الإصحاح الثامن والخمسون

 

الإصحاحات من (60 - 66) تكلمنا عن بناء مدينة الله الجديدة. وهذا الإصحاح وما بعده مدخل لها، موضوعه الابتعاد عن الشكليات في العبادة. وهنا في ص (58) يكلمهم عن الصوم، وأن المطلوب ليس المظاهر إنما فعل الرحمة والحق، وإذا عملوا هذا وحفظوا السبت تأتيهم البركات. حقاً هم بعد السبي تركوا عبادة الأوثان ولكنهم اتجهوا للمظهرية في العبادة مثل أصوامهم. يصومون دون تغيير في القلب ولما لم يستجب الله تبجحوا قائلين(لماذا صمنا ولم تنظر) آية (3).

 

آية (1):- "1«نَادِ بِصَوْتٍ عَال. لاَ تُمْسِكْ. اِرْفَعْ صَوْتَكَ كَبُوق وَأَخْبِرْ شَعْبِي بِتَعَدِّيهِمْ، وَبَيْتَ يَعْقُوبَ بِخَطَايَاهُمْ. "

على رجل الله أن ينبه شعبه بما يقوله الله. ولاَ يمْسِكْ = أي يقول ما يعجبه ويمنع مالا يستحسنه. وبِصَوْتٍ عَال = فيسمع الجميع حتى الغير المنتبهين وكَبُوق = والبوق يستعمل للإنذار والتحذير في الحروب ونحن في حرب دائمة مع عدو الخير. وفى العهد الجديد أرسل الله الروح القدس ليبكت على الخطية، فلا يموت الإنسان بسبب خطاياه دون أن يدرى. فالروح القدس يعمل على أن نعيش أنقياء والله يطلب تنقية القلب للكمال قبل الصوم المظهري.

 

آية (2):- "2وَإِيَّايَ يَطْلُبُونَ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَيُسَرُّونَ بِمَعْرِفَةِ طُرُقِي كَأُمَّةٍ عَمِلَتْ بِرًّا، وَلَمْ تَتْرُكْ قَضَاءَ إِلهِهَا. يَسْأَلُونَنِي عَنْ أَحْكَامِ الْبِرِّ. يُسَرُّونَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ. "

هم لهم مظاهر التقوى، يسألون عن طرق الرب وأحكام البر ولكنهم ينكرون قوتها، يعيشون في مظاهر فقط. هنا نرى الابتهاج بالمعرفة الروحية العقلانية دون اختبار.

 

الآيات (3-4):- "3يَقُولُونَ: لِمَاذَا صُمْنَا وَلَمْ تَنْظُرْ، ذَلَّلْنَا أَنْفُسَنَا وَلَمْ تُلاَحِظْ؟ هَا إِنَّكُمْ فِي يَوْمِ صَوْمِكُمْ تُوجِدُونَ مَسَرَّةً، وَبِكُلِّ أَشْغَالِكُمْ تُسَخِّرُونَ. 4هَا إِنَّكُمْ لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ تَصُومُونَ، وَلِتَضْرِبُوا بِلَكْمَةِ الشَّرِّ. لَسْتُمْ تَصُومُونَ كَمَا الْيَوْمَ لِتَسْمِيعِ صَوْتِكُمْ فِي الْعَلاَءِ.

من يصوم للمظاهر فقط لا يسمع له الرب. وهؤلاء صاموا للمسرة أي عاشوا في خطاياهم يتلذذون بها ويصنعون ما يسرهم لا ما يسر الله. امتنعوا عن العمل وسخروا لهم عبيداً ليعملوا العمل ولم يعطوهم راحة هم في إحتياج إليها بل كانوا في خصومة ونزاع. وَيضْرِبُوا أخوتهم  بِلَكْمَةِ الشَّرِّ وبالتالي لم يكن لهم صومهم  لِتَسْمِيعِ صَوْتِهمْ فِي الْعَلاَءِ = عمل الصوم أن يساعد على توصيل صوت صلواتنا للعلاء، ولكن إذا كانت قلوبنا مملوءة شراً فالله قطعاً لن يستجيب. والعكس لو صمنا وتذللنا وامتنعنا عن الشر واللذات يسمع الله صوتنا في العلاء ويستجيب. هذا مثل الميكروفون =هو يُسمع الصوت الضعيف = (اي صلواتنا الضعيفة)  الي مسافات بعيدة (= صلواتنا تصل للسماء) ولكن لنلاحظ انه لو صمنا ولم نصلى فلن يصل شئ الي السماء . فإذا لم يوجد من يتكلم في الميكروفون فما فائدته .

 

الآيات (5-6):- "5أَمِثْلُ هذَا يَكُونُ صَوْمٌ أَخْتَارُهُ؟ يَوْمًا يُذَلِّلُ الإِنْسَانُ فِيهِ نَفْسَهُ، يُحْنِي كَالأَسَلَةِ رَأْسَهُ، وَيْفْرُشُ تَحْتَهُ مِسْحًا وَرَمَادًا. هَلْ تُسَمِّي هذَا صَوْمًا وَيَوْمًا مَقْبُولاً لِلرَّبِّ؟ 6أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. "

الله لا يطلب من أحد أن يتظاهر بهذا فهو يعرف القلوب والنيات. وما يطلبه الله فعلا حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ = أي القيود التي قيد بها الشرير نفسه للخطايا . أي المطلوب إذاً تقديم توبة. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ = أي ترك مطالبة الدين ورد الرهن أي الرحمة بالآخرين. الأَسَلَةِ = نبات مائي يميل مع الهواء والتيار.

 

آية (7):- "7أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ. "

الصدقة مقترنة بالصوم. أَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ = أقربائك وكلنا جسد المسيح.

