المزمور الثامن الأربعون

مدينة الملك العظيم

مزمور صهيون (الكنيسة):

أحد مزامير صهيون أو مزامير الكنيسة، كان يُسبح به لتمجيد الله العظيم ومدينته المملوءة مجدًا في موكب جماعي. وهو لا يفصل بين الله وكنيسته بل يقدم لهما صرخة تسبيح واحدة... لهذا يُحسب هذا المزمور تسبحة الله الممجد في كنيسته! فلا نعجب إن بدأ المزمور بقوله: "عظيم هو الرب" [1] وينتهي هكذ: "هذا هو إلهنا إلى الأبد وإلى أبد الأبد، وهو يرعانا إلى الدهر" [14]، فإن الكنيسة في جوهرها هي "حياة مع الرب وفيه"، فيها يُعلن مجد الرب العظيم، وتتجلى رعايته الفائقة وتُختبر نعمته العجيبة المجانية. جمال الكنيسة وبهاؤها وقوتها ونموها إنما في اتحادها مع الله وارتباطها بالسيد المسيح بكونها جسده.

يدعوها المرتل: "مدينة الملك العظيم" [2]، وقد أشار السيد المسيح إلى هذا اللقب في موعظته على الجبل (مت 5: 35). حضوره فيها هو سرّ مجدها [1-2]، وأمانها [3-8]، وفرحها وتسبيحها وبرها وشهادتها [9-14].

كلما تطاع المرتل إلى صهيون بروح الفرح والتهليل في الرب، فيقول: "تتسع كل الأرض بالتهليل" [2]، "في أقطار الأرض يمينك مملوءة عدلاً" [10]. وكا قيل في إشعياء النبي: "وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب، فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل الخ" (إش 2: 3-4).

مناسبته:

ربما كانت المناسبة هنا هي ذاتها التي كانت للمزمورين 46، 47. هناك خصائص مشتركة بينه وبين المزمور 46، على الأقل من جهة جوّه المفعم بالابتهاج الغامر بعد خلاص عظيم. المزامير الثلاثة (46-48) تركز على "الثقة في الله" بكونه ملجأ لنا (46) وملكنا (47، 48)[920].

يرى البعض أن المزمور قد أشار ربما إلى حصار سنحاريب عام 701 ق. م. [4-8]. ويرون آخرون[921] أنه يُقدم خبرة سائح جاء يحج إلى مدينة أورشليم، مبديًا إعجابه بعظمتها ومُنصتًا لتقرير موجز عن بقائها إثر حروب عديدة وحضارات متنوعة، متطلعًا إلى كل جزء منها كشاهد حيّ عن معاملات الله مع شعبه، ورعايته الفائقة للمؤمنين؛ وإذ يعود إلى بيته يخبرهم بما رأه وسمعه وأحسَّ به!

الهيكل العام:

1. مدينة الملك العظيم       [1-3].

2. المدينة التي لا تُقهر      [4-8].

3. مدينة متعبدة متهللة       [9-11].

4. مدينة شاهدة لإلهها       [12-14].

العنوان:

"تسبحة مزمور لبني قورح"، وبحسب الترجمة السبعينية: "تسبحة لبني قورح، في ثاني السبت"

1. يرى القديس غريغوريوس أن المزمور كله يتكلم على لسان الراجعين من السبي البابلي، أن "السبت" معناه "الراحة"، وهم قد عادوا ثانية إلى راحتهم، يسبّحون الله ويشكرونه. هذا هو معنى عنوان المزمور "لثاني السبت"[922]؛ ولعله يقصد بذلك "الرجوع الثاني".

2. يرى القديس أغسطينوس أن "ثاني السبت" تعني اليوم الثاني من الخلقة، حيث قال الله: "ليكن جلد"... ودعا الله الجلد سماءً (تك 1: 6-8). يقول إن السبت الأول أو "أول السبت" هو يوم الرب، أما السبت الثاني فهو يوم كنيسة المسيح؛ أبناء الكنيسة هم أبناء الجلد أو أبناء السماء الذين لا يخضعون للتجارب. [إنهم يستحقون اسم "الجلد". إذن فكنيسة المسيح التي في هؤلاء الأقوياء الذين يقول عنهم الرسول: "فيجب علينا نحن الأقوياء أي نحتمل ضعفات الضعفاء" تُدعى "الجلد"].

