اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي

إقطاعيُّون طمَّاعون

يندد ميخا النبي بالإقطاعيين الطامعين الذين يقضون الليل يفكرون كيف يغتصبون حقول الفلاحين بكل وسيلة، ومتى حلّ الصباح ينفذون خططهم ليستولوا على الحقول، ويحوِّلوا أصحابها إلى أُجراء أو متسوِّلين أو عبيدًا.

v   إن ثالث معركة لنا هي التي نشنها ضد الطمع، الذي نستطيع أن نصفه على أنه "محبة المال"، وهي معركة غريبة عنا، وخارجة عن نطاق طبيعتنا. وهي بالنسبة لأي راهب لا تتولد إلا عن عقل فاسد متبلد، ومحاولة مزيفة لنبذ العالم، ومحبة لله فاترة من أساسها، وذلك لأن باقي مغريات الخطية المغروسة في الفطرة البشرية تبدو كما لو كانت بدايتها كائنة منذ ولادتنا، وجذورها عميقة في جسدنا، وتكاد أن تكون معاصرة لمولدنا. إنها تدرك مسبقًا مدى قدراتنا على التمييز بين الخير والشر، وعلى الرغم من أنها تهاجم المرء مبكرًا جدًا، فهو يصرعها بعد جهاد طويل.

لا يصيبنا هذا المرض إلاَّ في مرحلة متأخرة، ويفد على النفس البشرية من الخارج، ولذلك يسهل على المرء أن يأخذ منه حذره ويقاومه. أما إن أُهمل وسُمح له بالولوج داخل القلب، يصير أشد خطرًا ويتعذر انتزاعه جدًا، إذ يصبح "أصلاً لكل الشرور" (1 تي 6: 10)، ومن ثم يعمل على الإكثار من مغريات الخطيئة[24].

القديس يوحنا كاسيان

1. تخطيط شرِّير                      [1-3].

2. عقاب الطامعين                   [4-5].

3. رفضهم كلمة النبوة               [6].

4. النبي لا يصمت                   [7-9].

5. التحرك بالتوبة العملية            [10-11].

6. فتح باب للرجاء                  [12-13].

1. تخطيط شرِّير:

وَيْلٌ لِلْمُفْتَكِرِينَ بِالْبُطْلِ،

وَالصَّانِعِينَ الشَّرَّ عَلَى مَضَاجِعِهِمْ.

فِي نُورِ الصَّبَاحِ يَفْعَلُونَهُ،

لأَنَّهُ فِي قُدْرَةِ يَدِهِمْ. [1]

ينطق بالويل على الذين يسهرون بالليل يخططون لاغتصاب ما هو للغير في أنانية، وإذ يحل الصباح ينفِّذون ما قد خططوه، لأنهم أصحاب سلطة. كل ما يشغل أفكارهم وقلوبهم هو اشتهاء ما هو للغير، مبررين لأنفسهم ذلك بطريق أو آخر. كأن يحسب الإنسان أنه أكثر قدرة على تدبير الحقل وإدارته أو أن صاحب الحقل عاجز عن تسديد الدين الذي تراكمت فوائده عليه فتضخم. فبمهارة فائقة يتآمرون كيف يتممون شهوة قلوبهم. إن كان الظلم والاغتصاب والطمع خطايا خطيرة، فإنها تكون أكثر خطورة حين يتفرغ الإنسان لتدبير ذلك مستخدمًا مكره وخداعه وإمكانياته وسلطانه! يظن أنه ليس من حق أحدٍ أن يحاسبه.

مما يحزن القلب أن الأشرار الظالمين يكرسون الليل للتخطيط في الشر ويبكرون مع نور الصباح ليحققوا ما قد دبروه. بينما لا ننشغل نحن بالليل في الصلاة والتأمل في كلمة الله، ونبكر للعمل لحساب ملكوت الله. لذا ينصحنا الحكيم: "كل ما تجده بيدك لتفعله فأفعله بقوتك، لأنه ليس من عملٍ ولا اختراعٍ ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها" (جا 9: 10).

