الأصحاح العشرون

إقامة أفتيخوس في تراوس
وخطاب وداعي في ميليتس

كانت الضيقات في رفقة الرسول بولس، وكانت نعمة الله لا تفارقه، وكأنهما أختان ملازمتان له أينما حل. ففي  الأصحاح السابق رأينا في أفسس أحرق السحرة كتب السحر، وأثار ديمتريوس الصائغ شغبًا لمحاكمة الرسول. وفي هذا  الأصحاح يتمجد الله فيه حيث سقط الشاب أفتيخوس من الطاقة وحُمل ميتًا، لكن الرب أقامة على يدي رسوله. وفي ميليتس ألقى الرسول خطابًا وداعيًا لقسوس الكنيسة كشف عن مفهوم الرسول بولس العملي عن الرعاية.

1. مكيدة في هيلاس باليونان 1-3.

2. ذهابه إلى تراوس 4-6.

3. أقامة أفتيخوس الشاب 7-11.

4. ذهابه إلى ميليتس 13-16.

4. خطابه الوداعي 17-35.

5. وداع حار مؤثر 36-38.

1. مكيدة في هيلاس باليونان

في تعليقه على هذا  الأصحاح يقول متى هنري: [أسفار بولس التي قدمت هكذا في اختصار، لو سجلت كلها لكانت جديرة بالذكر وبارزة تستحق كتابتها بحروف من ذهب، ما كان يمكن للعالم أن يحوي الكتب التي كانت تُكتب، لهذا فما لدينا هو لمحات عامة عن الأحداث، وهي ثمينة لغاية...]

"وبعدما انتهى الشغب دعى بولس التلاميذ وودّعهم،

وخرج ليذهب إلى مكدونية". [1]

المُعتقد أن القديس لوقا تغاضى عن ذكر زيارة ثانية لكورنثوس لأنها كانت قصيرة جدًا، وكانت عبورًا سريعًا، خصوصًا إن القديس لوقا كان غائبًا لمدة ثلاث سنوات أثناء وجود بولس في أفسس. والآن يقوم الرسول بولس بزيارة ثالثة لكورنثوس كما جاء في 2 كو 12: 14؛ 13: 1-2.

كتب لكورنثوس لثالث مرة، ولم تسجل الرسالة السابقة للرسالة الأولى (1 كو 5: 9، 11) لأنها كانت قصيرة للغاية، ولأنه كان فحواها ألا يخالط المؤمنون الاخوة الزناة. ويبدو أن أهل كورنثوس ظنوا عدم مخالطة كل الأشرار، وبهذا يحجمون عن التعامل مع أهل العالم تمامًا، لهذا جاءت الرسالة التي نعتبرها الأولى تؤكد "ليس مطلقا زناة هذا العالم... وإلا فيلزمكم أن تخرجوا من العالم، وأما الآن فكتبت إليكم إن كان أحد مدعوًا أخًا زانيًا أو طماعًا أو عابد وثنٍ أو شتامًا أو سكيرًا أو خاطفًا أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا" (1 كو 5: 10-11). بهذا ما ورد في الرسالة الأولى بين أيدينا هو توضيح ما ورد في الرسالة السابقة لها المفقودة.

هكذا في مكدونية كتب الرسالة الثالثة لأهل كورنثوس والتي نحسبها الثانية وذلك في خريف 57م. وفي شتاء 58 كتب رسالته إلى أهل رومية.

غادر بولس الرسول أفسس بعد يوم الخمسين، أي في ربيع سنة 57م متجها إلى الشمال. "وودعهم (في أفسس) وخرج ليذهب إلى مكدونية (برا)، ولما كان قد اجتاز في تلك النواحي ووعظهم بكلام كثير جاء إلى هلاس فصرف ثلاث أشهر" [1-3].

هنا قدم لنا القديس لوقا وصفًا مختصرًا للغاية، جاءت رسائل القديس بولس تكشف عن تفاصيل دقيقة لم ترد في سفر الأعمال، منها أنه إذ ترك أفسس انطلق الرسول إلى الشمال متنقلاً من مدينة إلى مدينة، ومن جزيرة إلى جزيرة حتى جاء إلى ترواس. غالبًا ما كان في رفقته اثنان من أفسس هما تيخكس وتروفيموس، رافقاه في الذهاب والعودة ومعهما إخوة آخرون.

إذ هدأ الشغب الذي أثاره ديمتريوس وصائغي الفضة (أع 19 :40-41) حسب إن ما حدث هو إشارة من قبل نعمة الله أن يتحرك للخدمة في موضع آخر. خروجه من أفسس يهدئ من ثورة مقاوميه، ويعطى الكنيسة هناك جوًا من السلام.

يرى البعض أنه كتب رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس قبل خروجه حيث جاء فيها: "حاربت وحوشًا في أفسس"، مشيرًا بهذا إلى الشغب الذي حدث. وإن كان البعض يرى أنه بالفعل أُلقي في وسط وحوش جائعة والرب أنقذه.

لم يترك أفسس فجأة كمن هو خائف، بل في هدوءٍ دعاهم وودعهم بقبلة الحب كما كانت العادة في الكنيسة الأولى.

انطلق إلى الكنائس اليونانية التي قام بإنشائها لكي يسقي ما قد سبق فغرسه، مبتدأ بالكنيسة في كورنثوس كما كانت نيته قبل حدوث الشغب (أع 19: 21).

سجل لنا الرسول بولس تركه أفسس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس. عندما وصل إلى ترواس وجد فرصة عظيمة للكرازة بالإنجيل، لكنه كان مغتمًا بالاضطرابات والانشقاقات التي كانت في كورنثوس، وكان الرسول قد بعث بتيطس إلى كورنثوس ليعالج هذه المشاكل الخطيرة بين المؤمنين هناك، وكان يتوقع اللقاء معه في ترواس. لم يستطع أن يصل إلى ترواس فتثقل قلب الرسول بولس وترك ترواس واتجه إلى مكدونية ليلتقي بمعينه (2 كو 12- 13). أخيرا جاء تيطس من كورنثوس يحمل أخبار طيبة عن تحسن الأحوال في الكنيسة (كو 7: 5-16). عندئذ كتب الرسول رسالته الثانية وبعث بها مع تيطس وأخ آخر (2 كو 8: 17-19) وذلك قبل ذهابه إلى كورنثوس.

"ولمّا كان قد اجتاز في تلك النواحي،

ووعظهم بكلامٍ كثيرٍ جاء إلى هلاس". [2]

من هناك قام بزيارة فيلبي وتسالونيكي، وكان يهتم بوعظهم والكرازة بينهم دون أن يقيد نفسه بزمنٍ معينٍ.

لم يسجل لنا القديس لوقا أنشطة الرسول بولس في هذه المناطق مكتفيًا بالعبارة التي بين أيدينا، وقد بقي ثلاثة شهور يفتقد الكنائس ويكرز في اليونان أو أخائية. هناك كتب رسالته إلى أهل رومية، فيها يعلن لهم عن رغبته في الذهاب إلى أورشليم، ومن هناك يذهب إلى روما (رو 15: 22- 29). ولعل الرسول لم يكن يعلم أنه سينطلق من أورشليم إلى روما أسيرًا من أجل الرب.

لم يذكر لوقا البشير غاية ذهاب الرسول إلى أورشليم، وهو أن يقدم ما جمعه بسخاء من مكدونية وآخائية لمساعدة فقراء أورشليم (رو15: 25- 27؛ 2 كو 8: 1-9).

"اجتاز في تلك النواحي" في مكدونية وما حولها. ربما ذهب إلى مكدونية خلال ترواس حيث توقع وجود تيطس (2 كو 2: 12)، وإذ لم يجده ذهب إلى فيلبي وتسالونيكي الخ. ثم عاد إلى اليونان.

v     لاحظوا كيف أنه في كل موضع يحقق كل وسائل الكرازة بدون معجزات[792].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فصرف ثلاثة أشهر،

ثم إذ حصلت مكيدة من اليهود عليه،

وهو مزمع أن يصعد إلى سورية،

صار رأي أن يرجع على طريق مكدونية". [3]

لم يسجل لنا القديس لوقا ما هي هذه المكيدة التي وضعت ضد بولس. يرى البعض أنها كانت هجومًا على السفينة أو القبض عليه داخل السفينة، لهذا قرر السفر برًا، وكان ذلك في صالح كنائس مكدونية حيث تمتعت بزيارة أخرى للرسول.