1. مدينة الملك العظيم:

"عظيم هو الرب؛

ومسبح جدًا في مدينة إلهنا على جبله المقدس" [1].

يرى البعض أن هذا المزمور هو منجم يحوي ألقابًا ثمينة للكنيسة، مدينة الله: (مدينة إلهنا، جبله المقدس، جبال صهيون، جوانب الشمال، مدينة الملك العظيم، مدينة رب القوات الخ...) كل لقب يكشف عن جانب من جوانبها الحية.

* مدينة إلهنا... أي المدينة التي نلتقي فيها مع الله بكونه إلهنا المنتسب إلينا، نلتقي به خلال علاقات شخصية، بدخولنا معه في عهد وميثاق. فالكنيسة هي التقاء الله مع شعبه الخاص ليوقّع بآخر قطرة من دمه الثمين على ميثاق الحب الذي أُعلن بالصليب.

* جبله المقدس... هي مدينة الله القدوس، لذا ترتفع كالجبل، تشهد أمام الكل بقداسته خلال ممارستها الحياة المقدسة وشركتها معه. إنها كالجبل الذي لن تهزه عواصف التجارب!

* جبال صهيون... (صهيون تعني حصنًا)؛ إنها الجبال التي نجد فيها حصانة بالله حصننا وسورنا!

* جوانب الشمال... يرى البعض أنها إشارة إلى السحاب القادم على أورشليم، فتعطيها خصوبة وثمارًا. ويرى آخرون أن الشمال يشير إلى الأعداء حيث كان الآشوريون على شمالهم، فهي مدينة مُحاربة من الأعداء على الدوام، لكنها غالبة ومنتصرة.

* مدينة الملك العظيم... حيث يتربع فيها ملك الملوك، ليقيم من شعبه ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6).

* مدينة رب القوات... مرهب كجيش بأولية (نش 6: 4، 10) تحت قيادة الرب نفسه واهب النصرة.

واضح أن جمال الكنيسة وقداستها ونصرتها يقوم على انتسابها لله الساكن فيها، والذي يتربع في داخلها كملك. لقد نزل السماوي إلى العالم ليقيم كنيسته مجيدة بلا عيب ويؤهلها للحياة السماوية، لهذا يُسبح المرتل لله قائلاً: "عظيم هو الرب؛ ومسبح جدًا في مدينة إلهنا على جبله المقدس" [1].

v   عظيم هو الرب في الجوهر والقدرة والعمل، لذلك تسبحه خلائقه الناطقة. وأما مدينته ففيها صار جلاله معروفًا للكل... ولأنه تصرف فيها بنفسه، وصنع تدبير تجسده فقال إنها مدينته وجبل قدسه.

أيضًا يُقال مدينته للساكنين بسيرة مرضية أمامه.

وكنيسته المقدسة هي أيضًا مدينته لسكناه فيها.

وهي جبل قدسه لما فيها من علو شرف المعتقدات الإلهية، كأنها قائمة للبناء على جبلٍ عالٍ، يراها كل ذي بصيرة فيتخذها منهجًا لخلاصه.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

دُعيت مدينة لأنها تضم جماعة المؤمنين، فهي لا تقوم على فرد معين أو أفراد بل هي مسكن الله مع جميع المؤمنين منذ آدم إلى أخر الدهور، كل يتمتع بلقاء شخصي ومعاملات شخصية مع الله دون اعتزاله الجماعة المقدسة. عُزله الإنسان لجماعة المؤمنين تحول قلبه من مدينة الله إلى قفر، فإن المدينة التي لا يوجد فيها إلا شخص واحد هي أقرب إلى الخراب مهما كانت إمكانياتها.

يرى الأب مار اسحق السرياني أن الذي يلتقي مع الله خلال دائرة الحب، يقيم الله ملكوته فيه ويتجلى في داخله، كما يلتقي مع ملائكة الله وقديسيه.