 

آية (8):- "8«حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ الصُّبْحِ نُورُكَ، وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا، وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ، وَمَجْدُ الرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ. "

النُورُ كناية عن الفرح والنجاح والمجد والبركة وهذا سيعلنه الرب أمام من يرحم ويصوم بنقاوة قلب. ويكون الرب وراء شعبه بقوته = يَجْمَعُ سَاقَتَكَ هنا نرى الله قائداً للمسيرة يسير أمامها ويحمى مؤخرتها أي الضعفاء والعاجزين الذين فيهم. مع الله نشعر بالأمان. وإتحادنا بالله إذا صمنا صوماً مقبولاً هو إظهار لنور الله الذي فينا.

 

الآيات (9-10):- "9حِينَئِذٍ تَدْعُو فَيُجِيبُ الرَّبُّ. تَسْتَغِيثُ فَيَقُولُ: هأَنَذَا. إِنْ نَزَعْتَ مِنْ وَسَطِكَ النِّيرَ وَالإِيمَاءَ بِالأصْبُعِ وَكَلاَمَ الإِثْمِ 10وَأَنْفَقْتَ نَفْسَكَ لِلْجَائِعِ، وَأَشْبَعْتَ النَّفْسَ الذَّلِيلَةَ، يُشْرِقُ فِي الظُّلْمَةِ نُورُكَ، وَيَكُونُ ظَلاَمُكَ الدَّامِسُ مِثْلَ الظُّهْرِ. "

الإِيمَاءَ بِالأصْبُعِ = إشارة معناها الاحتقار، فلو نزع المؤمن كبرياؤه ونزع كَلاَمَ الإِثْمِ أي المؤامرات الشريرة. وأنفق ماله بل نفسه، أي يتعب من اجل الجائع حينئذ يشرق نور هذا الإنسان ويكون الرب نوراً له وهو نور للآخرين أي يحدث له تغييراً كلياً.

 

الآيات (11-12):- "11وَيَقُودُكَ الرَّبُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَيُشْبعُ فِي الْجَدُوبِ نَفْسَكَ، وَيُنَشِّطُ عِظَامَكَ فَتَصِيرُ كَجَنَّةٍ رَيَّا وَكَنَبْعِ مِيَاهٍ لاَ تَنْقَطِعُ مِيَاهُهُ. 12وَمِنْكَ تُبْنَى الْخِرَبُ الْقَدِيمَةُ. تُقِيمُ أَسَاسَاتِ دَوْرٍ فَدَوْرٍ، فَيُسَمُّونَكَ: مُرَمِّمَ الثُّغْرَةِ، مُرْجعَ الْمَسَالِكِ لِلسُّكْنَى. "

يَقُودُكَ الرَّبُّ = هذه أعظم البركات فمن يقوده الرب لا يعثر. فِي الْجَدُوبِ = أي القفار إشارة إلى أوقات اليأس والضيق. وهذا الإنسان المملوء من الروح القدس (نبع المياه) سيفيض على الآخرين، ومن هو خرب سيبنيه، أي يكون شريكاً لله في بناء حياة الآخرين المنهدمة = مِنْكَ تُبْنَى الْخِرَبُ = كما تم بناء الهيكل والسور بعد السبي وكذلك تم بناء أورشليم. يُنَشِّطُ عِظَامَكَ = يملأك فرحاً قادراً أن يقيمك كما لو كانت عظامك قوية تحملك بقوة ونشاط. مُرَمِّمَ الثُّغْرَةِ = الثغرة هي التي يخرج منها الفضيلة فيدخل منها قضاء الله، مثال الشهوات.

 

الآيات (13-14):- "13«إِنْ رَدَدْتَ عَنِ السَّبْتِ رِجْلَكَ، عَنْ عَمَلِ مَسَرَّتِكَ يَوْمَ قُدْسِي، وَدَعَوْتَ السَّبْتَ لَذَّةً، وَمُقَدَّسَ الرَّبِّ مُكَرَّمًا، وَأَكْرَمْتَهُ عَنْ عَمَلِ طُرُقِكَ وَعَنْ إِيجَادِ مَسَرَّتِكَ وَالتَّكَلُّمِ بِكَلاَمِكَ، 14فَإِنَّكَ حِينَئِذٍ تَتَلَذَّذُ بِالرَّبِّ، وَأُرَكِّبُكَ عَلَى مُرْتَفَعَاتِ الأَرْضِ، وَأُطْعِمُكَ مِيرَاثَ يَعْقُوبَ أَبِيكَ، لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ»."

في هذه الآيات يكلمنا عن حفظ السبت بالمفهوم الروحي بعد أن كلمنا عن الصوم بالمفهوم الروحي. إِنْ رَدَدْتَ عَنِ السَّبْتِ رِجْلَكَ = أي لا تدوسه برجلك وتعمل فيه ما يلذ لك. والمعنى أن السبت هو نصيب الرب فلا يجب أن نعطيه لآخر= "أعط ما لله لله" وَأَكْرَمْتَهُ عَنْ عَمَلِ طُرُقِكَ = ليس فقط أن نمتنع في السبت عن اللذات بل عن أي عمل نجد فيه مكسب مادي لنا. ومن ينفذ هذا سيجد في النهاية لذة = وَيرَكِّبُه الله عَلَى مُرْتَفَعَاتِ الأَرْضِ = يركبه كملك ظافر على ما كان يشتهيه من قبل ويعتبره من مرتفعات الأرض، فحين نعرف الرب نعتبر العالم بكل ما فيه كأنه نفاية (في 3 :8) ومن وصل لهذا سيرث السماء أيضاً وهى ميراث يعقوب. أُطْعِمُكَ مِيرَاثَ يَعْقُوبَ = أعطيك كل بركات العهد مع يعقوب وخيرات كنعان.