ما يفكر فيه الإنسان حين يستلقي للراحة الجسدية يكشف عما في قلبه وفكره ونيَّاته. فالإنسان الروحي حين يستلقي ترتفع نفسه للتأمل في الإلهيات المبهجة، والشرير تنغمس نفسه في الشرور التي تأسره وتستعبده. هذا وكما أن الليل يكشف لنا عما نحن عليه في النهار، فإن ما نفكر فيه بالليل يؤدي إلى عمله في النهار، إن آجلاً أو عاجلاً. قداسة حياتنا في النهار تقدم لنا أفكارًا مقدسة وأحلامًا لائقة بأبناء الله ليلا؟ً، وقداسة أحلام يقظتنا تدفعنا بالأكثر نحو النمو الروحي في الرب.

فَإِنَّهُمْ يَشْتَهُونَ الْحُقُولَ وَيَغْتَصِبُونَهَا،

وَالْبُيُوتَ وَيَأْخُذُونَهَا،

وَيَظْلِمُونَ الرَّجُلَ وَبَيْتَهُ وَالإِنْسَانَ وَمِيرَاثَهُ. [2]

كان آخاب الملك مثلاً رديًا لاستغلال سلطته حسب مشورة زوجته الشريرة إيزابل (1 مل 21: 1-15)، حيث استولى على حقل نابوت اليزرعيلي بعد أن دبَّر قتله. فاستشرى هذا النوع من الفساد في يهوذا، وأصيب النبلاء أصحاب السلطة بهذا المرض الخطير.

v   أيها الغني، لماذا تترفَّع بغناك وتفخر بأمجاد أجدادك؟ أتتفاخر بموطنك وتُسر لجمال جسدك وتفرح لشرف زائل؟ انتبه لنفسك. تذكَّر بأنَّك إنسان مائت وأنك تراب وإلى التراب تعود (تك 3: 19)... اِنحنِ واُنظر إلى القبور، فهل تميِّز بين عظام الفقراء وعظام الأغنياء؟ بين عظام العبيد وعظام الأسياد؟ اِفطن لذاتك إذن وتخلَّ عن التكبُّر والبخل وقسوة القلب[25].

v   لقد أصبحت أيها الإنسان الثري خادمًا لله الكُلِّي الرحمة ووكيلاً له أمام إخوتك في العبوديَّة. فاحذر من أن تفكِّر بأن الخيرات هي لبطنك. فما في يديك احسبه كغريبٍ عنك. هذه الخيرات تفتنك لفترة ثم لا تلبث أن تتبخَّر وتزول، ولكن سوف تؤدِّي عنها حسابًا دقيقًا[26].

القديس باسيليوس الكبير

يستولون على حقول الآخرين ليس بالمكر والخداع فحسب، وإنما بالعنف والاستبداد، مغتصبين حقوق الغير، ضد القانون. يظلمون رب البيت دون مبالاة بأسرته أو ميراثه عن أجداده.

لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ:

هَأَنَذَا أَفْتَكِرُ عَلَى هَذِهِ الْعَشِيرَةِ بِشَرٍّ،

لاَ تُزِيلُونَ مِنْهُ أَعْنَاقَكُمْ،

وَلاَ تَسْلُكُونَ بِالتَّشَامُخِ،

 لأَنَّهُ زَمَانٌ رَدِيءٌ. [3]

يقصد بالعشيرة هنا كل المملكة، ويقصد بالشر هنا التأديب بالسبي حيث يرونه شرًا قد حلٌ عليهم.

يجازي يهوه هؤلاء الظالمين حسب أفعالهم، فيسمح لهم بقيود السبي التي لا تهرب منه أعناقهم. فعوض تشامخهم تُطوق أعناقهم بالقيود، ويُسحبون إلى أرض السبي. إذ وضع الأغنياء والقيادات نيرًًا ثقيلاً على طبقة الفلاحين، يسمح بنير السبي الثقيل يحل عليهم، فلا يقدرون أن ينزعوه عن أعناقهم، بهذا يكسر كبرياءهم وتشامخهم.

