المزمور السابع عشر

التأديب يقود إلى رؤية الله

هذا المزمور هو مرثاة قدمها إنسان متهم ظلمًا فاحتمى بالهيكل ينتظر حكم الله في قضيته[340]. ربما صلى به داود حين ضايقه الأعداء؛ وقد سجله عندما كان في برية معون، حينما قام شاول ورجاله على مسيح الرب (1 صم 23: 25).

يقول C. Stuhlmueller: [نحتاج إلى المزمور 17 كاحتياجنا إلى آلامنا السرية ونحن أبرياء، لا لننطلق إلى ما وراء آفاق تلك الأرض فنبلغ الأبدية فحسب، وإنما لكي ندخل إلى قلب يسوع الذي أُتهم ظلماً (يو 8: 46 البريء الذي "لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا" (2 كو 5: 21). وحينما نتلو المزمور 17 نصلي أيضًا من أجل الأوقات التي فيها نحن قد اسأنا الحكم وظلمنا أبرياءً: نصلي من أجل كل ضحايا الظلم[341]].

يعتقد البعض أن هذا المزمور يماثل المزمور 16 حتى ليحسبوا المزمورين كتوأمين.

يكشف لنا هذا المزمور عما حلَّ بداود النبي، أنه كمن أُلقي في أتون نار ملتهب، لكنه عوض أن يهلك خرج منه ليس فقط دون أن يلحق به ضرر وإنما خرج ينعم بالاحتماء تحت ظل جناحي الرب، ويعاين بهاء وجهه الإلهي!

مزمور مسياني:

يرى البعض أن المزامير 16-24 تمثل مجموعة مسيانية متكاملة، كل مزمور منها يقدم نبوة واضحة عن السيد المسيح المخلص. ولعل أروع هذه النبوات ما ورد عن الصليب وآلام الرب المجيدة في المزمور 22.

يقول Gaebelein عن المزمور 17: [عند قراءة هذه الصلاة الثمينة يشعر الإنسان في الحال أنها تخص شفتي من هو أعظم من داود. بينما كتب هذه الصلاة بروح الله - كما كتب كل الصلوات الأخرى - بما فيها من صلوات اللعنات (ضد الأعداء)، فإن سمة هذه الطلبة الموجهة لله لا تخص داود... كلماتها أولاً وقبل كل شيء تنطبق على المسيح. هو الكامل والبار... هو الشفيع عن شعبه. إذ يتقدم بدعواهم يطلب ذلك خلال بره هو وكماله. والآب يسمع دائمًا لتشفعاته[342]].

طبَّق القديس جيروم كل ما ورد في هذا المزمور على السيد المسيح. وبعض الآباء الآخرين مثل القديس أغسطينوس حسبوا أن كل ما جاء في المزمور يخص السيد المسيح وشعبه. إذ يقول القديس أغسطينوس: [يجدر بنا أن ننسب هذا المزمور لشخص ربنا المتحد مع الكنيسة التي هي جسده].

العنوان:

"صلاة لداود". توجد أربعة مزامير أخرى تحمل ذات العنوان، وهي (مز 86، 90، 102، 142). وقد دُعيت صلوات لأنها مفعمة بالتوسلات، فهي من خصائصها وعناصرها الأساسية[343].

لقد أتقن داود النبي فن الصلاة، حتى دعى نفسه "صلاة". عرف كيف يلجأ إليها على الدوام، خاصة وأنه رجل آلام وأوجاع، يشعر أنه في حاجة إلى الله كملجأ له من أعدائه الأشرار ومن ضعفاته الشخصية وسقطاته، لكي يتأهل خلال مراحم الله أن يرتفع فوق التأديبات إلى الحياة السماوية المفرحة.

الإطار العام:

1.  اللجوء إلى الله لتأكيد براءته      [1-5].

2.  طلبة من أجل الرحمة             [6-12].

3.  توسل ضد الأشرار               [13-14].

4.  تمجيد لله                         [15].

1. اللجوء إلى الله لتأكيد براءته:

جاءت افتتاحية المزمور صلاة لتبرئته [1-5] يليها تثبيت هذه البراءة [3-5].