"مزمع أن يصعد إلى سوريا" في إنطاكية وذلك في طريقه إلى أورشليم.

2. ذهابه إلى تراوس

"فرافقه إلى آسيا سوباترس البيري،

ومن أهل تسالونيكي أرسترخس وسكوندس وغايوس الدربي وتيموثاوس،

ومن أهل آسيا تيخيكس وتروفيمس". [4]

أورد أسماء العاملين في كرم الرب المرافقين له في رحلته، غالبًا ما كانوا من تلاميذه.

سوباترس البيري: غالبًا ما يكون هو سوسباتير الوارد في رو 16: 21، الذي دعاه نسيبه.

تيموثاوس: كان من بين مرافقيه، مع أنه تركه في أفسس حين تركها الرسول، وبعد ذلك كتب له رسالته الأولى لتوجيهه للعمل ليس في أفسس فقط، بل وفي مناطق أخرى. بعد ذلك جاءه تيموثاوس ورافقه.

تروفيموس: من أفسس (أع20: 29). عندما كتب الرسول رسالته الثانية إلى تيموثاوس كان في مريضًا (2 تي 4: 20).

تيخيكس: موضع ثقة الرسول بولس ومحبته الشديدة دعاه في رسالته إلى أهل أفسس الأخ المحبوب والخادم الأمين في الرب (أف 6: 21-22).

لماذا كان يسير القديس بولس وفي رفقته كثير من تلاميذه العاملين في الكرم؟

1.       كان يقوم هو بالكرازة بالكلمة، وإذ يقبل أحد الإيمان يسلمه لأحد التلاميذ لكي يهتم بتعليمه وتدريبه على الحياة الإيمانية المقدسة.

2.       حيثما حلّ الرسول للخدمة كان عدو الخير يثير متاعب كثيرة في الداخل ومن الخارج. لهذا كثيرًا ما يحتاج الأمر إلى هؤلاء الخدام للعمل الداخلي، حتى لا ترتبك الكنيسة بالثورات ضد الرسول بولس.

3.       كانوا يرافقوه كتلاميذ يتدربون على يديه على الكرازة، ويتهيأوا للخدمة بذات المنهج.

4.       يرى البعض أنه إذ كان ضعيفًا في الجسد بسبب مرضٍ أو آخر، فقد كان تلاميذه سندًا له أثناء أسفاره الكثيرة.

"هؤلاء سبقوا وانتظرونا في ترواس". [5]

سبقه أصدقاؤه ليلتقوا معه في ترواس، ويرافقه بعضهم، مثل تروفيموس، كل الرحلة حتى أورشليم (أع 21: 19).

هنا يعود القديس لوقا فيقول "نحن"، وقد استمر هكذا حتى أع 20: 15 ليبدأ من جديد في أع 21: 1، مما يدل على أن الكاتب بقي في فيلبي في رحلة بولس الرسول الثانية التبشيرية (أع 16: 16)، وها هو يلتحق بالقديس بولس في فيلبي في بيت ليدية ويبقى معه حتى يبلغ أورشليم.

بقية مجموعة الأصدقاء سبقوا الرسول حتى ترواس. بقى الرسول في فيلبي يحفظ أسبوع الفطير، وبعد ذلك أبحر مع لوقا البشير إلى ترواس ليلتقيا مع الأصدقاء، وإن كان البعض يرون أنه يذكر هنا التوقيت لكن ليس بالضرورة قام بحفظ العيد.

يرى البعض أن الذين سبقوا هم تيخيكوس وتروفيموس وحدهما.

"وأمّا نحن فسافرنا في البحر بعد أيام الفطير من فيلبي،

ووافيْناهم في خمسة أيام إلى ترواس،

حيث صرفنا سبعة أيام". [6]

لقد عبروا بحر الأيجيني، وقد أخذت هذه الرحلة قبلاً يومين فقط (أع 16: 11-12)، فالسفر بالبحر غير مضمون لهذا قضى هنا خمسة أيام، لأن الريح ربما كانت غير مواتية.

ما كان يشغل ذهن الرسول بولس في أيام الفطير أن السيد المسيح هو فصحنا الذي ذُبح لأجلنا، والحياة المسيحية هي عيد الفطير الجديد (1 كو 5: 7-8)، فقد جاء الحق ليحل محل الظل.

في ترواس: نقطة الانطلاق الأولى من آسيا إلى أوربا، حيث ظهر للرسول بولس رجل مكدوني في رؤيا يتوسل إليه: "أعبر إلينا وأعنا" (أع 16: 9) وذلك في رحلته التبشيرية الثانية.

لم يتوقف الرسول كثيرًا في هذه المدينة في الرحلة الثانية، لكنه صمم في هذه الرحلة الثالثة أن يمكث فيها زمانًا ليؤسس خدمة ثابتة للمسيح وللإنجيل. "ولكن لما جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح، وانفتح لي باب في الرب، لم تكن لي راحة في روحي، لأني لم أجد تيطس أخي، لكن ودعتهم، فخرجت إلى مكدونية " (2 كو 2: 12، 13).

3. أقامة أفتيخوس الشاب

"وفي أول الأسبوع إذ كان التلاميذ مجتمعين ليكسروا خبزًا،

خاطبهم بولس وهو مزمع أن يمضي في الغد،

وأطال الكلام إلى نصف الليل". [7]

إذ كان الرسول مزمعًا أن يغادر المدينة في اليوم التالي بقي يعد للاحتفال بسرّ الإفخارستيا (كسر الخبز) يتحدث معهم إلى ساعات طويلة حتى منتصف الليل من فجر الأحد.

كانت الكنيسة الأولى تقدس يوم الرب "الأحد" (1 كو 16: 2؛ رؤ 1: 10). هنا إشارة صريحة لتقديس يوم الأحد كيوم الرب في عصر الرسل، فيه تتم خدمة الكلمة والعبادة الجماعية بالاحتفال بسرّ الإفخارستيا. هذا ربما بجانب مشاركة بعض المسيحيين الذين من أصل يهودي اخوتهم اليهود العبادة يوم السبت في الهيكل في أورشليم بكونه الرمز ليوم الرب، حيث تذكار قيامة السيد المسيح وحلول الروح القدس على التلاميذ.

استمرت العظة حتى منتصف الليل، وذلك لأن الرسول كان يستعد للسفر، وكان الكل مشتاقًا إلى كلمة الله. وكأن كلمات الوداع للرسول هي تقديم كلمة الله كمصدر خلاص وتعزية له ولهم.

لا تفصل الكنيسة بين العبادة والاستماع إلى الكلمة، سواء خلال القراءات الروحية أو كلمة الوعظ. فالقراءات وكلمة الوعظ هي جزء لا يتجزأ من العبادة، وغاية العبادة التمتع بكلمة الله، واستنارة الذهن والقلب ليتقبل المؤمن أسرار الكلمة ويعيشها.

يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم وصفًا رائعًا للموقف كيف كان البيت مملوءً بالمصابيح، وقد وقف الرسول بولس في المنتصف، بينما امتلأ الموضع حتى جلس البعض في الطاقات. وأنه كان يحدثهم إلى منتصف الليل والكل ينصت باشتياق إليه. أما علة سهره هكذا فإنه كان يعلم أنهم لا يعودوا يرونه بعد، وأنه لم يقل هذا لهم بسبب ضعفهم حتى لا يخور. أما هذا الشاب فهو يوبخنا، لأنه كان يقاوم الطبيعة وهو يبذل كل الجهد باشتياق للاستماع للرسول بولس حتى منتصف الليل[793].

"وكانت مصابيح كثيرة في العُليّة التي كانوا مجتمعين فيها". [8]

كانوا يجتمعون في العلية لسماع كلمة الوعظ والتمتع بسر الإفخارستيا، أما تأكيد "كانت مصابيح الكثيرة"، فليس بدون معنى، لأن الكنيسة منذ عصر الرسل كانت تهتم بالأنوار، لأنها تدعو للحياة في النور.

"وكان شاب اسمه أفتيخوس جالسًا في الطاقة متثقلاً بنوم عميق،

وإذ كان بولس يخاطب خطابًا طويلاً غلب عليه النوم،

فسقط من الطبقة الثالثة إلى أسفل وحُمل ميتًا". [9]

 افتيخوس، معناها "سعيد الحظ". يلومه بعض الدارسين أنه كان جالسًا في الطاقة، فلو أنه كان جالسًا أرضًا لما سقط، وكان قد بقي في أمان. لكن ربما كان له عذره في هذا فقد ازدحمت العلية بالحاضرين، ولم يكن يوجد موضع له ان يجلس أرضًا. أما تثقله بالنوم العميق فلا يعني عدم مبالاته بما يقوله الرسول، لكنه تثقل بضعف الطبيعة البشرية، فكان يقاوم فغفل في لحظات في نوم عميق.