دُعيت أيضًا جبله المقدس لأجل رسوخها في الإيمان وثباتها، لا تقدر التجارب أن تزعزعها؛ كما تُشير إلى سمو عقائدها وحياتها. وقد رآها دانيال النبي جبلاً عظيمًا جدًا يملأ الأرض، انطلقت خلال الكرازة بالسيد المسيح حجر الزاوية المقطوع بغير أيدٍ وقد نما هذا الإيمان في كل المسكونة.

v   لقد وُجد حجر زاوية معين مرذول، بينما تعثَّر فيه اليهود، قُطع بغير أيدٍ من جبل معين، أي جاء من مملكة اليهود بغير أيدٍ، لأنه لم تكن ولادة المسيح من مريم بزرع بشر... ماذا تقول نبوة دانيال إلا ذاك الحجر الذي نما وصار جبلاً عظيمًا؟ أية عظمة؟ لقد ملأ وجه الأرض كلها. إذ نما وملأ وجه الأرض بلغ ذلك الجبل إلينا. فلماذا إذن نطلب نحن الجبل كأنه غائب وليس كحاضر نصعد إليه؟! ليصير الرب فينا "عظيمًا"، ومُسبح جدًا.

القديس أغسطينوس

"أحسن أصلها بهجة لكل الأرض،

جبال صهيون،

جوانب الشمال،

مدينة الملك العظيم" [2].

إذ رأى في كنيسة العهد الجديد المدينة التي يجتمع فيها الله بشعبه والجبل الذي ملأ الأرض وقد حمل قداسته وبره يعلن عن بهائها وجماله، وعن دورها كبهجة كل الأرض. يرفضها العالم ويرذلها ويهينها ويضطهدها طالبًا الخلاص منها، أما هي فكعريسها بجماله الروحي تعلن حبها للعالم، تعمل كخامة باذلة، لكي تجتذب حتى المضايقين إلى فرح الرب وبهجته. إنها تكرز بالحياة الإنجيلية، بالأخبار السارة التي تحقق خلاصنا في استحقاقات الصليب، وتكشف عن الحب الإلهي المُسجل بالدم الثمين المبذول، لتدخل بالكل كأبناء لله الآب، وتهبهم عطية الروح القدس واهب الحياة والقداسة.

إنها تدخل بالأمم إلى العرش السماوي، إلى الفرح الأبدي كعذارى حكيمات، لكنهن لسن مدللات ولا متراخيات، وإنما كجبال شامخة، لذا يدعوهن "جبال صهيون"

v   صهيون هي جبل واحد، فلماذا يقول: "جبالاً"؟ ذلك لأن صهيون تنتمي أيضًا إلى القادمين من كل جانب، ليلقوا معًا على حجر الزاوية، ويصيروا حائطين، كما لم كانا جبلين، واحد من الختان والآخر من الغرلة؛ واحد من اليهود والآخر من الأمم، ومع التنوع لا يوجد اختلاف، أنهم جاءوا من جهات متنوعة والآن هم في الزاوية (معًا)...

القديس أغسطينوس

تجتمع الكنيسة كلها معًا، مع ما فيها من تنوع في المواهب والقدرات والإمكانيات، باتحادها معًا في حجر الزاوية ربنا يسوع، ليبعث إليها روحه القدوس كسحاب ذهبي يفيض عليها بمياه الحياة لتحولها إلى جنات تحمل ثمر الروح.

v   تأتي سحب ذهبية اللون من الشمال؛ عظيم هو مجد القدير وكرامته! عظيم هو مجد الطبيب، الذي يشفي المريض اليائس.

"من الشمال تأتي السحب"، ليست سحبًا داكنة ولا مظلمة ولا سفلية بل ذهبية اللون. أليس إلا أنها تستنير بالمسيح؟ أنظر فإنه من جوانب الشمال مدينة الملك العظيم.

القديس أغسطينوس

مادامت الكنيسة على الأرض تبقى مُحاربة كما من الشمال، كما فعل الآشوريون الذين جاءوا إلى أورشليم لمحاصرتها وسبيها... لكنها تبقى الكنيسة "مدينة الملك العظيم" التي لا تُحطمها هجمات العدو المتتالية. وللشمال أيضًا معانٍ أخرى كما سنرى:

v   يدعوها النبي "جوانب الشمال"، وذلك لأجل استتارها لصغرها كاختفاء جوانب الشمال، إذ تخفيها شوامخ الجبال...