2. عقاب الطامعين:

فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُنْطَقُ عَلَيْكُمْ بِهَجْوٍ وَيُرْثَى بِمَرْثَاةٍ وَيُقَالُ:

خَرِبْنَا خَرَاباً.

بَدَلَ نَصِيبِ شَعْبِي. كَيْفَ يَنْزِعُهُ عَنِّي؟

يَقْسِمُ لِلْمُرْتَدِّ حُقُولَنَا. [4]

إذ يَسلبون ممتلكات الغير يفقدون حتى ممتلكاتهم، فيتسلم العدو الحقول، ويستولي على أراضيهم ومحاصيلهم، فيفقدون الرخاء، كما يفقدون أراضي ميراثهم. إنها تُنزع عنهم نزعًا في غير توقعٍ، فيذهلون بسبب عنصر المفاجأة والعنف.

إذ يأتي يوم التأديب القاسي تتحول أفراحهم إلى مراثٍ، وضحكهم إلى صراخٍ، ويصيرون مثلاً لدى أصدقائهم وجيرانهم.

v   هكذا تتزعزع هذه النفس الشقية (بالطمع)، ويلتف حولها تنين الطمع، فلا تستطيع فكاكًا، بينما تحاول جاهدة لمضاعفة كومة المال التي أحرزتها بطرق غير مشروعة واهتمام ممقوت، تصحبه كوارث لا تخفف من حدة طمع هذه النفس بل تزيده اشتعالاً، ويعميها عن كل شيء سوى الجري وراء الكسب والحصول على المال... والتجرد من الإيمان، كلما وجد بصيصًا من الأمل في إحراز المال.

ولهذا فهو لن يتورع عن أن يرتكب جريمة الكذب، أو شهادة الزور، أو السرقة، أو كسر الوعد، أو الاسترسال مع نوبات الهياج الجارحة. أيضًا إذا فقد الأمل في الحصول على الكسب، فإنه لن يتورع عن أن يتجاوز حدود اللياقة والتواضع، وفي كل هذا يصبح الذهب ومحبة الربح القبيح إلهًا له، شأنه في ذلك شأن الذين يعبدون بطونهم. ولهذا فإن الرسول المطوّب، إذ نظر إلى سم هذه الآفة المميت لم يقل فقط أنه أصل لكل الشرور، ولكن سمَّاه أيضًا "عبادة الأوثان"، قائلاً: "والطمع الذي هو عبادة الأوثان" (كو 3: 5).

فأنت ترى إذن قدر السقوط الذي يقود إليه هذا الجنون خطوة فخطوة، حتى أن الرسول يطلق الصيحة مدوية بأنه عبادة للأوثان المزيفة، ذلك لأنه بتخطيه صورة الله ومثاله (وهما اللذان يجب أن يحتفظ بهما كل من يعبد الله بالروح والحق في أعماق نفسه دون تزييف) قد آثر أن يحب ويتعلق بالصور المنقوشة على الذهب بدلاً من الله.

بمثل هذه الخطوات الكبيرة، منحدرًا إلى أسفل، ينساق من سيء إلى أسوأ، وأخيرًا لا يهتم بأن يحتفظ لنفسه، لا بفضائل التواضع والمحبة والطاعة بل ولا بظلها، إلى جانب أنه يصبح غير راضٍ عن أي شيء، ويتذمر ويشكو من كل عمل. عندئذ وقد ضرب بكل خشوع عرض الحائط فإنه، كحصان جامح، يندفع متهورًا مطلَق العنان[27].