لعل عدو الخير أراد أن يسبب اضطرابًا بسقوط هذا الشاب ميتًا، لكن الله بعنايته الفائقة حول الأمر لمجده وبنيان الكنيسة.

v     الأمر المدهش أنه وهو شاب لم يكن متوانٍ ولا غير مبالٍ، ومع أنه شعر بأنه مثقل بالنوم لم يترك الموضع، ولا خشي أن يسقط. لقد نعس ليس عن توانٍ، إنما بسبب ضرورة الطبيعة. أسألكم أن تلاحظوا كيف كانوا ملتهبين بالغيرة حتى اجتمعوا في الدور الثالث إذ لم يكن لهم كنيسة بعد[794].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 "فنزل بولس ووقع عليه،

واعتنقه قائلاً:

لا تضطربوا لأن نفسه فيه". [10]

 "وقع عليه"، ربما تمدد عليه كما فعل أليشع مع ابن الشونمية (2 مل 4: 33- 35)، وهي علامة حنو شديد ورغبة حارة في إعادته للحياة.

v     يقول: "لا تضطربوا". لم يقل: "إنه سيقوم إلى الحياة لأني سأقيمه"، بل لاحظوا تواضعه وهو يريحهم، قائلاً: "لأن نفسه فيه"[795].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"ثم صعد وكسر خبزًا وأكل،

وتكلّم كثيرًا إلى الفجر،

وهكذا خرج". [11]

صعد بولس إلى العلية، وقدم له طعامًا، وليس الإفخارستيا، ثم عاد الرسل ليكمل أحاديثه، ربما تحول الموقف من مجموعة عظات يقدمها الرسل إلى حوارٍ مشترك. بلا شك أن إقامة الشاب قد خلقت جوًا أعظم من الود، وفرصة لأحاديث وأسئلة حول الحياة الإيمانية الحية.

"وأتوا بالفتى حيًّا،

وتعزّوا تعزية ليست بقليلة". [12]

بعد انقضاء هذه السهرة الممتعة حتى الفجر جاء كل من الحاضرين يهنئون الشاب على إقامته من الموت. هذا وقد تثبت إيمان الكثيرين بسبب هذه المعجزة.

4. ذهابه إلى ميليتس

"وأمّا نحن فسبقنا إلى السفينة،

وأقلعنا إلى آسوس،

مزمعين أن نأخذ بولس من هناك،

لأنه كان قد رتّب هكذا مزمعًا أن يمشي". [13]

"آسوس": كانت توجد بلاد كثيرة تحمل هذا الاسم، مدينة في ليسيا، وأخري في إقليم أيولس، وثالثة في ميسيا، ورابعة في ليديا، وخامسة في ابريس هنا غالبًا ما يقصد المدينة الأخيرة، وهي ما بين ترواس وميتليني. تبعد 20 ميلاً برًا من ترواس بينما إن أخذت بحرًا فتكون المسافة مضاعفة، لذلك فضّل الرسول أن يذهب إليها على الأقدام. كثيرًا ما كان الرسول يفضل السفر على الأقدام إن أمكن ذلك.

يبرر البعض ذهابه مشيًا مع ترك رفاقه أن يذهبوا بحرًا، أنه مع محبته العظيمة لأصدقائه، لكنه بين الحين والآخر يفضل السير وحده ليختلي مع الله. آخرون يرون أنه في محبته لرفاقه كان يختار لهم الطريق السهل المريح، بينما يختار لنفسه الطريق الشاق، ليمارس نوعًا من الإماتة وبذل الذات، مخضعًا جسده للآلام كشركة مع آلام السيد المسيح.

تحت إلحاح المسئولين في ترواس آثر بولس الرسول أن يمكث معهم بضع ساعات زيادة عن إن تنتظره المركب في آسوس. لهذا تخلف عن السفينة، وأخذ طريق البر إلى آسوس. وهناك التقى مع الذين سافروا بحرًا إلى اسوس، وذهب معهم جنوبًا تجاه جزيرة لسبوس ومدينتها ميتليني توقفوا في ميناء الجزيرة، ثم ساروا بأرجلهم حتى وصلوا إلى ميتليني، ثم عادوا وأبحروا من ميتليني في سفينة أخرى.

ظن بعض الدارسين في الرسول بولس أنه لم يكن دقيقًا في حساباته، إذ قيل: "كان يسرع حتى إذا أمكنه يكون في أورشليم في يوم الخمسين". لكن البعض يرى أنه كان في غاية الدقة في حساباته، وأنه نجح في تحقيق وعده، حيث بدأ رحلته من فيلبي بعد أيام الفطير ليبلغ إلى أورشليم في يوم الخمسين. فالمدة كلها من الفصح إلى يوم الخمسين هي 49 يومًا قضاها هكذا:

v     أيام الفطير السبعة بعد عيد الفصح، قضاها في فيلبي (أع 20: 6).

v     خمسة أيام استغرقتها الرحلة إلى ترواس، لأن الريح كانت مواتية (أع 20: 6).

v     سبعة أيام في ترواس (أع 20-6).

v     أربعة أيام في جزيرة خيوس Chios إلي ميليتس Miletus (أع 20: 13-15).

v     يومان في ميليتس في وداع مع قسوس كنائس أفسس (أع 20: 17).

v     ثلاثة أيام استغرقتها الرحلة إلى باترا Patra مارا بكوس Cos ورودس Rhodes (أع 21: 1).

v     يومان من باترا إلى صور (أع 21: 203).

v     ستة أيام بقي في صور (أع 21: 4).

v     يومان من بتولمايس إلى قيصرية (أع 21: 7-8).

مجموع هذه الأيام 37 يومًا، يتبقى 12 يومًا كاحتياطي للتحركات حيث كانت المواصلات في ذلك الحين لا يُمكن ضبط مواعيدها.

v     غالبًا ما نجد بولس منفصلاً عن تلاميذه. فقد رتب هكذا مزمعًا أن يمشي، تاركًا تلاميذه يسلكون الطريق الأسهل، ويختار لنفسه الطريق الشاق. سار ماشيًا لكي يدبر أمورًا كثيرة، وفي نفس الوقت ليعطي تلاميذه فرصته للتدرب على احتمال انفصالهم عنه[796].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فلما وافانا إلى آسوس أخذناه،

وأتينا إلى ميتيليني". [14]

ميتيليني: عاصمة جزيرة ليسبوس تتميز بجمال موقعها ومبانيها الشاهقة الفخمة. جزيرة لسبوس من أكبر الجزائر التي في بحر ايجيني، والسابعة بين جزائر البحر المتوسط ويبلغ محيطها 168 ميلاً. اسم المدينة حاليا كاسترو.

"ثم سافرنا من هناك في البحر،

وأقبلنا في الغد إلى مقابل خيوس،

وفي اليوم الآخر وصلنا إلى ساموس،

وأقمنا في تروجيليون،

ثم في اليوم التالي جئنا إلى ميليتس". [15]

خيوس: تدعى أيضا كوس، وهي جزيرة بين مجموعة جزر، بين ليسبوس وساموس، على ساحل آسيا الصغرى، تُدعى حاليًا سكوي. عُرفت إلى وقت طويل بالمذبحة الرهيبة التي ارتكبها الأتراك عام 1823 حيث قتل غالبًا كل سكانها.

ساموس: هي أيضا جزيرة بين مجموعة جزر، تقع على ساحل ليديا، وقد عرفت هذه الجزائر قديمًا بالخمور بطريقة فائقة.

تروجيليون: اسم مدينة ونتوء في أيونيا بآسيا الصغرى، بين أفسس وفم نهر ميندر، مقابل ساموس.

مليتس: تدعى أيضا ميلتيرن وهي مدينة وميناء بحرى، عاصمة ايونيا القديمة. في الأصل تتكون من كولونية الكريتيين. صارت قوية للغاية، وكانت تبعث كولونية لعدد كبير من المدن على بحر ايوكسين تميزت بمعبدها الضخم للإله أبوللو. يدعوها الأتراك حاليا ميلاس. وهي مسقط رأس تاليس أحد حكماء اليونان السبعة، تبعد ما بين 40 و50 ميلاً من أفسس.