يترجى المرتل في الله أن يبرئه، واثقًا في برّ الله الذي لا يحابي الوجوه، ومعتمدًا على صلاح ضميره.

"استمع يا الله عدلي (برّي)،

واصغ إلى طلبتي،

وانصت إلى صلاتي فليست هي بشفتين غاشتين" [1]

يطلب المرتل من الله أن يستمع إليه ويصغى وينصت، مكررًا ثلاث مرات في هذا العدد طالبًا من القاضي أن ينصفه. هذا التكرار لا يُقدم منه باطلاً وإنما دليل اللجاجة وعدم اللجوء إلى آخر غيره.

كان داود بارًا بلا عيب، يتبع الحق والعدل من جانبه، بريئًا من الأخطاء المُتهم بها؛ غير أن السمات الواردة هنا (عدلي (بريّ)، بشفتين بلا غش) تنطبق على السيد المسيح أولاً وقبل كل شيء، إذ هو البار الكامل، وشفتاه بلا غش (1 بط 2: 22)، يشفع ببره عن شعبه، ويستمع الآب على الدوام إلى شفاعته.

السيد المسيح هو المتضرع، الذي يصلي كرأس من أجل جسده، الكنيسة، حاسبًا قضية شعبه قضيته الخاصة به، متشفعًا لأجل قديسيه، لأنه "في كل ضيقهم تضايق" (إش 63: 9)، قائلاً لشاول: "شاول شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4).

ونحن أيضًا كأعضاء في جسد المسيح يليق بنا أن نحيا بالبر، لأن الآب لا يمكنه أن يتعامل معنا ما لم نكن أمناء معه بالتمام، لنا برّ المسيح. هو يعرف دوافعنا الحقيقية؛ قد نخدع أنفسنا أحيانًا، لكننا لا نقدر أن نحدع الله.

ويلاحظ في المزمور الذي بين أيدينا الآتي:

 أ. لا يمكننا فهم الدفاع بالبر هنا كتعبير ساذج عن البر الذاتي، فهو ليس مجرد تأكيد من جانب الإنسان العابد على خلوه من الخطية، إنما هي محاولة لتبرير الإنسان من إتهامات معينة ظالمة[344]. فبقولنا: "استمع يا الله عدلي (بري)"، لا نعني أننا بلا خطية، وإنما نعني أن صوت دم السيد المسيح واستحقاقاته أعظم من صوت الاتهامات الباطلة ضدنا بل ومن صوت الخطية التي تشهد ضدنا، صوته فينا أقوى، لأنه صوت برّ المسيح، الحق الإلهي!

في برّ المسيح نسمع صوت الرسول: "طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها، كان إيليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا وصلى صلاة أن لا تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر..." (يع 5: 16-17) وكأنه ببر المسيح نحمل مفتاح السماء، ويستجيب لنا الآب نفسه!

ب. بقوله: "فليست هي بشفتين غاشتين" يعلن المرتل أنه لا ينطق في صلاته بالشفاة المجردة، وإنما خلال إنسجام الشفتين مع إخلاص القلب الداخلي، وأمانة العمل؛ وكأن المرتل يعلن أن صلاته تخرج من كيانه كله: الفكر الداخلي أو نية القلب والكلمات مع العمل.

صاحب الشفتين الغير غاشتين يحمل إخلاصًا داخليًا وصدقًا في تصرفاته الظاهرة، فلا يسقط تحت التوبيخ الإلهي: "جبهة امرأة زانية كانت لكِ... ألست من الآن تدعينني يا أبي أليف صباي أنت... ها قد تكلمتِ وعملتِ شروراً واستطعتِ" (إر 3: 3-5). شفتا الغش مكروهة عند الناس فكم بالحري تكون مكروهة لدى الرب؟! الله لا يطلب صلوات الشفاة الغاشة، وإنما يطلب سكب النفس (1 صم 1: 15) وسكب القلب (مز 62: 8).

ج. إذ يلجأ المرتل إلى الله يجد في الحضرة الإلهية راحته، فيطلب منه أن يتسلم بنفسه قضيته ويعلن أحكامه فيها علانية، لأنها أحكام عادلة ومستقيمة.