v   أتريد أن تعلم مدى خطورة هذه الغواية وأضرارها على صاحبها، ما لم تُقتلع بحذرٍ، والدمار الذي تلحقه به، وما يتشعب منها من فروع شتى للخطايا؟ انظر إلى يهوذا، المعدود من بين التلاميذ، وتأمل كيف بسبب عدم إقدامه على سحق رأس هذا التنين القاتل، قُضي عليه بِسمُه، وكيف أنه لما وقع في شباك هذه الشهوة ألقت به في الخطية وفي سقطة عاجلة، حتى أنها أغوته على بيع فادي الأنام، ومنشئ خلاص الإنسان بثلاثين من الفضة، وأنه لم يكن من المستطاع دفعه إلى هذه الخطية المنكرة، خطية خيانة سيده، ما لم يكن قد لطخته خطية الطمع. كذلك ما كان لينساق إلى الإجرام في حق سيده بهذه الصورة البشعة، ما لم يكن قد عوّد نفسه على السرقة من الكيس المودع لديه[28].

القديس يوحنا كاسيان

لِذَلِكَ لاَ يَكُونُ لَكَ مَنْ يُلْقِي حَبْلاً فِي نَصِيبٍ بَيْنَ جَمَاعَةِ الرَّبِّ. [5]

لا يوجد من يوزع الميراث أو يتخاصم عليه، لأن الكل يفقدون الميراث، فلا حاجة لخصومات ومحاكم وإلقاء قرعة لتوزيع الأراضي والحقول، وإذ يؤول الكل إلى يد العدو المغتصب. يمتد طمعهم إلى كل شيء: اغتصاب الحقول والبيوت والميراث، فيصير الفلاحون معدمين لا مأوى لهم، محرومين من بركة ميراث آبائهم وأجدادهم.

يعلن الله للطامعين أنهم إذ يسلبون الفقراء ظلمًا يُنزع عنهم ما قد اغتصبوه، بل ويفقدون مالهم فلا يكون لهم نصيب في الأرض التي وهبها الله لشعبه.

3. رفضهم كلمة النبوة:

يَتَنَبَّأُونَ قَائِلِينَ:

"لاَ تَتَنَبَّأُوا".

لاَ يَتَنَبَّأُونَ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ.

لاَ يَزُولُ الْعَارُ. [6]

بعد أن تحدث عن خطية الطمع وما لحقها من خطايا مثل تدبير الشر والظلم والاغتصاب والتشامخ، يتحدث عن خطية خطيرة وهي مقاومة كلمة الرب، فيطالبون بسد أفواه الأنبياء. لا يقفون عند التمرد على القوانين المدنية، بل ويتمردون على سلطان الله. لا يحتمل الأشرار كلمة الرب، ولا يقبلون التوبيخ، لهذا طلبوا من النبي الالتزام بالصمت والكف عن التنبؤ، حاسبين في كلمة الرب عارًا وخزيًا. يرون في كلمة الرب إزعاجًا لنفوسهم وفزعًا. لقد أرسل أمصيا كاهن بيت إيل إلى يربعام ملك إسرائيل يطلب منه ان يمنع عاموس من أن يتنبأ (عا 7: 10 الخ). وجاء في إشعياء "الذين يقولون للرائين لا تروا" (إش 30: 10). ويبقى هذا التصرف حتى عصر ضد المسيح حيث يتعذب الساكنون على الأرض من الكرازة بالكلمة (رؤ 11: 10).

كثيرًا ما نرفض الصراحة في توجيه حياتنا، ونطلب الكلمات الناعمة والتعزيات البشرية الخادعة، مع أننا في حاجة إلى الحزم النابع عن الحب.

4. النبي لا يصمت:

أَيُّهَا الْمُسَمَّى بَيْتَ يَعْقُوبَ،

هَلْ قَصُرَتْ رُوحُ الرَّبِّ؟

أَهَذِهِ أَفْعَالُهُ؟

أَلَيْسَتْ أَقْوَالِي صَالِحَةً نَحْوَ مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَةِ؟ [7]

يقول: "أيها المُسمى بيت يعقوب"، فإنهم يحملون الاسم لكنهم لا يمارسون ما يليق باسمهم. وكما يقول الرسول: "هوذا أنت تُسمى يهوديًا وتتكل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميز الأمور المتخالفة، متعلمًا من الناموس، وتثق أنك قائد للعميان ونور للذين في الظلمة، ومهديًا للأغبياء، ومعلم للأطفال، ولك صورة العلم والحق في الناموس. فأنت إذًا الذي تُعلم غيرك، ألست تُعلم نفسك؟ الذي تكرز ألاَّ يُسرق، أتسرق؟ الذي تقول أن لا يزني أتزني؟..." (رو 2: 17-22).