"لأن بولس عزم أن يتجاوز أفسس في البحر،

لئلاّ يعرض له أن يصرف وقتًا في آسيا،

لأنه كان يسرع حتى إذا أمكنه يكون في أورشليم في يوم الخمسين". [16]

اجتياز أفسس، لأنه لو ذهب إليها لتأخر في رحلته، فلا يقدر أن يصل إلى أورشليم في يوم الخمسين. من الصعب أن يقاوم إلحاح أحبائه في أفسس ان يبقى معهم، لهذا تجاوز المدينة.

v     لماذا هذه السرعة؟ ليس من أجل العيد، وإنما من أجل الجموع. وفي نفس الوقت بتصرفه هذا استمال اليهود كشخصٍ يكرم الأعياد، راغبًا في كسب حتى المقاومين له، وفي نفس الوقت يقدم الكلمة[797].

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. خطابه الوداعي

"ومن ميليتس أرسل إلى أفسس واستدعى قسوس الكنيسة". [17]

 استدعى الرسول بولس وجهاء اليهود بروما ليوضح لهم الموقف أنه لم يأت إلى روما ليشتكي أمته أو رؤساء الكهنة أو مجمع السنهدرين (أع 28: 17-19)، حتى لا يظنوا فيه أنه خائن لبلده أو دينه. واستدعى قسوس كنائس أفسس، وقد قطعوا رحلة لا تقل عن 20 ميلاً ليذكرهم برسالتهم الرعوية: "لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أع 20: 28)، مقدمًا نفسه مثلاً عمليًا في الرعاية.

v  طبق كلمة "أساقفة" على الكهنة (القسوس)، فقد كانوا في ذلك الوقت يستخدمون كلا الاسمين... وواضح انه استخدم هذا الافتراض هنا أيضًا (في 1: 1)، إذ يضم الشمامسة إلى الأساقفة دون إشارة إلى القسوس. علاوة على هذا فإنه ليس من المحتمل وجود أساقفة كثيرين على مدينة واحدة، لهذا فمن الواضح أنه يدعو هنا القسوس أساقفة. وفي نفس الرسالة يدعو الطوباوي أبفرودتس " رسولكم" (في 2: 25)... بهذا يشير بوضوح انه قد أودع إليه العمل الرسولي إذ أخذ اسم "رسول"[798].

الأب ثيؤدورت أسقف كورش

"فلما جاءوا إليه قال لهم:

أنتم تعلمون من أول يوم دخلت آسيا،

كيف كنت معكم كل الزمان". [18]

جاء حديثه يحمل روح الأبوة الحانية، يكشف لهم عن حياته وتعاليمه. يذكرهم بكيفية سلوكه حين كان في وسطهم. فقد عاش بينهم لمدة ثلاث سنوات (أع 20: 30)، وحتمًا لمسوا فيه حياته التي كرسها للإنجيل، وإيمانه الحي وإخلاصه في محبته لله ولهم. ليس من شهادة عن قدسية حياتهم سوى احتكاكهم معه عمليًا، واحتكاك البلاد القريبة منهم (في آسيا) معه.

"كل الزمان"، لم يسلك في وقتٍ ما بطريقة، ووقت آخر بطريقة أخرى، إنما كل زمان حياته تشع ببهاء عمل الله فيه.

"اخدم الرب بكل تواضع ودموع كثيرة،

وبتجارب أصابتني بمكايد اليهود". [19]

 يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول في خطابه هذا لقسوس الكنيسة يستعرض أمرين هامين: الحب والثبات أو الجلدْ. وأن ما قدمه لم يكن بروح الافتخار، وإنما لكي يعلم الكهنة أن يتمثلوا به في خدمته[799].

 أسلوبه في الخدمة أنه يخدم الرب لا الناس، ما يشغله هو مجد الله وبنيان كنيسته وتأسيس ملكوته في قلب كل إنسان. لا يداهن ولا يجامل على حساب خلاص النفوس، وفي نفس الوقت لا يخدم في اعتدادٍ بنفسه، بل يخدم "بكل تواضعٍ ودموعٍ كثيرةٍ وبتجاربٍ". إنه يشارك سيده تواضعه واحتماله التجارب والآلام من أجل محبته للبشرية.

كثيرًا ما يشير الرسول إلى حنو قلبه الذي يعبر عنه بغزارة دموعه من أجل الكثيرين (في 3: 18).

أينما وًجد كان كثير من اليهود يخططون بمكائد لقتله بوسيلة أو أخرى. وقد جاء سفر الأعمال يقدم أمثلة لمقاومة اليهود له، ومحاولة قتله مرات ومرات.

"كيف لم أؤخر شيئًا من الفوائد إلا وأخبرتكم،

وعلمتكم به جهرًا،

وفي كل بيت". [20]

لم يكف عن أن يقدم كل ما فيه نفع لهم، فهو مخلص في محبته وسعيه لسعادتهم في الرب، والتمتع بالمجد الداخلي. لم يخدم عن تعصبٍ، ولا عن زيادة عدد، ولا لافتخارٍ بالنجاح، وإنما في أبوة يطلب ما هو لبنيان بنيه. هذا هو غاية الإنجيل، فالكتاب كله نافع (2 تي 3: 16).

"أخبرتكم"، جاءت الكلمة اليونانية لتعني إعلانها في اجتماعات عامة أو بطريقة علنية، فما يكرز به في الاجتماعات يعلنه في كل بيت.

 في زيارته لكل بيت ليس له غاية سوى نشر كلمة الله. العجيب أنه كان وهو رسول الأمم على مستوى العالم، يتنقل من دولة إلى دولة، ومن مدينة إلى مدينة، فإنه أينما أتيحت له الفرصة يفتقد البيوت، لا للمجاملات ولا للأحاديث عن أخبار العالم أو حتى أخبار الكنيسة إداريًا، بل نشر كلمة الخلاص. بهذا استطاع القول: "إني برئ من دم الجميع" [26].

"شاهدًا لليهود واليونانيين بالتوبة إلى اللَّه،

والإيمان الذي بربنا يسوع المسيح". [21]

 أمران يشغلان فكر الرسول بولس وقلبه، وهما التوبة والإيمان. فيشهد بإيمانه بالسيد المسيح أمام كل يهودي أو أممي (يوناني)، أي أمام كل البشرية، أما عن التوبة فهي العودة "إلى الله" لأن الخطية في الواقع موجهة ضد الله القدوس الذي بلا خطية فتسحب الإنسان من الحضرة الإلهية، وتحرمه من القادر وحده على مغفرة الخطايا.

"والآن ها أنا أذهب إلى أورشليم مقيدًا بالروح،

لا أعلم ماذا يصادفني هناك". [22]

 كان الرسول بولس ذاهبًا إلى أورشليم حسب التدبير الإلهي، لذا يقول: "مقيدًا بالروح"، فمع معرفته بأن شدائد وضيقات تنتظره، لكنه لا يعلم ما هي، إلا أنه يذهب بتوجيه الروح القدس له. فهو لا يُلقي بنفسه وسط التجارب بإرادته الذاتية أو عن اعتداد بذاته أو بحكمته أو قدرته. ولم يذهب شوقًا لرؤية مدينة آبائه، أورشليم، ولا للعبادة في الهيكل اليهودي، إنما كمن يقيده الروح، ويسحبه إلى أورشليم، وفي مسرة يسلك حسب توجيه الروح القدس له، مهما تكن النتائج.

إنه منطلق من آسيا ليس هروبًا من التجارب والمتاعب التي أثارها الكثيرون، إنما هو عابر إلى طريق مملوء أيضًا بالتجارب، يدخل إلى معركة أعنف وأشد.

ذهابه إلى أورشليم ليس مقيدًا بالجسد، فإنه ليس له أي احتياج جسدي للذهاب، لكنه مقيد بروح الرب.

كل ما يعرفه أن عواصف شديدة سيجتازها في أورشليم، لكن رب العالم كله حاضر، قادر أن يحول العواصف لمجد اسمه وبنيان الكنيسة.

"غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً:

أن وُثقًا وشدائد تنتظرني". [23]

يشهد الروح القدس سواء بالإعلان المباشر له أو نبوات التي يسمعها من أناسٍ لهم موهبة النبوة كما جاء في أع 21: 11، أنه سيقيد ويدخل في شدائد لا يعلم تفاصيلها، وقد أعلن الروح هذا لا في مدينة واحدة، بل في مدن كثيرة.