وأيضًا لأن الآشوريين الذين كانوا يمارسون السطوة بالقتال ضد اليهود، وكانت بلادهم من ناحية الشمال... فمع كونها محاربة من أهل الشمال لم تكف عن أن تكون مدينة الملك العظيم.

وأيضًا يدعو الأنبياء الأمم "أهل الشمال"... بمعنى أن الأمم المدعوين أهل الشمال مزمعون أن يصيروا مدينة الملك العظيم ومسكنه لقبولهم الإيمان بالمسيح.

وأيضًا لأن الشريعة القديمة قد أمرت بأن يُذبح حمل الذبيح في جانب المذبح من ناحية الشمال. فكان ذلك رمزًا لحمل الله ربنا يسوع المسيح الذي ذُبح لأجل مغفرة خطايا العالم، هذا الذي يشمل بنظره الأمم ويجعلهم خاصته، ومدينته الحصينة يحوطها بجبال ثابته، أي بالرسل القديسين والملائكة الحارسين.

الأب أنثيموس الأورشليمي

تظهر الكنيسة كمدينة الله الملك العظيم وقصره، أما المؤمنون فيظهرون بكونه شرفاته التي من خلالها يظهر الملك بكل أعماله العجيبة، خاصة عهده مع كنيسته، بل ومع كل عضو فيها، يتهم بها كجماعة مقدسة وكأعضاء، كمدينة واحدة وكشرفات عديدة، يقصد الكل بكلمته ووعوده، وبعمله الخلاصي على الصليب، ويهتم بمن لا معين لهم... فهو أب الأيتام وقاضي الأرامل ومنصف المظلومين.

"الله يُعرف في شرفاتها

إذا ما هو نصرها" [3].

2. المدينة التي لا تُقهر:

بعد أن قدم لنا الكنيسة كحياة جماعية تمارس العلاقة الشخصية مع الله إلهها، ثابتة كالجبل لا تُزعزعها التجارب، مقدسة بسكنى القدوس فيها، ومتسعة لتضم الأمم والشعوب بروح الفرح والتهليل، تتمتع بسحب الشمال التي تمطر عليها مياه النعمة الإلهية المجانية، شاهدة لعريسها بواسطة أعضائها كشرفات أو قصور يسكنها الملك العظيم، يقدمها لنا ككنيسة مضطهدة. هذا الاضطهاد أو الضيق هو سمة أساسية لعروس الملك المصلوب.

ما أن يُمارس الإنسان الحياة الكنيسة الصادقة الإنجيلية، ويمتلئ قلبه إتساعًا للبشر وحبًا لله والناس حتى يهيج العالم ضده. يُحارب من الخارج والداخل، يجاربه أحيانًا الأحباء بل وجسده، لهذا يقول المرتل:

"هوذا قد اجتمع ملوكها وأتوا جميعًا.

هم أبصروا وهكذا تعجبوا،

اضطربوا وقلقوا.

أخذتهم الرِعدة.

هناك أخذهم المخاض كالتي تلد.

بريح عاصفة تُحطم سفن ترشيش" [4-7].

v   اجتمع ملوك الأرض والرؤساء وجاءوا إلى أورشليم، ولكنهم إذ رأوا قوة الله التي كانت ضدهم أخذهم العجب واضطربوا، وحلت بهم أوجاع مثل مخاض الوالدة. هذا أيضًا ما حدث مع من حاربوا كنيسة المسيح.

يذكر النبي ترشيش أغنى سواحل البحر، فيقول إنه كما تكسر الريح العاصفة السفن في شاطئ البحر، كذلك أنت تحطم الأعداء وتسحقهم، وتطحن قوتهم.

أنثيموس أسقف أورشليم

اعتاد الأعداء أن يجتمعوا على مقربة من أورشليم للتشاور فيما بينهم كيف يهاجمونها، لكن مشاوراتهم لم تكن تكمل، وكانوا يتركون المدينة وهم في دهشة. كان منظرها المملوء عجبًا يربكهم فيهربون.