لم يصمت النبي كما طلبوا منه، بل صار يوبِّخم مؤكدًا لهم أن سرّ عارهم ليس كلماته بل سلوكهم الغير متفق مع طرق الرب، حياتهم لا تستقيم مع عمل روح الله. فإن استقامت ينالون بركة الرب.

يوبخهم ميخا النبي قائلاً: "هل قصرت روح الرب؟" بمعنى هل تظنون أنكم قادرون أن تسكتوا صوت الرب وتقاوموا روحه؟ إن استخدمتم كل سلطان لتكتموا الأنبياء، ألاَّ يجد روح الله طرقًا أخرى ليبكتكم على شركم؟ هل سلطانكم الزمني وإمكانياتكم المادية تقدر أن تبطل مشورة الله؟

وبقوله "أهذه أفعاله؟" يوبخهم، لأنهم يفتخرون بأنهم بنو إسرائيل، بيت يعقوب، ومنهم جاء الأنبياء. فهل كان أبوكم يعقوب يُمارس ما أنتم تفعلونه؟ هل تسلكون في ذات طريق أبيكم؟ أنتم تفتخرون بأنكم بيت يعقوب، لكنكم لا تعملون أعماله.

هكذا أيضًا وبخ السيد المسيح اليهود حين كانوا يفتخرون أنهم أبناء إبراهيم الحر، بينما كانوا يريدون قتل السيد المسيح. لذلك قال لهم: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم، أنتم تعملون أعمال أبيكم... أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 39-44).

كأن النبي يقول لشعبه: لكم الاسم "بيت يعقوب" لكن أعمالكم تشهد بأنكم "بيت إبليس المقاوم لروح الرب".

إن أرادوا أن ينتسبوا ليعقوب السالك بروح الرب، فليسلكوا باستقامة تليق بهم.

يرى القديس هيبوليتس الروماني أن بيت يعقوب أثار غضب الله وارتبط بآلام المسيح حسب الجسد.

v   "وهو متسربل بثوبٍ مغموس بدمٍ ويُدعى اسمه كلمة الله" (رؤ ١٩: ١٣). انظروا إذن يا إخوتي كيف أن الثوب المرشوش بالدم يُشير إلى الجسد، الذي خلاله كلمة الله الذي لا يسقط تحت الألم احتمل الألم، كما يشهد النبي. فإنه هكذا يتكلم الطوباوي ميخا: "هل يلزم أن يُقال هذا يا بيت يعقوب؟ هل روح الرب نافذ الصبر؟ هل هذه هي أعماله؟ أليست كلماتي تعمل حسنًا في هذا الذي يسير باستقامة؟ لكنك قمت ضد شعبي كعدوٍ إنك تعري الثوب عن رجل السلام". هذا يُشير إلى آلام المسيح بالجسد[29].

القديس هيبوليتس

v   اعتاد الكتاب المقدس أن يدعو الكاهن ملاكاً وإلهًا فيقول: "لا تسب الآلهة ولا تلعن رئيس شعبك". (خر 22: 28 LXX)[30].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   الذي يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال التعب، لأن الرب "وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29)، فإنه يبقى على الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له "كل الأشياءِ تعمل معًا للخير" (رو 8: 28). فكما يقول النبي (ميخا) أن كلمات الله صالحةً نَحْوَ مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7)[31].

الأب إبراهيم

وَلَكِنْ بِالأَمْسِ قَامَ شَعْبِي كَعَدُوٍّ.