"ولكنني لست احتسب لشيء،

ولا نفسي ثمينة عندي،

حتى أُتمّم بفرح سعيي،

والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع،

لأشهد ببشارة نعمة اللَّه". [24]

 ليس شيء من كل هذه الشدائد يمكن أن تنزع عن الرسول بولس فرحه الذي يرافقه عبر كل جهاده، حاسبًا أن حياته الزمنية بلا قيمة. يقدمها ذبيحة حب لله. كل ما يشغله أن يحقق هدفه، ويتمم خدمته التى تسلمها من الرب نفسه (غل1: 12) شاهدًا ببشارة نعمة الله.

يحسب الرسول نفسه في كمن في سباق جري (2 تي4: 7؛ عب 12: 1؛1 كو 9: 24؛ أع 13: 25). ما يشغله في جهاده أن يحتفظ بفرحه في الرب حتى آخر نسمة من نسمات حياته، " أتمم بفرحٍ سعيي".

هنا يكشف لهم الرسول بولس عن نظرته للخدمة:

1. لا قيمة للحياة الزمنية أمام بلوغ الإنسان هدفه نحو خلاص نفسه وخلاص إخوته.

2. الخدمة سباق، لا يتوقف الخادم عن الركوض حتى يتسلم من يد الرب إكليل النصرة.

3. يتسم الخادم بالفرح الدائم وسط جهاده، حتى في مواجهته للموت.

4. إدراك أن الخدمة هي دعوة من الله شخصيًا.

5. عمل الخادم الشهادة المفرحة بنعمة الله التي تعمل بسخاء.

v     انظروا فإنه إذ يطرد طاغية الموت يتغلب حتى على قوة الشيطان، فإن ذاك الذي تعلم أن يدرس حقائق لا حصر لها بخصوص القيامة كيف يخشى الموت؟... لهذا لا تحزنوا قائلين: لماذا نتألم هكذا أو كذلك فإنه بهذا تكون النصرة اكثر مجدا[800].

v     لا تظنوا إني أقول هذا لأحزنهم، فإن حياتي ليست ثمينة عندي. قال هذا لكي يرفع أذهانهم ويحثهم ليس فقط ألا يهربوا، بل أن يحتملوا الآلام بنبلٍ. لهذا يدعوها "سعي" و"خدمة". فمن جانب يظهر أنها مجيدة بكونها سباقًا، ومن الجانب الآخر فهي التزام بكونها خدمة، فإني خادم ليس إلا[801].

v     تألّم بولس من أجل المسيح لا لينال الملكوت، ولا لنوال أيّة كرامة، ولكن من أجل محبّته العظيمة للسيّد. أمّا نحن فلا ننسحب من أمور هذه الحياة لأجل بالمسيح... بل مثل حيّات أو الخنازير نبقى نسحب أمور هذا العالم معنا كما في وحلٍ... مع أن اللَّه بذل ابنه لأجلكم[802].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     جحد بولس ذاته عندما عرف أن قيودًا وضيقات تنتظره في أورشليم، وبإرادته قدم نفسه للخطر[803].

القديس أمبروسيوس

"والآن ها أنا أعلم أنكم لا ترون وجهي أيضًا،

أنتم جميعًا الذين مررت بينكم كارزًا بملكوت اللَّه". [25]

 أعلن الرسول بولس أن هذا اللقاء هو لقاء وداعي، فإنهم لن يروا وجهه بعد في هذا العالم. لن يعود إلى أفسس، إنما ستلحق به المخاطر في أورشليم، وتنتظره الشدائد، وسيذهب إلى روما، وأيضًا إلى مدن أخرى مثل أسبانيا.

يصعب التعبير عن مشاعر الرسول وهو يودعهم مدركًا أنه لا يراهم بعد، لكن ما يشغله أنه كرز بينهم بملكوت الله الذي يضم الجميع، ولا يقدر الموت أن يفصل بينهم.

"لذلك أُشهدكم اليوم هذا أني بريء من دم الجميع". [26]

 يشهد الرسول بولس أنه كان مخلصًا في خدمته لهم، ولم يقصر في حق أحدٍ منهم، بل ويأخذهم هم أنفسهم شهودًا في يوم الدينونة على أمانته وإخلاصه. فإن هلك أحد منهم، فهو بريء أمام الله.

"برئ من دم الجميع": يشير الدم هنا إلى الهلاك الأبدي الذي أشبه بسفك الدم، والموت البشع، فلا لوم عليه. إنه بريء من هلاك أي يهودي أو أممي. فليس من خطأ أو إهمال من جانبه.

v     "إني بريء من دم الجميع". هذا القول يناسب بولس ويليق به، لكننا لسنا نجسر نحن أن نقوله إذ ندرك أخطاءنا الكثيرة. فبالنسبة له هذا الدائم السهر، مستعد دائمًا، يحتمل كل شيء من أجل خلاص تلاميذه، لهذا فالقول هنا لائق ومناسب له. أما نحن فنقول مع موسى: "الرب غضب عليّ بسببكم" (تث 3: 26)، لأنكم تقودونا في خطايا كثيرة[804].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لأني لم أؤخر أن أخبركم بكل مشورة اللَّه". [27]

لم يمتنع عن تقديم مشورة الله وإرادته التي تطلب خلاص الجميع. لم يعقه خوف من أحدٍ، ولا مداهنة لأحدٍ. كان الإنجيل بالنسبة له مفتوحًا، يقدمه كما هو للجميع، لا يخشى الاضطهادات، ولا يطلب أمجاد زمنية وكرامات. لم يخفِ شيئًا من الحق، بل قدمه بكل صراحة بغير تزييف، في بساطة ووضوح دون فلسفة بشرية.

يقدم الرسول نفسه مثلاً كخادمٍ للسيد المسيح أنه لا يتوقف عن التعليم.

v     ليس أحد في الكنيسة, حتى الشخص القديس أن يدعو نفسه راعيًا ما لم يكن قادرًا على تعليم من يرعاهم[805].

القديس جيروم

"احترزوا إذا لأنفسكم ولجميع الرعية،

التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة،

لترعوا كنيسة اللَّه التي اقتناها بدمه". [28]

يحذرهم الرسول من المخاطر التي سيتعرضون لها مما قد تسبب لهم ولرعية لمسيح دمارًا.

"لأنفسكم": فالخادم حتى الأسقف يلزمهم أن يكون حذرًا على خلاص نفسه (كو 4: 17؛ 1 تي 4: 14). يتعرض الأسقف للتجارب أكثر من الشعب، لأن عدو الخير يبذل كل الجهد ليدمره فيدمر الرعية.

"ولجميع الرعية": الأسقف ملتزم بكل نفسٍ، يعطي عنها حسابًا أمام الله. لا يكف عن أن ينصح ويعلم ويقود ويحمى كل إنسان من ضربات العدو القاتلة. لا يطلب الراعي ما لنفسه، أي ما هو لحياته الزمنية، بل يبذل ذاته عن الخراف، مقتديًا بالراعي الصالح.

لئلا يضطرب الأساقفة، لأنه من يقدر أن يخدم كل فرد في الرعية أكد لهم أن الروح القدس هو الذي أقامهم، وأن الكنيسة هو كنيسة الله الآب، وأن الابن المتجسد اقتناها بدمه. فالثالوث القدوس، الله القدير محب البشر، هو سند للراعي الجاد في حبه والمخلص في خدمته.

لقد دعاهم الله وأقامهم الروح القدس للخدمة والرعاية. هذا الفكر "دعوة الله للناس" كان يشغل قلب الرسول بولس، لم يفارقه. يرى العلامة أوريجينوس أن كل مؤمن يلزمه أن ينشغل بدعوة الله في دورٍ خاص به لبنيان الكنيسة. [يُقال أن بولس مدعو رسولاً، وأهل رومية مدعون، وإن كانوا ليسوا رسلاً. بالأحرى مدعوون أن يكونوا قديسين في الطاعة للإيمان. وقد تحدثنا فعلاً عن أنواعٍ مختلفة للدعوة[806].]

"أساقفة": في هذا الحديث يدعوهم تارة شيوخًا وأخرى قسوسًا (كهنة)، ثم اساقفة. فمن جهة السن هم شيوخ، ومن جهة دورهم للعمل هم كهنة العلي، ومن جهة الرتبة "أساقفة".

