الأصحَاح العاشر

الكرمَة الذابلة

كثيرًا ما يشبِّه الله شعبه بالكرمة (إش5، مت 21: 33) طالبًا منها عنبًا لحساب ملكوته، هو ثمر تعبه وسهره عليها، ولكنها قد تمتعت بعطايا كثيرة وإمكانيات إلهية جبارة لم تثمر لصاحب الكرم، إنما قدمت ثمرها لحساب عدوه إبليس، لذا يحكم عليها بالجفاف والعقم حتى تدرك ضعفها وفساد طبيعتها فتطلب منه تغييرًا جذريًا في كيانها.

1. انحراف الكرمة 1-8.

2. فسادها الداخلي 9-11.

3. الحاجة إلى زرع جديد 12-15.

1. انحراف الكرمة

استخدام الله تشبيهات كثيرة ليكشف بها مدى فساد الشعب حين ينحرف عن الله، أو عن مدى فساد النفس البشريّة بارتدادها عن مخلصها، فشبَّه شعبه بامرأة حبيبة صاحب، وزانية (3: 1)، بقرة جامحة (4: 16)، خروف يرعى في مكان واسع للذبح (4: 16)، ناقلي التخوم (5: 10)، تنور مُحمى من الخباز (7: 4)، خبز مَلَّة لم يقلب (7: 8)، حمامة رعناء بلا قلب (7: 11)، حمار وحشي معتزل بنفسه (8: 9)، طائر من الولادة ومن البطن ومن الحبل (9: 11)، صور مغروس في مرعى (9: 13)، راعي الريح وتابع الريح الشرقية (12: 1)... وهنا يشبه بالكرمة التي قدّم لها كل إمكانيات الإثمار بفيض فأثمرت لا لحسابه بل لحساب الخطية والرجاسات. يقول: "إسرائيل جفنة (كرمة) ممتدة، يخرج ثمرًا لنفسه" [ع1]. إنها كرمة ممتدة، وكما جاء في الترجمة السبعينية "كرمة بفروع صالحة ثمرها وفير". إنها بلا عذر فقد خلقها بطبيعة صالحة وأعطاها قوة النمو، فصار لها فروع كثيرة تحمل ثمارها، لكنها أخرجت الثمار لنفسها، أيّ لفكرها الذاتي وليس في خضوع للكرام الحقيقي.

يا للعجب بقدر ما يهبنا الله إمكانيات وطاقات نستخدمها لا لمجد اسمه، وإنما بفكرنا الذاتي لحساب شهوات جسدنا الشريرة، وكما يقول: "على حسب كثرة ثمره قد كثر المذابح على حسب جودة أرضه أجاد الأنصاب (التماثيل)" [ع1]. هكذا يرد الإنسان سخاء الله وحنوه بالجحود.

"قد قسّوا قلوبهم" [ع2] فانحراف البعض إلى إله، والآخرين إلى إله آخر، وهكذا تمزقت قلوبهم؛ أو لعل قلوبهم قد انقسمت بين محبة الشهوات المرتبطة بعبادة البعل وبين الرغبة في إراحة ضمائرهم بممارسة العبادة لله الحيّ بطريقة شكلية بلا روح، فصاروا يعرِّجون بين الفريقين. لم يعد قلبهم مستقيمًا، لذلك يصرخون إلى الله ولكن ليس بكل قلبهم، فلا يجدونه... إذ لا يقدر القلب المنقسم أن يلتقي مع القدوس أو يتعرف عليه.

انقسامات القلب الداخلي تفقده مخافة الرب، الأمر الذي له نتائجه في حياة الجماعة وكل عضو فيها. من جهة الجماعة يفقدون مخافة الرب وبالتالي يفقدون خضوعهم حتى للسلطان الزمني، فلا يكون لهم قائد قادرًا على تدبير أمورهم، إذ يقول: "إنهم الآن يقولون لا ملك لنا لأننا لا نخاف الرب، فالملك ماذا يصنع بنا؟!" [ع3]. أما بالنسبة للعضو فإنه إذ يفقد مخافة الرب خلال انقسامات قلبه يفقد إرادته الحقة المقدسة في الرب التي يُرمز لها بالملك، فيسلك الإنسان كمن هو بلا إرادة ، ليعيش في مذلة لكل شهوة وخضوع للعادات الشريرة، غير قادر أن يعطي قرارًا روحيًا في الرب لينعتق من استعباد إبليس له... إنه يسلك كمن بلا ملك. على العكس المؤمن النقي القلب، الذي بلا انقسام، يحمل سلطانًا كملك روحي يقول لهذا الفكر أن يدخل فيدخل، ولذاك أن يخرج فيخرج؛ يسيطر بالرب على أفكاره ونظاراته وأحاسيسه وعواطفه بقوة.