تَنْزِعُونَ الرِّدَاءَ عَنِ الثَّوْبِ مِنَ الْمُجْتَازِينَ بِالطُّمَأْنِينَةِ،

وَمِنَ الرَّاجِعِينَ مِنَ الْقِتَالِ. [8]

بينما يعتزون بدعوة أنفسهم "بيت يعقوب" [7] إذا بهم يقومون بدور العدو المحطم لهذا البيت. لم يقفوا ضد روح الرب فحسب، بل وضد الأمة أو الشعب فإنهم إذ يسلبون الفلاحين إنما يحطمون "بيت يعقوب"، ويُحسبون أعداء مقاومين له. إنهم عدو داخلي أخطر من كل عدوٍ خارجي.

يقول المرتل: "لأنهم لا يتكلمون بالسلام، وعلى الهادئين في الأرض يتفكرون بكلام مكرٍ" (مز 35: 20).

يظهر مدى بشاعة سلوكهم أنهم لا يسلبون الأرض فحسب، وإنما جردوا حتى الرداء عمن يجتازون في طمأنينة، ومن دافعوا عنهم في القتال.

تَطْرُدُونَ نِسَاءَ شَعْبِي مِنْ بَيْتِ تَنَعُّمِهِنَّ.

تَأْخُذُونَ عَنْ أَطْفَالِهِنَّ زِينَتِي إِلَى الأَبَدِ. [9]

لقد أكلوا بيوت الأرامل (مت 23: 14)، واستولوا عليها، وعاملوا النساء في وحشية لا تتفق مع العمل الإنساني، خاصة وأنهن نساء ذات الأمة، نساء شعب الله اللواتي يطلبن حماية الله لهن.

امتدت يدهم ليغتصبوا من النساء أطفالهن ليكونوا عبيدًا لهم، ربما قاموا ببيعهم عبيدًا للممالك الوثنية فحرموهم من التمتع بالإيمان بالله، ونزعوا عنهم مجدهم.

ولعل النبي يُشير هنا إلى السبي الذي سمح به الله بسبب فساد القادة وشرهم والذي تفشى بين الشعب. ففي السبي لا يقف الأمر عند اغتصاب النساء من بيوتهن، وإنما حتى الأطفال يفقدون حقهم في الجنسية العبرانية والاشتراك في العبادة بالهيكل حيث يُحملون إلى بلدٍ غريبٍ.

5. التحرك بالتوبة العملية:

قُومُوا وَاذْهَبُوا لأَنَّهُ لَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ الرَّاحَةَ.

مِنْ أَجْلِ نَجَاسَةٍ تُهْلِكُ وَالْهَلاَكُ شَدِيدٌ. [10]

في مرارة يدعوهم أن يقوموا ويذهبوا إلى السبي، فقد حلّ بهم ثمرة نجاستهم والهلاك الشديد! لقد صدر عليهم الحكم التأديبي الإلهي، فإنهم إذ سلبوا حقوق الشعب بسلطانهم الزمني تُنزع عنهم ممتلكاتهم بالقوة، ولا تعود أرض الموعد مكان راحة لهم.

يحل بهم ما حلّ بآبائهم الذين تذمروا على الله في البرية مرارًا وتكرارًا. وكما جاء في المزمور: "أربعين سنة مقت ذلك الجيل، وقلت هم شعب ضال قلبهم، وهم لم يعرفوا سبلي، فأقسمت في غضبي  لا يدخلون راحتي" (مز 95: 10-11).

لا يقف الأمر عند طردهم من أرض الموعد، وإنما "من أجل نجاسة تهلك، والهلاك شديد" سرّ هلاكهم ليس قوة العدو العسكرية الذي يسبيهم، إنما نجاساتهم المدمرة لهم. لذلك يوصينا الكتاب: "هاربين من الفساد اليَّ في العالم بالشهوة" (2 بط 1: 4)، "الديانة النقية الطاهرة عند الله الآب هي هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع 1: 27).