يقدم المرتل تشبيهين للرعب الذي يحل بالملوك:

1. المرأة وهي تلد؛ يشير هذا التشبيه إلى حلول الرعب فجأة وبشدة. يرى القدي أغسطينوس أن هذه التشبيه يعني أن غاية الخوف هو أن تتم ولادة طفل جديد... [إذ يحبل الملوك بخوف المسيح، أي بالمخاض يلدون خلاصًا، إذ يؤمنون بذاك الذي يخافونه. "أخذهم المخاض كالتي تلد"، عندما تسمع عن مخاض توقع ولادة. الإنسان العتيق يتمخض والجديد يُولد].

2. سفن ترشيش التي اشتهرت بعظمتها وكبر حجمها وقوتها. البعض يرى أن كلمة "ترشيش" هنا معناها "محيط" أو "بحر"، وكأنه يقصد سفن البحار أو المحيطات[923]. وكما أن الريح العاصفة (الشرقية) تُحطم سفن ترشيش، هكذا روح مسيحنا يُحطم مملكة الظلمة التي تأسست في قلوب الخطاه، وذلك متى قبلوا عمل نعمة الله فيهم. أما الذين يرفضون النعمة فإن الروح يُحطمهم بذات المتعب التي جلبوها على كنيسة المسيح.

بهذين المثلين أوضح أن المقاومة للكنيسة حتمًا تنتهي بالفشل، أما المقاومون فإن قبلو خوف الله يؤمنون فيهلك شرهم، ويتمتعون بميلاد الإنسان الجديد فيهم، وإن رفضوه هلكت نفوسهم بشرهم.

v   بالحقيقة يتحدث (المرتل) عن كلاً من الحزن والفرح المقبلين، حزن بسبب الدينونة وفرح بالمغفرة[924]!

القديس أمبروسيوس

يرى القديس أمبروسيوس أن المرأة التي تلد هي النفس التي تحبل خلال عمل الكلمة، فإنها تُعاني من الآلام مادامت لم تنجب بعد، أما إذا ولدت طفلاً فتفرح. وسفن ترشيش هي سفن الروحية المحملة بذهب سليمان وفضته، أي أجسامنا التي تحمل كنزًا في أوانٍ خزفية كقول الرسول[925]. وكأن من يؤمن بالسيد المسيح بدلاً من مقاومة عمله يتمتع بميلاد الإنسان الجديد (في مياه المعمودية) ويحمل الكنز الحقيقي في داخله وهو في أمان!

يختم المرتل حديثه عن الكنيسة التي لا تُقهر، قائلاً:

"كمثل ما سمعنا كذلك رأينا،

في مدينة رب القوات،

في مدينة إلهنا،

الله أسسها إلى الأبد" [8].

قد سمع المرتل عبر التاريخ عن أعمال الله العجيبة في مدينته المقدسة، وخلال خبرته عاين بنفسه ما قد سبق فسمعه. فإن التاريخ والخبرة هما معلمان عظيمان يقدمان درسًا واحدًا هو اهتمام الله الفائق بكنيسته.

v   ما قد سمعناه نراه في الواقع العملي، أعنى نصرات وغلبة وعناية الله، وعجائب مذهلة[926].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   يا لها من كنيسة مطوَّبة! في وقت ما تسمع، وفي وقت آخر ترى.

لقد سمعت وعودًا، وترى تحقيقها.

سمعت نبوات، وترى إنجيلاً، لأن كل ما ما يتحقق الآن سبق فتُنبا عنه... أين تسمعين، وأين ترين؟ "في مدينة رب القوات، في مدينة إلهنا؛ الله أسسها إلى الأبد".

القديس أغسطينوس

v   أعني أن الأعمال التي صنعها قديمًا في مصر وفي برية سيناء وفي أرض كنعان قد سمعناها، وهي موجودة في الكتب ومنقولة بلسان الناس، ولكن الآن نراها صائرة عيانًا في أورشليم مدينتك التي ثبتها إلى الدهر.