إذ يفقد الإنسان سلطانه الروحي وطبيعته الملوكية (السماوية) يتحول من رجل الله العامل إلى إنسان صاحب كلام... "يتكلمون كلامًا بأقسام باطلة، يقطعون عهدًا، فينبت القضاء كالعلقم في أتلام الحقل" [ع4]. يتجولون إلى أصحاب كلام بلا عمل، وإذ يشعرون بضعفهم يؤكدون كلماتهم بأقسام باطلة لا يفون بها، ويقطعون عهودًا يكسرونها، فيصير القضاء كحقل مفلح محروث ينبت علقمًا مرًا. هكذا إذ يجتمعون في مراكز العدالة (القضاء) ليقسم الكل بالكذب ويتعهدون ولا يفون تتحول مواضع الأمان إلى مرارة النفس.

هكذا الكرمة الممتدة التي وهبها الله إمكانيات كثيرة للإثمار، إذا تقوقعت حول ذاتها لتثمر لحساب "الأنا" ولحساب البعل، رافضة أن تقدم ثمرًا للكرام الحقيقي، فقدت مخافة الرب ودخلت إلى انقسام في القلب انتهى بحرمانها من الملك أيّ الإرادة المقدسة، وانتزع كل سلطان منها. لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تتحول حياتها إلى نحيب وإلى رعدة إذ تفقد مجدها الداخلي، وترى آلهتها التي اختارتها لنفسها تنهار أمام عينيها. يقول النبي: "على عجول بيت آون (الباطل) يخاف سكان السامرة ، إن شعبه ينوح عليه، وكهنته يرتعدون على مجده لأنه انتفى عنه" [ع5]. ماذا يعني بهذه العبارة؟ يتطلع سكان العاصمة أيّ السامرة إلى عجول بيت آون، أو بيت الباطل، ليروه قد فقد مجده، إذ سقط الشعب تحت الضيق ولم تقدر العجول أن تخلصه، فيخاف شعب السامرة أن يحل بها ما حل ببيت آون ويرتعب الكهنة لأنهم يفقدون كرامتهم ويخسرون التقدمات.

 إذ فقد شعب السامرة رجاءهم في البعل، عوض أن يرجعوا إلى الله بالتوبة معلنين خطاياهم، يتقدمون إلى ملك آشور بهدايا ليسترضوا وجهه وهم في خزي وعار... "هو أيضًا يجلب إلى آشور هدية لملك عدو" [ع6].

ما هي نهاية هذه الكرمة المنحرفة؟ "يأخذ إفرايم خزيًا، ويخجل إسرائيل على رأيه. السامرة ملكها يبيد كغثاء على وجه الماء، وتخرب شوامخ آون خطية إسرائيل. يطلع الشوك والحسك على مذابحهم ويقولون للجبال غطينا وللتلال أسقطي علينا" [ع6-8].

في اختصار نقول أن نهايتها تنحصر في الآتي:

ا. "يأخذ إفرايم خزيًا"... السبط الذي كان يتزعم حركة نشر العبادة الوثنية يصير في خزي وعار أمام بقية الأسباط، إذ تظهر الآلهة ضعيفة أمام العدو.

ب. "يخجل إسرائيل على رأيه" إذ اقترح إسرائيل استرضاء ملك آشور بالهدايا، يخجل إذ يرى آشور يذله ويستخف به.

ج. "السامرة ملكها يبيد كغثاء على وجه الماء" ملوك السامرة الذين انشقوا على بيت داود في قوة وجبروت، صاروا كفقاقيع على الماء، ينتهي ملكهم بالسبي تحت سلطان آشور. هذه هي نهاية كل انقسام أو انشقاق، فهما نال الإنسان في البداية من كرمات لكن حياته تنتهي كفقاقيع على وجه الماء.

د. "تخرب شوامخ آون خطية إسرائيل"؛ ما كان في أعينهم أماكن مرتفعة لا يقدر أحد أن يقترب إليها يحل بها الخراب، وينهار مجد عجول بيت آون الذهبية، وعوض الولائم التي كانت تقام هناك يحل الخراب.

ه. يسقط الإنسان تحت اللعنة إذ "يطلع الشوك والحسك على مذابحهم"؛ أما في يوم الرب العظيم فيقولون "للجبال غطينا وللتلال أسقطي علينا" إذ "مخيف هو الوقوع في يديّ الله الحيّ" (عب 10: 36)، وكما جاء في سفر الرؤيا: "وهم يقولون للجبال والصخور اسقطي علينا واِخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف، لإنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف؟!" (رؤ 6: 16-17).