يدعوهم النبي للقيام من حالة الخطية، حتى يتمتعوا بالراحة الحقيقية ولا يحل بهم الهلاك.

v   ليت ذاك العاجز عن الطيران كالنسر يطير كعصفور. ذاك غير القادر أن يطير إلى السماء، فليطر إلى تلك الجبال. ليته يطير أمام الوديان هذه التي سرعان ما تتدمر بالمياه. ليعبر على الجبال. عبر ابن عم إبراهيم على جبال صوغر Segor وخلص (تك ١٩: ١٢-٢٩). أما امرأة لوط فلم تستطع أن تتسلقها، إذ تطلعت خلف بطريقة نسائية وفقدت خلاصها (تك ١٩: ٢٦). يقول الرب بالنبي ميخا: "اقتربوا إلى الجبال الأبدية، اصعدوا من هنا، فإنها ليست فيها راحة لكم بسبب الدنس. إنكم بالفساد تفسدون، تعانون من الطرد". يقول: "ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال" (مت ٢٤: ١٦). هناك جبل صهيون، وهكذا مدينة السلام أورشليم، مبنية لا بحجارة أرضية، بل بحجارة حية، بواسطة ربوة من الملائكة وبكنيسة الأبكار وبأرواح الذين كملوا، وبإله الأبرار الذي تكلم بدمه أفضل من هابيل (عب ١٢: ٢٤). فإن واحدًا صرخ لأجل النقمة (تك ١٤: ١٠) والآخر لأجل الغفران. واحد يوبخ خطية أخيه، والآخر يغفر خطية العالم. واحد يعلن عن جريمة والآخر يستر على جريمة كما هو مكتوب: "طوبى لمن سترت خطاياهم" (مز ٣٢: ١ LXX)[32].

القديس أمبروسيوس

v   "في الرب التجأت؛ كيف تقولون ليّ: اهرب إلى الجبال كعصفورٍ؟ (مز ١١: ١ LXX). عدو عنيف! جرب الرب المخلص في البرية، والآن يطلب المؤمنين، يطلب كل واحدٍ منهم أن يفارق أرض اليهودية ويسكن في برية قاحلة من الفضائل، حتى يمكنه أن يسحقهم هناك بسهولة جدًا. حتى المشورة ذاتها (التي يقدمها) ماكرة. إنها ليست نصيحة لكي يأخذ (المؤمن) جناحي حمامة، الطائر الرقيق البسيط المستأنس   – طائر يقولون عنه إنه بلا ضغينة مطلقًا – هذا الذي قدم في الهيكل من أجل الرب (لو ٢: ٢٤)، وإنما (ينصحهم أن يأخذوا) جناحي عصفور، طائر يثرثر (يزقزق) طواف، يصير غريبًا عن زوجته بعد بروز الصغار من البيض[33].

القديس چيروم

لَوْ كَانَ أَحَدٌ وَهُوَ سَالِكٌ بِالرِّيحِ وَالْكَذِبِ يَكْذِبُ قَائِلاً:

أَتَنَبَّأُ لَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ لَكَانَ هُوَ نَبِيَّ هَذَا الشَّعْبِ! [11]

هاجم النبي قبولهم للأنبياء الكذبة الذين من أجل نفعهم المادي أو الاجتماعي يتغاضون عن الحق ويداهنون الظالمين ويتستَّرون على الخطأ. لهذا يقول الرسول: "إن كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح" (غل 1: 10).

لو أن شخصُا ما جاء يحدثهم عن الخمر والسكر، يجد الظالمون في حديثه ما يؤهله أن يكون لهم نبيًا، يحدثهم بما يشتهونه. إنهم لا يريدون نبيًا صادقًا ينطق بكلمة الله، لأنها بالنسبة لهم عار وخزي.

إنهم يريدون أنبياء أشرارًا يوافقونهم على شرورهم، قيل عنهم: "إذ رأيت سارقًا وافقته، ومع الزناة نصيبك، أطلقت فمك بالشر، ولسانك يخترع غشًا" (مز 50: 18-19).