ولكن إن قلت يا هذا إن كانت أورشليم قد ثبتها إلى الدهر، فلماذا خربها عساكر الرومان؟ نجاوبك أن الدهر هنا لا يكون بمعنى الأزلي، إذ تقول النبوة عن حزقيال الملك: "حياة سألك فأعطيته طول الأيام إلى الأبد وإلى أبد الأبد" (مز 21: 4)... كذلك هنا أيضًا قول النبي إن أورشليم: "يُثبتها الله إلى الأبد" يعني إلى زمان ما.

هذا القول أيضًا نبوة عن أورشليم العقلية التي هي كنيسة المسيح التي ثبتها الله على صخرة الإيمان ولن تقدر أبواب الجحيم أن تزعزها كما قال ربنا له المجد.

أنثيموس أسقف أورشليم

3. مدينة متعبدة متهللة:

إن كانت الكنيسة كمدينة الله المقدسة مُحَاربة على الدوام، لكنها تبقى المدينة التي لا تتزعزع ولا تُقهر، لذلك فهي تبقى في شكرها متعبدة له، تسبحه على الدوام بروح الفرح والتهليل وكأن الضيق لا يفقدها سلامها، بل بالعكس يدفعها لتمارس الحياة السماوية الشاكرة المتهللة.

"ذكرنا يا الله رحمتك في وسط شعبك.

نظير اسمك يا الله كذلك تسبحتك؛

في أقطار الأرض يمينك مملؤة عدلاً (برًا).

فليفرح جبل صهيون ولتتهلل بنات اليهودية

من أجل أحكامك يارب" [9-11].

سبق فقال: "سمعنا... رأينا"، الآن يقول: "ذكرنا"... سمع عن معاملات الله مع كنيسته في الماضي، ورأى بنفسه أنها معاملات حية ودائمة، لهذا يشهد أمام الشعب ليؤكد أن السيد المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. هو العامل في الماضي ويعمل في الحاضر وسيبقى عاملاً إلى الأبد. هذا مفهومنا للتقليد الحيّ الذي يتكئ على الماضي ليعلن عن حيويته في الحاضر ويسلمه للأجيال المقبلة وديعة إيمان حيّ وفعّال.

هذا التقليد المتأصل في الماضي ويعمل في الحاضر ويبقى عاملاً في المستقبل يبعث في الكنيسة روح الفرح والتهليل من أجل أحكام الله، سواء كانت في وقت الفرج أو الضيق.

v   لقد اختبرنا يا الله إحساناتك التي صنعتها مع شعبك عيانًا، لكن ليس من أجل فضائل صارت منا وإنما من أجل وفرة رحمتك وتحننك...

نظير اسمك كذلك هو فعلك، الذي من أجله يسبحك الناس في أقاصي الأرض كلها. صلاحك ليس أمرًا مكتسبًا وإنما هو من جوهرك، لأن الشمس بطبيعتها تنير وتحرق، كذلك من طبع لاهوتك تنير الأصفياء وتعاقب الأشرار... وأيضًا يمين الله أي ابنه الوحيد هو مملوء عدلاً، لأنه يحل المقيدين ويطلقهم، وينير المُظلمِّين ويقّوم المنسحقين...

يدعو النبي رجالاً ونساءً إلى الفرح والسرور من أجل إنعام الله عليهم من منح وخيرات. جبل صهيون هو الكنيسة الراسخة الأساس... وبناتها هي نفوس المؤمنين وسائر هياكل الله التي في المسكونة، فإنها تفرح وتبتهج من أجل ما أنعم بها الله عليها من مواهب فاخرة.

الأب أنثيموس أسقف أورشليم

v   يا جبل صهيون، ويا بنات اليهودية؛ أنتم الآن تتعبون وسط الزوان والقش، تتعبون وسط الأشواك، ولكن أفرحوا من أجل أحكام الله، فإن الله لن يخطئ في حكمه...

لا تفكر في بنات اليهودية أنهن اليهود. فإن "اليهودية" تعني "الاعتراف"، فكل أبناء الاعتراف هم أبنا اليهودية؟

القديس أغسطينوس

هكذا يرى المرتل الكنيسة كجماعة متعبدة متهللة بالله من أجل أعماله وأحكامه. فإبراهيم لن ينسى المُريّا، ويعقوب لن يسى بيت إيل...