جاء تعبير "كنيسة الله" هنا في كثير من المخطوطات، خاصة السريانية "كنيسة الرب"، فقد اشتراها الرب بثمنٍ (1 كو 6: 20؛ 7: 23؛ 2 بط 2: 1).

v     ها أنتم ترون إنه يدعو الأمور التي للروح إنها للابن، وما للابن للروح. النعمة والرسولية ليست بالأمور التي ننالها من أجل أنفسنا، فنصير رسلاً. فإنه ليس بالأتعاب الكثيرة والجهاد ننال هذه الكرامة المخصصة لنا، إنما النعمة والنجاح الذي يتحقق هو عطية سماوية[807].

v     "احترزوا لأنفسكم"؛ قال هذا ليس لأن خلاصنا أثمن من خلاص الرعية، وإنما لأنه عندما نحترز لأنفسنا تصير الرعية رابحة[808].

v     الأمر خطير للغاية، فإنه يمس "كنيسة الرب"، الخطر عظيم لأنه يخص الدم الذي به يخلص. الحرب عنيفة ومزدوجة[809].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     أنتِ لستِ مِلكًا للذين أنجباك، وإنما مِلك ذاك الذي يلدكِ من جديد ويقتنيكِ بثمنٍ عظيمٍ، هو دمه![810]

القديس جيروم

v     بيع، وكان الثمن زهيدًا، ثلاثين من الفضة (مر 26: 15)، لكنّه هو اشترى العالم بتكلفة عظيمة التي لدمه. اُقتيد كحملٍ إلى الذبح (أع 8: 32)، أمّا هو فرعى إسرائيل، وها هو الآن يرعى العالم كلّه أيضًا[811].

القديس غريغوريوس النزينزي

"لأني أعلم هذا،

أنه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعيّة". [29]

 يتنبأ القديس بولس عن ظهور معلمين كذبة، أشبه بالذئاب الخاطفة التي لا تبالي بالخراف، بل تفترس وتُهلك، إذ يطلب المعلمون كرامتهم الزمنية، ويتشبثون بإرادتهم الذاتية. كل ما كان يشغل الكثيرين منهم هو "المباحثة"، لا لبلوغ الحق، وإنما لحب الجدال في ذاته.

v     تدخل ذئاب خاطفة بين قطعان المسيح، لا تشفق على الرعيّة كما يعلن بولس الإلهي. يتقيّأ العاملون المخادعون والرسل الكذبة مرارة مكر إبليس، فينطقون بأمورٍ مضادة، ليقودوا النفوس الجاهلة إلى الدمار، ويجرحون ضميرهم الضـعيف (1 كو 8: 12)[812].

القديس كيرلس الكبير

v     يغطى الهراطقة دواء تعاليمهم الشريرة المسمومة بعسل أسم يسوع[813].

 القديس كيرلس الأورشليمي

v     المداهنة دائمًا معزية وخادعة ورقيقة. وقد عرَّف الفلاسفة الإنسان المداهن بأنه عبد رقيق. أما الحق فهو قاسٍ ومر وصارم ومحزن ومقاوم للذين يوُبَخون[814].

 القديس جيروم

v     إن كان كل إنسانٍ كاذبًا والله وحده صادقًا (رو 3:39) ماذا يليق بنا كخدام الله وأساقفته أن نفعل سوى أن ننبذ الأخطاء البشرية، وأن نبقى في حق الله، ونطيع وصايا الرب[815].

 القديس كبريانوس

"ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلّمون بأمور ملتوية،

ليجتذبوا التلاميذ وراءهم. [30]

 الخطر الذي يصدر من الداخل أمرْ بكثير من الذي يأتي من الخارج، خاصة أن صدر عن معلمين أو خدام داخل الكنيسة. ذكر الرسل أسماء لأشخاص أسأوا إلى كنيسة الله من الداخل، مثل ديوتريفوس (3 يو 9)، فيجيلوس أو هيرموجينس (2 تي 1: 15)، وهيمينيس والكسندر (1 تي 1: 20). هؤلاء الذين بسبب الطمع أو حب الكرامة كوَّنوا تحزبات داخل الكنيسة سببت انشقاقات وتشويشًا. فالكنيسة لا ترهب العدو الخارجي إذا لم يوجد أعداء مقاومون في داخلها. كل إمكانيات المضطهدين وخططهم ومقاومتهم تُحسب كلا شيء مادام الداخل مقدسًا في الرب.

"لذلك اسهروا، متذكّرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهارًا،

لم افتر عن أن انذر بدموع كل واحد". [31]

 لم يكف الرسول بولس عن دعوة الأساقفة وكل الخدام كما الشعب للسهر، وكما يكتب إلى أهل تسالونيكي: "لا ننم إذا كالباقين بل لنسهر ونصح، لأن الذين ينامون فبالليل ينامون، والذين يسكرون فبالليل يسكرون، وأما نحن الذين من نهارٍ، فلنصحُ، لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة هي رجاء الخلاص" (1 تس 6:5-8),

v     يلزمنا أن ننام نصف متيقظين... فالإنسان النائم لا يُصلح لشيءٍ، أكثر من الميت. لذا فإنه حتى خلال الليل يلزمنا أن نقوم من النوم، ونسبح الله. طوبى للذين يسهرون مترقبين مجيئه، إذ يجعلون أنفسهم مثل الملائكة الذين نتحدث عنهم أنهم دائمًا في سهر[816].

 القديس إكليمنضس السكندري

v     رسول النهار المجنح,

يغني عاليًا مبشرًا باقتراب الفجر.

وبنغمات مثيرة يدعو المسيح نفوسنا النائمة أن تحيا معه.

إنه يصرخ: اتركوا الاسترخاء الغبي,

اتركوا نوم الموت, والكسل المخطئ,

اسهروا بقلوب يقظة, بارة, وطاهرة,

فإنني آت قريب جدًا![817]

الأب برودانتس

إن كان الرسول لم يكف عن أن ينذر كل واحدٍ بدموعٍ طوال الثلاث سنوات، فكم يليق بكل واحدٍ منهم أن يسهر على خلاص نفسه بجدية.

لقد قضى في أفسس ثلاث سنوات، منها سنتان في مدرسة تيرانس (أع 19: 10)، وثلاثة شهور يعلم في المجمع أفسس (أع19: 8)؛ وبقية المدة في أماكن أخرى. وربما يقصد بالثلاث السنوات، حسب عادة اليهود أن أي جزء من السنة يعتبر كأنه سنة كاملة.

v     عندما يرى المريض طبيبه يشترك في الطعام (الخاص بالمرضى) فإنه يحثه على فعل هذا، هكذا هنا عندما يراكم تبكون يرق ويصير صالحًا ورجلاً عظيمًا[818].

v     أننا نوجه اتهامات، نحن ننتهر، نحن نبكي، نعاني آلامًا مبرحة وإن كان ليس في الظاهر بل في القلب. لكن هذه الدموع الداخلية أكثر مرارة بكثير من الدموع الخارجية. لأن هذه في الواقع تجلب تنفيسًا لمشاعر الحزن، أما الأخرى فتثيرها بالأكثر وتكتمها. فإنه حيث توجد علة للحزن ولا يستطيع الشخص أن يعبر عن حزنه لئلا يظهر أنه محب للمجد الباطل، فلتفكروا كم تكون آلامه... أي رجاء للمعلم حين تهلك رعيته؟ أي نوع من الحياة وأي أمل له؟ بأي نوع من الثقة سيقف أمام الله؟ بماذا يقول؟[819]

القديس يوحنا الذهبي الفم

"والآن استودعكم يا اخوتي للَّه،

 ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم،

وتعطيكم ميراثًا مع جميع المقدسين". [32]

 إذ لم تعد هناك فرصة للقاء آخر معهم سلم حياتهم في يدي الله وتحت حمايته ورعايته، ولكلمة نعمته، أي لوعود الله الصادقة المجانية، لا لحفظهم من التجارب والضيقات فحسب، وإنما لبنيانهم وتهيئتهم للميراث الأبدي في شركة مع القديسين. ما يشغل ذهن الرسول بولس على الدوام الميراث المُعد للقديسين (مت 19: 29؛ 25: 34؛ مر 10: 17؛ عب 6: 12؛ رؤ 21: 7؛ أف 1: 11؛ 8:5؛ كو 1: 12؛ 3: 24؛ رو 8: 17؛ غل 3: 29).

