيح هو ما يعطينا العز والمجد فالمسيح مجدنا ( زك 2 : 5) والمسيح وسط كنيسته للابد يعطيها مجدا وعزا وبهاء. والاية مترجمة وبنفس المفهوم في السبعينية " يا رب بمسرتك اعطيت جمالي قوة " فجمالنا راجع لثباتنا في المسيح.

 

الآيات (8-9):- "8إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَصْرُخُ، وإِلَى السَّيِّدِ أَتَضَرَّعُ 9مَا الْفَائِدَةُ مِنْ دَمِي إِذَا نَزَلْتُ إِلَى الْحُفْرَةِ؟ هَلْ يَحْمَدُكَ التُّرَابُ؟ هَلْ يُخْبِرُ بِحَقِّكَ؟"

إذ شعر داود بحالة فقدان السلام والقلق لم يكن أمامه سوى أن يصرخ إلى الله. هذا صراخ من كان قبل مجئ المسيح محكوما عليه بالموت ويتضرع لله ، وهو صراخنا الآن حتي يحفظنا الله ثابتين في المسيح فتكون لنا حياة .ونجد داود

في صراحة الحب يصرخ لله، ما المنفعة في هلاكي وفي أن تفقد يا رب أحد محبيك. هنا نجد عتاب الحب، فهو يستجدي بدالة مراحم الله ويطلب تحقيق مواعيده الإلهية.

 

آية (10):- "10اسْتَمِعْ يَا رَبُّ وَارْحَمْنِي. يَا رَبُّ، كُنْ مُعِينًا لِي."

جاءت في السبعينية بلغة (صيغة) الماضي. أي الله استجاب لتضرعاته.

 

آية (11):- "11حَوَّلْتَ نَوْحِي إِلَى رَقْصٍ لِي. حَلَلْتَ مِسْحِي وَمَنْطَقْتَنِي فَرَحًا،"

حول الله حزنه إلى فرح [1] حينما قبل توبته شخصياً [2] بفداء المسيح للبشرية كلها. لقد أبدل داود ثوب التوبة الذي يحيط بجسده مثل مسوح، بثوب عرس يتمنطق به. صارت له ثياب عيد ليشترك في احتفال بهيج ورقص روحي. فتغيير الملابس يكشف عن تغيير داخلي في نفس المرتل حيث استجيبت صلاته (لذلك في كنيستنا القبطية نرتل هذا المزمور أثناء ارتداء ملابس الخدمة البيضاء قبل صلاة القداس) والمسيح ارتدى جسدنا الخاطئ ليكون قابلاً للموت عنا ليعطينا أن نرتدي بهائه، ألبسنا المسيح، فهو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له (تسبحة يوم الجمعة).

 

آية (12):- "12لِكَيْ تَتَرَنَّمَ لَكَ رُوحِي وَلاَ تَسْكُتَ. يَا رَبُّ إِلهِي، إِلَى الأَبَدِ أَحْمَدُكَ."

التسبيح هو النتيجة الطبيعية لنعمة الله التي شملتنا.وهذه جاءت في السبعينية هكذا " لكي يرتل لك مجدي " ومجد داود ليس هو ملكه وتاجه .....الخ  بل هو الله قوته وخلاصه، وهذا قد عبر عنه داود في معظم مزاميره. ولخص بولس الرسول الخلاص في المسيحية في قوله   اننا في المسيح   والسيد المسيح طلب منا ان نثبت فيه  " اثبتوا في وانا فيكم"  فنحن في المسيح نموت بحياتنا القديمة التي اخذناها من آدم  ونحيا بحياة المسيح فينا حياة ابدية . فكل ما نعمله الان نعمله في المسيح ، وهذا تعلمناه من بولس الرسول الذي كان يحب الاخوة والكنيسة في المسيح ويسلم عليهم في المسبح (1كو 16 : 19،24). فاذا كان الله هو مجدنا ( زك 2 : 5) وهو مجد داود ، فتسبيح داود وتسبيحنا هو في المسيح مجدنا. وحين يقول داود يرتل لك مجدي= فهذا معناه انني في المسيح ثابتا وفي ثباتي هذا لي المجد. وفي ثباتي هذا وفي المسيح اسبح وارتل . ولنفهم ان كل سلام وكل محبة وكل تسبيح وكل مجد ليس في المسيح هو باطل. ويمكن فهمها أيضا فى ضوء قول المرنم " السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه " (مز 19) والمرنم جعل الجبال ترنم والأنهار تصفق (مز98) والمعنى أن الجبال بعظمتها وهكذا الأنهار والسموات والفلك بخلقتهم يشهدون بدون كلمة عن عظمة خالقهم وصانعهم. وهكذا حين يتمجد الإنسان فهو سيكون شهادة لعظمة عمل الله كأنها ترتيل.