4. مدينة شاهدة لإلهها:

إذ يختبر جبل صهيون أو بنات اليهودية أعمال الله الخلاصية والتمتع بالنصرة، ينطلقون كما في موكب لفحص عمل الله معهم. وذلك كما حدث مع نحميا حينما انتهى من بناء السور إذ جعل فرقتين تدوران حول السور أثناء التدشين بروح الفرح والتهليل يفحصون عمل الله معهم (نح 12)، وقد قيل: "فرحوا لأن الله فرّحهم فرحًا عظيمًا وفرح الأولاد والنساء أيضًا، وسُمع فرح أورشليم عن بعد" (نح 12: 43). إنهما موكبا الشكر لله الصانع بشعبه عجائب!

"طوفوا بصهيون ودوروا حولها؛

تحدثوا في أبراجها

ضعوا قلوبكم في قوتها

واقتسموا شرفاتها.

لكيما تخبروا بهن في جيل آخر.

إن هذا هو إلهنا إلى الأبد وإلى أبد الأبد.

وهو يرعانا إلى الدهر" [9-14].

يليق بالذين تمتعوا ببركات الخلاص الذي يسمو بهم كصهيون المرتفعة أن يطوفوا حول الشعب ويدوروا في البلاد يحدثون عن هذا العمل الإلهي العجيب. أنهم يتحدثون عن الأبراج العالية التي يقيمها روح الله لكي يختفي فيها المؤمنون ويتحصنون من ضربات العدو، يضعون ثقتهم في قوة الكنيسة التي هي "الحياة في المسيح يسوع" ويتمتعون بشرفاتها، أي بعطايا الله خلال كنيسته. هذا هو الله محب كنيسته التي يرعاها مدى الدهور حتى يأتي على السحاب ليأخذها معه. هذا هو موضوع شهادتنا للجيل القادم. هذه هي وديعة الإيمان أي التسليم الحيّ أو التقليد المُختبر الذي نقدمه بحياتنا كما بكلماتنا. فإنه كيف نتحدث عن أبراج الكنيسة وشرفاتها، أي عن حصونها المنيعة وغناها ما لم نكن نحن أبراجًا وفي غنى روحي، لهذا يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [أعتقد أنه يلمّح هنا إلى أولئك الذين احتضنوا الكلمة (اللوغوس) بطريقة سامية ليصيروا أبراجًا عالية، وليرسخوا بثبات في الإيمان والمعرفة[927]].

 


مدينة رب القوات

v   عجيب أنت أيها الرب،

فقد أقمت من شعبك مدينة خاصة بك،

وجعلتهم جبلاً مقدسًا تعلن فيه قداستك.

v   نزلت إلينا كحجر الزاوية المرفوض،

فجمعتنا من كل الأمم والشعوب لتقيم منا مدينتك المقدسة!

وملأت الأرض كلها فرحًا،

إذ أقمت ملكوتك في داخلنا!

v   ليجتمع العالم كله ضد كنيستك،

فتبقى هي مدينة الملك العظيم.

يرى الكل يدك العجيبة،

لعلَّهم يقبلونك ويخافوك!

v   عجيب أنت يارب القوات،

تعلن رحمتك وسط شعبك،

وتقيم منهم أبراجًا عالية،

وتجعل منهم شرفات فخمة!

v   سمعنا من الأجيال السابقة عنك،

وها نحن نرى بأعيننا عملك معنا،

ليُقدسنا روحك القدوس فنخبر بحياتنا الجيل القادم.

v   اجتذبتنا من كل الأمم ككنيسة مقدسة لك،

أقم هيكلك في كل نفس،

واحملنا جميعًا إلى هيكلك السماوي،

إلى مدينة أورشليم العليا،

مسكن الله مع الناس!

[920] Wycliffe Bible Commentary, Ps. 48.

[921] Stuhmueller: The Psalms, p. 246.

[922] تفسير المزامير لأنثيموس أسقف أورشليم، مزمور 47.

[923] W. Plumer: The Psalms, p. 534.

[924] The Prayer of Job and David, 5: 15.

[925] Ibid.

[926] Lazarus: The Psalter, p. 56.

[927] Stromata 7: 13.