"من وجهك ليخرج قضائي،

عيناي لتنظرا الإستقامة" [2].

v   ليت قضائي لا يصدر عن الشفاة الغاشة (التي للأشرار) وإنما عن حضورك البهي، لكي لا أنطق بخلاف ما أكتشفه فيك.

ليت عيناي - عينا القلب بالطبع - تعاينان الأمور المستقيمة.

القديس أغسطينوس

ماذا يعني المرتل بوجه الآب إلا الابن الذي خبَّرنا عن الآب، وأعلن بالصليب كمال الحب الإلهي، فإننا خلال عمله الخلاصي ننعم ببهاء الوجه الإلهي، ويحق لنا الدخول إلى الأحضان الأبوية، معاينين كل ما هو حق ومستقيم.

د. استقامة حياته الداخلية:

"جرَّبت قلبي وتعهدته ليلاً،

واحميتني فلم تجد فيّ ظلمًا.

لكيما لا يتكلم فمي بأعمال الشر" [3].

كلمة "جربت" تستخدم للتعبير عن امتحان الذهب بالنار (زك 13: 9)، الأمر الذي يفوق حدود الفحص العادي إلى التفتيش في الأعماق داخل النفس البشرية.

ربما عنى المرتل بطلبته هذه أن يقدم قلبه لله ليلاً حينما يترك كل من هم حوله ليكشف للرب أعماق قلبه وصدق نيته بعيدًا عن أعمال البشر والانشغال معهم في أحاديثهم... يرى الله في داخله إخلاصًا صادقًا، لا يحمل كراهية أو بغضة أو ظلمًا حتى ضد المفترين عليه. يرى الله في قلبه إشتياقًا حقًا ألا ينشغل المرتل بكلمات الناس بالرغم من عدم إنعزالهم عنه جسديًا؛ هو يتحدث معهم ويعاملهم لكنه كمن هو غريب يطلب أن ينطق بأعمال الله لا الناس.

وربما أراد المرتل أن يعلن أنه ما أسهل على البشر أن يحكموا ضده، بإساءة فهم كلماته أو تصرفاته، أما الله فيحكم حسب أعماقه. وكأنه يقول مع الرسول بطرس بعد إنكاره للرب: "يارب أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف إني أحبك" (يو 21: 17).

ما أحوجنا أن نتعهد قلوبنا ليلاً، فيشرق مسيحنا علينا ويحول ظلمتنا إلى بهاء نوره!

ربما يقول "تعهدته ليلاً، لأن الليل هو ترمومتر الحياة الروحية، فيه تنكشف القلوب. الإنسان الملتهب قلبه بالحب طول نهاره عندما يحل الليل يجد لذته في التمتع بالصلاة ودراسة الكتاب المقدس والتأملات الروحية، وحينما يضع رأسه يردد في قلبه: "إني لا أدخل إلى مسكن بيتي، ولا أصعد على سرير فراشي، ولا أعطي لعينَّي نومًا أو لأجفاني نعاسًا، ولا راحة لصدغي، إلى أن أجد موضعًا للرب" (مز 132 صلاة النوم). يضع رأسه على وسادته ليهيم فكره في السماويات حيث يوجد قلبه ويكون هناك كنزه. أما من ارتبك بهموم الحياة فلا يجد في الليل لذة بل يعاني من الأرق ويزداد قلقه، ويصير الليل لا للراحة بل لاختبار عربون الجحيم الذي لا يُطاق. والذي يقضي يومه في الملذات الجسدية والتسيّب من جهة حواسه، فمتى حلّ الليل ينغمس بالأكثر في أحلام اليقظة المثيرة لجسده وأفكاره... وهكذا يكشف الليل للإنسان حاله الداخلي.

في الليل تنفتح السماء أمام عيني المرتل ليهيم في حب الله ويصلي من أجل أخوته!

هـ. ضبط لسانه:

"لكيما لا يتكلم فمي بأعمال البشر" [3].

لقد تهيأ المرتل تمامًا لتقديم أفكاره وكلماته وأعماله لفحص دقيق جدًا من قبل الله، وفي نفس الوقت أدرك الغبطة التي يتمتع بها الإنسان الذي يصرخ إلى الله ليهبه كمال القلب والحديث والعمل.

v   "لكيما لا يتكلم فمي بأعمال الشر"، أي لئلا يفلت من شفتي كلام إثم، بل يخرج منهما كل ما يليق بمجدك وحمدك، وليس كتعديات البشر المقاومين مشيئتك.