v     يذَّكرهم على الدوام بالنعمةٍ لكي يجعلهم في جدية كمدينين (لله) ولكي يحثهم أن تكون لهم ثقة: "القادرة أن تبنيكم" لم يقل إنها ستبنيهم بل "أن تبنيكم (الاستمرار في البناء)، مظهرا أنهم مبنيون فعلاًً[820].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     إن كان الرسول قد كرز بكلمة الرب نهارًا وليلاً إلى الشعب الذي أؤتمن عليه حتى يكون في حل في عيني الله، ماذا يحدث لنا إن أهملنا خدمة التعليم للقطيع الذي أؤتمنا نحن عليه في أيام الأعياد والآحاد؟ لهذا يلزمنا أن نتعب بعون الله قدر ما نستطيع أن نوزع على الشعب الذي تحت رعايتنا عملة الرب الروحية، ليس فقط في الكنيسة، بل وفي الاجتماعات والولائم، وأينما وجدنا. من جانبنا لنوزع هذه العملة حتى إذ يجيء يطلب منا الرب (الفائدة). إن فعلنا هذا بإخلاص نستطيع عند مجيئنا أمام عرش الديان الأبدي أن نقول بكل تأكيد مع النبي: "ها أنا والأولاد الذين أعطيتني إياهم" (إش 8: 18). عندئذ مقابل تقديم الفائدة المضاعفة لمواهبنا سنسمع باستحقاق: "حسنًا أنت عبد صالح وملتزم، تعال اشترك في فرح سيدك" (راجع مت 15: 21). ليت الله نفسه يهبنا هذا، الذي يحيا ويملك إلى أبد الأبد[821].

الأب قيصريوس أسقف آرل

"فضة أو ذهب أو لباس أحدٍ لم اشتهِ". [33]

بعد أن أوصاهم بخصوص الاهتمام بخلاصهم وخلاص الرعية، كاشفا عن حنو ورعايته طوال مدة إقامته في أفسس، وبعد أن حذرهم من المعلمين الكذبة، الآن يقدم نفسه مثلاً عمليًا من جهة عدم طمعه في شيء مما لهم. فإنه لم يطلب ما لنفسه بل ما هو لهم (2 كو 12: 14). فمن حقه كخادم للإنجيل ان يأكل من الإنجيل، وبكونه يقدم الروحيات أن يأخذ احتياجاته الزمنية (1 كو 9: 13-14)، لكنه لم يطلب شيئًا من هذا، ولا اشتهاه في داخله.

لم يطلب حتى اللباس مكتفيًا بما يرتديه. لم يقل الرسول أنه لم يأخذ فضة أو ذهب أو لباس، إذ أخذ أحيانا للضرورة، كما جمع للفقراء في أورشليم، لكنه لم يشتهِ شيئًا من هذا، فقد تجنب محبة المال التي هي أصل الشرور.

v     ليتنا لن نطلب هدايا قط، وبالكاد نقبلها نادرًا حينما يًطلب منا ذلك. "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 9: 15). بطريق أو آخر فإن الإنسان الذي يتوسل إليك لتأخذ هدية يتطلع إليك باستهانة حين تقبلها، بينما إن رفضتها فإنه بالأكثر يحترمك مُعجبًا بك[822].

القديس جيروم

"أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي،

خدمتها هاتان اليدان". [34]

في كورنثوس عاش مع أبولس وعمل معه، وكان يعول نفسه بعمل يديه (1 كو 4: 12؛ 1 تس 2: 9؛ 2 تس 3: 8).

في تعليق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة يكشف عن مدى سمو القديس فقد ارتفع إلى درجة عالية جدًا في هذه الفضيلة، ارتفع فوق الفقر الاختياري.

v     الدرجة الأولى هو أن يهرب الشخص من أن تكون له ممتلكات، والثانية أن يكون مكتفيًا بالضروريات اللازمة، والثالثة أن يعطي الآخرين وهو لا يملك إلا الضروريات، والرابعة أن يفعل هذا كله وهو يكرز مع أنه من حقه أن يأخذ[823].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يذكر لنا القديس يوحنا كاسيان في مناظرته مع الأب إبراهيم الآتي:

[جرمانيوس:... كيف يصيب نظامنا ضرر إن تحررنا من كل اهتمام خاص بهذه الحياة تاركين لأقربائنا أن يهيئوا لنا الطعام ونتفرغ نحن للقراءة والصلاة، حتى إذ نزيل عنا العمل الذي يشغلنا الآن نُكرس بأكثر غيرة للاهتمامات الروحية وحدها؟

إبراهيم: إنني لا أقدم لك رأيي الخاص، إنما أذكر رأي الطوباوي أنطونيوس الذي أخزي به كسل راهبٍ معينٍ غلبه اللامبالاة...

لأنه إذ جاءه إنسان وقال إن نظام النسك هذا غير كامل، معلنًا أنه يطلب للإنسان فضيلة أعظم، ممارسًا ما يخص الحياة الكاملة وحدها بطريقة أكثر مما يليق بالنسبة لسكان البرية... أردف الطوباوي أنطونيوس قائلاً: هذا النوع من الحياة وهذه اللامبالاة ليس فقط تدفع بك إلى الخسارة السابق ذكرها، ولو أنك لا تشعر بها الآن، كما جاء في سفر الأمثال: "ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف" (أم 35:23)، وجاء في النبي: "أكل الغرباءُ ثروتهُ وهو لا يعرف، وقد رُشَّ عليهِ الشيب وهو لا يعرف" (هو 9:7)، وإنما أيضًا يسحبون ذهنك بغير انقطاعٍ نحو الأمور الزمنية، ويغيرونه حسب الظروف. كذلك إذ يقدمون ثمار أيديهم لك ويمدونك بالمئونة، بهذا يحرمونك من تنفيذ وصية الرسول المبارك، لأنه عندما قدم آخر وصية لرؤساء كنيسة أفسس أكد لهم أنه بالرغم من مشغوليته بواجباته المقدسة الخاصة بالكرازة بالإنجيل إلا أنه كان يعمل من أجل احتياجاته واحتياجات الذين يعملون معه في الخدمة قائلاً: "أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خَدَمَتهْا هاتان اليدَان" (أع 34:20). ولكي ترى كيف أنه فعل هذا كمثال لنا يقول في موضع آخر: "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتَمثل بنا لأننا لم نسلك بلا ترتيبٍ بينكم... ليس أن لا سلطان لنا، بل لكي نعطيكم أنفسنا قدوةً حتى تتمثَّلوا بنا" (2 تس 7:3، 9)[824].]

v     كثيرون كانوا يرغبون في الحصول على فرصة لتعطيل الإنجيل، وقد أراد أن يضيع عليهم هذه الفرصة، لذلك كان يعمل بيديه، قائلاً: لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة" (2 كو 11: 12)[825].

القديس أغسطينوس

"في كل شيء أريتكم أنه هكذا ينبغي أنكم تتعبون،

وتعضدون الضعفاء،

متذكرين كلمات الرب يسوع،

أنه قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ". [35]

قدم حياته درسًا عمليًا في التعب بعمل اليدين، لا لإشباع احتياجاته فحسب، بل ولكي ينفق على من معه، وعلى الضعفاء المحتاجين. وكان قانون حياته كلمات السيد المسيح: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ".

v     يظهر الرسول كم من الشرور تسببها البطالة، وكم من المنافع يحققها العمل، فالعمل هو علامة الحب للإخوة، به لا نأخذ منهم وإنما نساعدهم... إذ قيل: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع ٢٠: ٣٥)[826].

القديس يوحنا الذهبي الفم

5. وداع حار مؤثر

"ولمّا قال هذا،

جثا على ركبتيه مع جميعهم وصلّى". [36]

جثا على ركبتيه معهم وصلى، ليودعهم في يد الله، لكي لا تفارقهم الحضرة الإلهية. لم يصلِ فقط من أجلهم بل وصلى معهم، ليقدم الكل صلاة جماعية، إنها صلاة وداعية جاءت بعد الحديث الوداعي، لكي تبقى البصمات الأخيرة في ذهنهم، أنه لا طريق للنجاة إلا بالصلاة.

اعتاد الرسول بولس أن يصلي جاثيًا على ركبتيه (أف 3: 14). فالركوع يحمل روح التواضع والخشوع أمام الله (2 أي 6: 13؛ دا 6: 10؛ لو22: 41؛ أع7: 60؛ 9: 40؛ 21: 5؛ رو11: 4؛ في2: 10؛ أف3: 14؛ مر1: 40).

نرى صورة حية لطقس الوداع: "ولما قال هذا جثا على ركبتيه مع جميعهم وصلى" [36].