2. فسادها الداخلي

يؤكد لنا الله أن فسادها لم يقف عند المظهر الخارجي، إنما يمس حياتها الداخلية، لذا فالعلاج أيضًا يجب أن يدخل إلى عمق طبيعتها. يقول: "من أيام جبعة أخطأت يا إسرائيل" [ع9]. إنها فترة طويلة تبلغ أكثر من ستة قرون كانت الحرب فيها قائمة بين الأسباط وبعضها البعض ، أيّ أن الخطر لم يكن من عدو خارجي وإنما من فساد داخلي، وقد رأينا رجال جبعة التي لبنيامين قد صنعوا الشر مع ابنة إسرائيل (قض 19-20). لهذا فإن كان الله يؤدبهم بضيقة من الخارج فلا يليق بهم أن يركزوا أنظارهم على الضيقة، بل على الفساد الداخلي حتى يتقدسوا بالرب فيخلصهم من الضيق. "حينما أريد أؤدبهم ويجتمع عليه شعوب في ارتباطهم بإثميهم" [ع10].

أخيرًا يوضح كيف استكان إسرائيل للمذلة الداخلية، وأحنى عنقه لنير الخطية، فصار كالعجلة المتمرنة التي تحب الدارس، فهي تحمل النير لتأكل مما تدرسه [ع11].

3. الحاجة إلى زرع جديد

إن كانت الكرمة قد صارت عقيمة بسبب فسادها الداخلي فالحاجة ملحة إلى زرع جديد يغرسه الرب نفسه واهبًا إيانا ثمر المعرفة والبرّ، إذ يقول: "ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، اُحصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلمكم البرّ" [ع12]. وجاءت الترجمة السبعينية في أكثر وضوح: "ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، اُحصدوا ثمر الحياة، استنيروا بنور المعرفة، اطلبوا الرب حتى يأتيكم بثمر البرّ". فإن كان السيد المسيح هو "برّنا"، فقد صار الوقت مناسبًا للزرع الجديد، حيث يسكن السيد المسيح فينا، كأنه يُغرس في داخلنا ليجدد طبيعتنا، فنحمل ثمرة الحياة، ويفتح عيوننا بروحه القدوس فتستنير بصيرتنا. وهكذا يؤكد "اطلبوا الرب حتى يأتيكم بثمر البرّ"، فإن ما نناله من برّ ليس من عندياتنا إنما هو عمل الرب فينا.

لكن الله لا يعمل في الكسالى والمتراخين، لذا يقول: "ازرعوا... احصدوا... استنيروا... اطلبوا"، مؤكدًا دورنا الإيجابي لننال عمل الله فينا. ويعلق الأب نسطور على العبارة "استنيروا بنور المعرفة" قائلاً: [يلزمكم المثابرة بجهاد في القراءة، الأمر الذي أراكم تفعلونه، مع السعي بكل اشتياق لنوال المعرفة العملية الاختبارية أولاً، أيّ المعرفة السلوكية لأنه بدونها لا يمكن اقتناء النقاوة النظرية التي نتكلم عنها[62].]

لنطلب الرب نفسه الذي يأتي إلينا بثمر برّه، ولا نتكل على ذواتنا أو إمكانياتنا البشريّة، حتى لا نسمع كلمات التوبيخ: "قد حرثتم النفاق، حصدتم الإثم، أكلتم ثمر الكذب، لأنك وثقت بطريقك بكثرة أبطالك" [ع13]. فمن يتكل على طريقه الذاتي أو يعتمد على كثرة أبطاله إنما يحرث النفاق ويحصد الإثم ويأكل الكذب. لقد اتكل إسرائيل على مشورته الذاتيّة دون الرجوع إلى الله فسبب للشعب ضجيجًا واضطرابًا، وفقد حصونه وسقط نساؤه وأطفاله تحت قسوة شلمناصر ملك آشور. "يقوم ضجيج في شعوبك (فقدان السلام)، وتخرب جميع حصونك (فقدان الأمان) كإخراب شلمان (شلمناصر) بيت أربيئل في يوم الحرب، الأم مع الأولاد حُطمت" [ع14]. هكذا كل إنسان يتكل على ذاته تتحول حياته إلى ضجيج، ويفقد حصونه الروحيّة ويصير نهبًا لإبليس الذي يأسره كما أسر شلمناصر الكثيرين.

يختم حديثه مهددًا: "هكذا تصنع بكم بيت إيل من أجل رداءة شركم، في الصبح يهلك ملك إسرائيل هلاكًا" [ع15]. كأنه يقول أن ما يحل بكم ليس من صنع ملك آشور، إنما هو من صنع بيت إيل التي صارت فخًا لكم تصطادكم للرجاسات الوثنية. لا تتكلوا على ملك إسرائيل فإنه يهلك في الصباح، أيّ ينهزم في بداية المعركة، يسقط ولا يقوم!

[62] Cassion: Conf. 4:9.