القديس أغسطينوس.

v   لا تزعج نفسك بأمور العالم التي لا ينفعك منها شيء صالح لحياتك، إذ كُتب "لكيما لا يتكلم فمي بأعمال البشر". فالإنسان المولع بالحديث عن الخطاة وأعمالهم سرعان ما تثور فيه شهوة الإستهتار. بالحري يلزمك أن تنشغل بحياة الصالحين، فإن هذا يعود عليك بشيء من النفع[345].

v   تعلمت أن أصلي حتى لا يتكلم فمي بأعمال البشر[346].

القيس باسيليوس الكبير

v   لا تبحث في فكرك عن أخطاء الغير، ولا تدنس لسانك باتهام قريبك؛ فإن القول "لا يتكلم فمي بأعمال الناس" أمر له تقديره! [347].

الأب بابي (السرياني)

وربما قصد المرتل بقوله: "لا يتكلم فمي بأعمال البشر"، أو في النص العبري: "لا يتعدى فمي..." أنه وإن مرّ به فكر إدانة من جهة إنسان - حتى وإن كان عدوه - فإن هذا الفكر لا يمكن أن يجتاز فمه، أي لا يتحول إلى كلمات وبالتالي إلى عمل، إنما يحبسه ليقتله بعمل الله فيه. فقد وضع الله حافظًا لفمه وبابًا حصينًا لشفتيه كي لا يخطئ بلسانه.

و. سالك في طريق الله الضيّق:

"من أجل كلام شفتيك أنا حفظت طُرقًا صعبة.

ثبت خطواتي في سبلك لئلا تزل قدماي" [4-5].

تحدث داود النبي عن قلبه الصالح ثم عن لسانه وأخيرًا عن أعماله. فمن جهة أعماله حفظ نفسه من الطرق الشريرة ليسلك طريق الله، أي ليعيش حسب مشيئته الإلهية؛ لم يتحقق هذا بقدرته الشخصية وإنما بارشاد الله ومعونته حتى لا تزل قدميه.

في هذا المزمور يكشف المرتل عن كلام الأشرار وكلام الأبرار وأيضًا كلام الله. فشفتا الأشرار تُصدران افتراءات واتهامات باطلة ضد أولاد الله، لهذا يلجأ المرتل إلى الله كي يبرره فيها. وشفتا المرتل (الأبرار) تتحفظان من أعمال الناس لكي لا يوجد فيهما غش بل يحملان صدقًا وإخلاصًا وإنسجامًا مع صدق القلب والعمل. أما شفتا الله فتحفظان أولاده، إذ تقدمان كلامه روحًا وحياة؛ تقودانهم إلى الطرق الإلهية التي تبدو صعبة لكن بلا زلّة أو سقوط. شفتاه ترشداننا وتهبانا قوة وثباتًا في الطريق. كلمات شفتيه إنما هي ميثاق الله ووعوده لنا القادرة أن تثبتنا فيه أبديًا.

v   "ثبت خطواتي في طرقك" حتى تبلغ الكنيسة كمال الرحمة خلال الطرق الضيقة التي تقود إلى راحتك.

"لئلا تزل قدمي"، حتى تصير آثار رحلاتي مطبوعة كآثار الأقدام في الأسرار وفي كتابات الرسل، فلا تمحى أبدًا، بل تصير ظاهرة يلاحظها كل الذين يتبعونني. أو ربما تعني أن قدميَّ قد سلكتا تلك الطرق الوعرة وكملت السعي في طرقك الضيقة لكي أسكن أبديًا في الحياة الأبدية.

القديس أغسطينوس

طريق الله ضيق ووعر لكنه مستقيم، إن زلت قدماي فبسبب ضعفي وخطيتي، إذ كثيرون يتعثرون في وصية الله كما يتعثرون في التجارب، لهذا فإنني في حاجة إلى العون الإلهي ليس فقط لأدخل الطريق وإنما لكي اثبت فيه حتى النهاية، هو الذي يبدأ وهو الذي يكمل وهو الذي يبلغ بي إلى النهاية. هذا ما دفع المرتل أن يصرخ إلى الله الذي ينتظر سؤالنا لكي يستجيب!