"وكان بكاء عظيم من الجميع

ووقعوا على عنق بولس يقبلونه". [37]

تركهم والدموع منهارة بغزارة منهم، ولعله لم يستطع بولس صاحب القلب الرقيق أن يحبس دموعه وهو يلقي نظراته الأخيرة على محبوبيه، فانهار الكل أمام محبته الحانية، وارتمى الكل على عنقه يقبله. لم تستطع الكلمات أن تعبر عن شكرهم له على كل جهوده ومحبته لهم، فتحدثوا بلغة الدموع والقبلات المقدسة.

يحدثنا القديس أغسطينوس عن حياتنا على الأرض بكونها زمن تسميد الأرض حتى تقدم ثمارًا كثيرة، هذا التسميد هو ممارسة التوبة في حزن على خطايانا ورجاء في التمتع ببهجة الثمار. [شكرا لله! فإن التسميد في موقع مناسب، فإنه ليس بلا ثمرة، بل يجلب ثمرًا. هذا هو وقت الحزن المفرح حقًا، لكي نبكي على حال موتنا، وكثرة تجاربنا، وهجمات الخطاة الخفية، والاصطدام مع الشهوات، والصراع مع الأهواء الثائرة ضد الأفكار الصالحة. من أجل هذا ولنحزن. لنحزن على حالنا هذا[827].]

v     إن كنا مدعوين لملكوت الله، فلنسلك بما يليق بالملكوت، نحب الله وقريبنا، لا يتحقق الحب بالقبلة، بل بالحنو الداخلي. فإنه يوجد من لا يفعلون سوى أن تردد الكنيسة صدى القبلة، وهم لا يقتنون الحب في داخلهم. هذا الأمر ذاته، أي الاستخدام المخزي للقبلة، كان يلزم أن يكون داخليًا... لذلك يدعوها الرسول "قلبة مقدسة" (رو 16:16)[828].

 القديس إكليمنضس السكندري

v     كيف تكمل الصلاة ان عُزلت عن القبلة المقدسة؟[829]

 العلامة ترتليان

يليق ممارسة القبلة المقدسة في للعبادة الكنسية كعلامة على ما يحمله المؤمنون من سمات ملكوت الله، أي الحب المقدس في الرب. لهذا يليق بالمؤمنين أن يسلكوا بروح السلام الحقيقي والحب قبل القبلة، حتى لا تحمل سمة قبلة يهوذا الخائن.

"متوجّعين ولا سيما من الكلمة التي قالها،

أنهم لن يروا وجهه أيضًا،

ثم شيّعوه إلى السفينة". [38]

يا لها من لحظات رهيبة وهم يتطلعون إلى الوجه الذي يحمل كل سمات المحبة الصادقة، يعكس حب الله لهم، وقد أدركوا أنها آخر لحظات لرؤيته.

"شيعوه إلى السفينة" وهم يرونه كمن ينطلق من بينهم إلى السماء، لن يروه بعد إلا مع رب المجد يسوع حين يأتي على السحاب، ليضم كنيسته إليه، وينطلق بها إلى حضن الآب.

يقدم لنا الإنجيلي لوقا كشاهد عيان وصفًا رائعًا لمشاعر الجماهير وهي تودع الرسول بولس.

 


من وحي أع 20

هب لي أن أكون أميناً إلى النهاية

v     ماذا فعلت المكائد برسولك العجيب,

زكته أمامك,

وفاحت رائحتك الذكية فيه!

v     لم تشغله الضيقات عن الخدمة غير المنقطعة.

يحَّول الليل إلى نهار بكرازته الجذابة.

مشتاقاً أن يصير الكل أبناء نور وأبناء نهار.

ليس بينهم ابن لليل والظلمة.

ولا يكون للظلمة موضع في قلب البشر!

v     سقط أفتيخوس الشاب من الطاقة وحملوه ميتاً!

سقط عليه بولس، فوهبه الله الحياة.

آمن الرسول أنك تقيم النفوس من موتها وفسادها,

فهل يصعب عليك أن تقيم الأجساد؟

v     سقط الشاب من الطاقة فمات,

وسقط الإنسان من الحياة الفردوسية, ففقد حياته الأبدية.

نزلت إليه واحتضنته,

حملته معك إلى عرشك السماوي!

v     في ميليتس قدم رسولك خطابه الوداعي،

حقاً بكل جرأة تحدث مع الأساقفة والكهنة.

فقد عاش أميناً حتى النهاية.

بانسحاقٍ ودموعٍ قضى حياته كخادمٍ لك.

رافق شعبه مستعبدًا نفسه لهم.

لم يستنكف من أن يكون عبدًا,

لأولئك الذين من أجلهم صرت أنت عبدًا.

v     كيف لا تنهمر الدموع من عينيه,

وهو يراك في البستان نفسك حزينة حتى الموت من أجل كل إنسان؟

v     تمتع بك يا أيها الحق الإلهي,

فلم يصمت عن أن يعلم بلا انقطاع,

لكي يدخل بكل نفسك إليك.

v     في كل بيت يدخله لا يشغله سوى كلمتك.

صار كل موضع بالنسبة له منبرًا.

يقف ليكرز بالتوبة دون ملل.

يحث على الإيمان بك ليتمتع الكل بشركة أمجادك.

قدم نفسه رخيصة من أجل الكرازة بإنجيلك.

ووجد في الميتات الكثيرة عذوبة الحياة معك.

v     أعلن براءته من دم الجميع,

إذ تحولت حياته كلها إلى عظة عملية لا تتوقف.

حذر شعبك من كل معلم كاذب, ونبي مخادع,

حتى يتمتع الكل برعايتك الإلهية.

v     أعلن براءته إذ لم يشته شيئًا عوض خدمته.

لم يعمل كأجير يطلب أجرة,

فهو ابنك يا صاحب الكرم,

تبنيته بنعمتك، ليتمتع بشركة الميراث معك!

v     أخيرًا يا له من وداعٍ فريدٍ!

فقد تفجرت منه ومن الخدام ينابيع الحب العميقة.

ركع الكل معًا للصلاة,

يشكرونك يا أيها الراعي الصالح,

إذ وهبتهم الحب الذي لا ينهزم.

v     بقبلات مقدسة انصرفوا جسديًا,

لكي يلتقوا معاً في الفردوس,

وينضموا مع كل مؤمنيك يوم مجيئك على السحاب.

وتزفهم الطغمات السمائية كعروس طاهرة عفيفة لك.

[792] Hom. on Acts, hom. 43.

[793] Hom. on Acts, hom. 43.

[794] Hom. on Acts, hom. 43.

[795] Hom. on Acts, hom. 43.

[796] Hom. on Acts, hom. 43.

[797] Hom. on Acts, hom. 43.

[798] Epistle to the Philippians, 1:1-2.

[799] Hom. on Acts, hom. 44.

[800] Homilies on Hebr. , hom. 4:6-7.

[801] Hom. on Acts, hom. 44.

[802] Hom. On Rom., hom. 15.

[803] Epistles, 63:73.

[804] Hom. on Acts, hom. 44.

[805] Ep. to Ephesians, 4:11.

[806] Comm.on Rom 1:6.

[807] Homilies on Romans, hom. 1.

[808] Hom. on Acts, hom. 44.

[809] Hom. on Acts, hom. 44.

[810] Letter 54 to Furia, 4

[811] Oration 29, On the Son, 20.

[812] Comm. On St. Luke, hom. 73.

[813] Catechetical Lectures, 4: 2.

[814]Against the Pelagians, 1:26.

[815] Letter, 67: 8

[816] Paedagogus, 2: 9: 79.

[817]Prudentuis : Hymns 1:1-8.

وضع برودنتوس Prodentius الأسباني تسابيح اتّسمت بأنّها أكثر التهابًا من تلك التي وضعها القديس أمبروسيوس المعاصر له، وذلك لاستخدامها خارج الليتورجيّات.

 

[818] Hom. on Acts, hom. 44.

[819] Hom. on Acts, hom. 44.

[820] Hom. on Acts, hom. 44.

[821] Sermon 230:6.

[822] Letter 52.

[823] Hom. on Acts, hom. 45.

[824] St. John Cassian: Conferences, 24:11.

[825] Our Lord's Sermon on the Mount, 2:45

[826] In 1 Thess., hom 5.

[827] Easter Season, 254: 4.

[828] Paedagogus 3: 11.

[829] On Prayer, 18.