2.  طلبة من أجل الرحمة:

يثق المرتل في رحمة الله كعون إلهي له:

أ. نزول الله إلينا:

"أنا صرخت إليك لأنك سمعتني يا الله.

أمِل أذنيك يارب، واستمع كلامي" [6].

صرخة داود النبي تنبع عن خبراته القديمة مع الله أنه يشتاق أن يستمع ليستجيب.

ماذا يطلب المرتل في صرخته؟ أن يُميل الله أذنيه؟ أذن الآب التي تميل إليّ إنما هو ابن الله المتجسد، الذي نزل إليّ ليسمع صوتي ويستجيب. في خطايانا نيأس ولا نقدر على الصلاة، لكن ربنا الذي يمثلنا لدى الآب يصرخ عنا (1 كو 1: 30؛ رو 8: 34)، فيستجيب الآب؛ وهكذا تنفتح أبواب الرجاء أمامنا!

السيد المسيح هو أذن الآب خلاله يسمع صوتي، فيدخل الصوت مُبررًا، مقبولاً لدى الآب، موضع سروره! هو ينزل إليً لأن صوتي وحده عاجز عن أن يرتفع إلى الآب.

ب. إعلان خلاصه ومراحمه للذين عن يمينه:

"عجب مراحمك يا مخلص المتكلين عليه من الذين يقاومون يمينك" [7].

إذ ينزل مسيحنا إلينا يعلن مراحم الله العجيبة خلال دمه الثمين، واهب الخلاص للذين يؤمنون به ويتكلون عليه في حياتهم العملية اليومية. بالمسيح يسوع صرنا عن يمين الآب، نحمل قوته... الأمر الذي يثير عدو الخير فيقاومنا بشدة، وهنا يظهر عجب مراحم الله التي تحوّل المقاومة إلى نصرة!

تمتعنا بيمين الله لا ينزع الحرب عنا بل يثيرها بالأكثر، وفي الحرب نطلب نعمة الله بالأكثر لننال الغلبة ونكلل أبديًا!

ج. حفظه إيانا مثل حدقة العين:

"احفظنى يارب مثل حدقة العين" [8].

لا يوجد جزء من جسم الإنسان يحتاج إلى رعاية وعناية مثل العين، وقد وضعها الله في مكان أمين، إذ هى مستريحة بين عظام بارزة كحصن لها، وكأنها بأورشليم التي تحوط بها الجبال من كل جانب، غايتها التمتع بالرؤيا الصادقة لتدير الجسم كله في الوضع السليم، تنذر الجسم بالمخاطر وتكشف له عن الطريق. هكذا يحفظ الله النفس كالعين، يحوطها بكلماته كعظام قوية، أو كجبال الله المقدسة، وإذ تتقدس النفس (البصيرة الداخلية) يسلك الإنسان في طريق الله بلا لوم.

أحاط الله العين بغطاء الجفن وسياج الرموش، هكذا يسيج الرب بنعمته حولنا ويحمينا من زوابع البشر.

يتصرف المرتل هنا كطفل يحمل مشاعر رقيقة نحو الله، إذ يرى نفسه كالعين المحبوبة يحتضنها الله ويرعاها بنفسه.

تستطيع العين أن تُغمض عن شهوات العالم وملذاته الباطلة، فهى لا تحتمل أدنى الأتربة أو الغبار. هكذا يليق بالمسيحي أن يكره أقل دنس الخطية.

حدقة العين هى التي توجه النظر، تمكننا من التمييز بين النور والظلمة.

الخادم الحقيقي الذي يعمل بروح الرب يرى في شعب الله أنهم كحدقة عينه، كنور عينيه، لا يقدر أن يفقدهم. فلا نعجب أن سمعنا القديس يوحنا الذهبي الفم يقول:

[ليس شيء أحب إليّ أكثر منكم؛ لا، ولا حتى النور!

إني أود أن أقدم بكل سرور عينيَّ ربوات المرات وأكثر - إن أمكن - من أجل توبة نفوسكم!

عزيز عليّ جدًا خلاصكم، أكثر من النور نفسه! لأنه ماذا تفيدني الشمس إن أظلم الحزن عيني بسببكم؟![348]].

د. ستره لنا تحت جناحيه:

"وبظل جناحيك استرني من وجه المنافقين الذين اضعفوني" [8].

المحبة والرحمة هما جناحا الله، وكما يقول القديس أغسطينوس: [لتحمني مجبتك ورحمتك واهبة النعم كدرع!] ظل جناحي الله هما تشبيه للطائر الأم (إش 49: 2؛ هو 14: 7؛ مرا 4: 20)، أو إشارة إلى جناحي الكاروبيم المظللين على تابوت العهد المقدس، للحضرة الإلهية مع شعبه (خر 25: 20-22)، حيث يظهر الله على الكاروبيم ويجلس على عرشه هناك.

v   كثيرًا ما سمعت في الكتاب المقدس نسبة الأجنحة لله (مز 17: 8؛ 91: 4؛ تث 32: 11؛ مت 23: 37). جناحا الله يمثلان قوة الله وبركاته وعدم فساده وما إلى ذلك. كل هذه الخصائص الإلهية وُجدت في الإنسان حينما كان يشبه الله في كل شيء، لكن انحرافنا إلى الشر سلبنا أجنحتنا، ومن ثم أُعلنت نعمة الله لنا وأنارتنا. برفضنا الفساد والشهوات العالمية ينمو فينا جناحا القداسة والبر من جديد[349].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

هـ. حمايته لنا من الأعداء الأشرار:

"والآن أحاطوا بي.

نصبوا أعينهم ليميلوا في الأرض

أخذوني مثل الأسد المتهيء للصيد وكالأشبال التي تأوى في أماكن حفية" [10].

يرى داود النبي نفسه كمدينة تحوط بها الأعداء من كل جانب، لقد أغلقوا عليه كل منفذ ولم يطلبوا أقل من تحطيم حياته تمامًا؛ لم يكن أمامه إلا أن يرفع عينيه إلى فوق ليجد معونة من قِبل الله. يرى نفسه ومن معه أشبه بالفريسة التي يتعقب الصياد خطواتها لكي يصطادها؛ أو كفريسة يخطط الأسد لينقضّ عليها ويفترسها.

بعدما تحدث النبي بصيغة الفرد عاد وتحدث بصيغة الجماعة، وكأنه كرمز للسيد المسيح يعلن أن العدو لا يطلب مسيح الرب وحده وإنما يريد أن يلتهم كل كنيسته.

يرى بعض الآباء أن الأشرار هنا هم صالبوا ربنا يسوع المسيح الذين سمن قلبهم بالترف والطمع وقد انغلق عن معرفة الحق، لهم القلب السمين الضيق، أما أفواههم فتنطق بالكبرياء عوض تمجيد إسم الله.

v   هكذا انطلقت ألسنتهم باستهزاء وقح، قائلين: "السلام لك يا ملك اليهود" (مت 27: 29)...

من مدينتهم طردوني، وها هم يحيطون بي وأنا على الصليب... "أخذوني مثل الأسد المتهيء للصيد" [12]. أحكموا الخناق عليّ مثل العدو المنقض على فريسته: "وكالأشبال التي تأوى في أماكن خفية" [12].

إنهم ذرية (إبليس) وهم بشر، قيل عنهم: "أنتم من أب هو إبليس" (يو 8: 44)؛ لهذا دبروا مؤامراتهم ليُباغتوا البار ويهلكوه.

القديس أغسطينوس

في اختصار، هؤلاء الأعداء الأشرار:

أ. لا يهدفون إلى التمتع بنفع خاص بهم بل بالحري تدمير حياة الآخرين بلا سبب.

ب. هم منغلقون داخل قلوبهم السمينة [12]؛ هذا تعبير يشير إلى الغرور والترف. لا همّ لهم إلا الحياة المدللة المرفهة، ضيقوا الأفق والقلب بسبب قساوتهم وافتقارهم إلى الحب.

ج. متكبرون حتى في أحاديثهم، لأنه من فضلة قلوبهم القاسية تتكلم ألسنتهم.

د. ينصبون فخاخًا لاصطياد الآخرين [11].

هـ. المضطهدون وحوش مرعبة... وقد دعى القديس بولس نيرون أسدًا (2 تي 4: 17).

و. عداوتهم وعنفهم ليس عن احتياج، لأن الله لا يحرم حتى الأشرار من عطاياه الأرضية. بل على العكس يعيشون في ترف، بطونهم مملؤة بخيرات الله، يتركون فضلاتهم لأطفالهم [14].

3. توسل ضد الأشرار:

يقارن المرتل بين نصيب القديسين ونصيب الأشرار. نصيب القديسين هو الرب نفسه. يرونه وجهًا لوجه، يشبعون بلقائه ويصيرون مثله، إذ ينعمون بالشركة معه في قلوبهم كعربون للتمتع بالملكوت الأبدي. أما نصيب الأشرار فهو الانقسام في حياتهم:

أ. الله نفسه هو الذي يحارب عن قديسيه:

"قم يارب ادركهم وعرقلهم.

نج نفسي من المنافق وسيفك من أعداء يديك" [13].

أحاط الأعداء بالمرتل كوحوش مفترسة، لكنه يدرك أن عون الإنسان باطل، ولا رجاء له ما لم يظهر الله نفسه.

ب. سيف الله [13] هو كلمته التي تُستخدم كأداة للتأديب.

ج. رؤية الله أو نظر وجهه هبة إلهية ننالها خلال بره الذي يصيّر مؤمنيه على مثاله.

4. تمجيد لله:

"وأنا بالبر أترآى لوجهك

وأشبع عندما يظهر مجدك" [15].

تتحقق رؤية الله على الأرض بالإيمان، وفي السماء بالعيان وجهًا لوجه. نحن هنا نعاين مجد الرب كما في مرآة سميكة معتمة، كعربون لرؤيته في مجده خلال رؤى الخلود.

v   من يشترك في الإلهيات يعود إليها دائمًا جائعًا، والجائع ينال مواهب دون أن يخزى، وكما وعد الحكمة قائلاً: "لا يُجيع الرب نفس الصديق" (أم 10: 3)؛ ووعد في المزامير: "طعامها أبارك بركة، مساكنها أشبع خبزًا" (مز 132: 15). ونسمع صوت مخلصنا أيضًا: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون" (مت 5: 6)[350].

البابا أثناسيوس الرسولي

هكذا يختم المرتل المزمور بالتمتع برؤية الله والشبع بمجده الإلهي، فإن هذا هو غاية إيماننا، أن نراه ونشترك في أمجاده...

v   التأمل في الله وجهًا لوجه قد وعد به لنا ليكون نهاية سعينا ومنتهى مسراتنا.

القديس أغسطينوس

v   كل عقل حسب مقدار تدرجه يستنير بكمية محدودة من النور.

مار اسحق السرياني


صلاة

v   بك وحدك أتبرر، وبدونك أهلك، يا مخلصي!

v   تعهد قلبي ليلاً، كي لا يعرف النوم ولا التراخي،

أنره بروحك القدوس فلا اكون ابنًا لليل ولا للظلمة!

v   لتسندني كلمات شفتيك، ولتقدني وعودك الإلهية،

فأسلك طريقك الضيق الآمن، أعبر فيه إلى حضن أبيك!

v   أشكرك لأنك تحفظني كحدقة العين من تراب العالم،

وتسترني بظل جناحيك من ضربات العدو.

v   أيها الأسد الخارج من سبط يهوذا حطم أنياب إبليس،

الأسد المزمجر ليفترسني.

v   أرني وجهك، إشبعني بجمالك الإلهي!

[340] The Collegville Bible Comm., p. 58.

[341] C. Stuhlmeueller: The Psalms, p. 123.

[342] Gaeblein: Psalms, p. 220.

[343] W. Plumer, p. 220.

[344] Weiser, p. 180.

[345] Epistle 41:2.

[346] Epistle 244:7.

[347] From the six century: Letter to Cyriacus, 55.

[348] In acts, hom 3.

[349] Comm. On Canticle, 15.

[350] Pascal Letters  7:6.

اشترك في الترجمة الدكتور جورج كامل يوسف والدكتورا نورا العجمي