لعله يُشير هنا إلى الأنبياء الكذبة الذين عوض أن يسكروا بحب الله وينشغلوا بالوصية الإلهية ينشغلون بالحفلات الماجنة التي يقيمها الأغنياء، ويسقطون في السكر مما يفقدهم اتزانهم وينحرف بهم عن رسالتهم.

v   ما أن بدأوا في أن يغطسوا في هاوية الإفراط وانحرفوا عن الحواس الطبيعية حتى سلموا نفوسهم للسبي لدى طاغية السُكر الفاسد.

إنهم يشبهون سفينة بدون قلاعٍ يحفظ توازنها، لهذا قيل: "ويل للذين يقومون باكرًا ليجروا نحو المُسكر" (راجع إش 5: 11). إنهم لا يُشبعون احتياجًا، ولا ينتظرون أن تهدأ الشهوة، إنما هذا هو عملهم أن يسكروا على الدوام. لذا قيل: "يجرون نحو المسكر"[34].

 القديس يوحنا ذهبي الفم

6. فتح باب للرجاء:

كعادة الأنبياء بعد التهديد بالتأديب وقبل حلوله يفتحون باب الرجاء ليدركوا رحمة الله الفائقة. فهو إذ يؤدب إنما ليضمهم إليه، ويهبهم أكثر مما يسألون وفوق ما يطلبون.

إِنِّي أَجْمَعُ جَمِيعَكَ يَا يَعْقُوبُ.

أَضُمُّ بَقِيَّةَ إِسْرَائِيلَ.

أَضَعُهُمْ مَعاً كَغَنَمِ الْحَظِيرَةِ،

كَقَطِيعٍ فِي وَسَطِ مَرْعَاهُ يَضِجُّ مِنَ النَّاسِ. [12]

يرى بعض الدارسين في هاتين العبارتين [12-13] نبوة عن الرجوع من السبي في المستقبل القريب، وعن التمتع بالحرية من سبي الخطية بمجيء المسيَّا مخلص العالم.

نبوة رائعة لحدثين عظيمين: الأول عودة إسرائيل من السبي البابلي، والثاني ضم حشد المؤمنين معًا عند مجيء السيد المسيح الذي يسير في مقدمتهم كبكر الراقدين، ورأس الكنيسة السماوي.

يرى آخرون أن هاتين العبارتين هما نبوة الأنبياء الكذبة المخادعين بأن السبي ينتهي سريعًا، والعودة تتحقق فورًا؛ هذه النبوة لم تتحقق.

إن كانوا بسبب شرهم تشتتوا، فإنه بعد تأديبهم يجمعهم معًا، لا كمملكتين منقسمتين، بل كشعبٍ واحدٍ ومملكةٍ واحدة، ويدعو الكل "يعقوب". إنه سيضم البقية المقدسة التي التصقت بالرب أثناء السبي ورجعت إليه، فيصيرون غنم رعيته الناطقة.

"يضج من الناس"، أو يحدثون جلبة بسبب كثرة عددهم، حيث يجمع السيد المسيح، الراعي الصالح شعبه من كل الأمم: "جميع أبناء الله المتفرقين إلى واحدٍ" (يو 11: 52). إذ يقول: "وليّ خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضًا فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراعٍ واحدٍ" (يو 10: 16).

قَدْ صَعِدَ الْفَاتِكُ أَمَامَهُ.

يَقْتَحِمُونَ وَيَعْبُرُونَ مِنَ الْبَابِ وَيَخْرُجُونَ مِنْهُ

وَيَجْتَازُ مَلِكُهُمْ أَمَامَهُمْ،

وَالرَّبُّ فِي رَأْسِهِمْ. [13]

من هو هذا الفاتك الذي يقتحم الباب ويعبر منه فيخرج ويُخرج شعبه معه إلاَّ السيد المسيح الذي فتك بالمَوت؛ أماته بموته. عبر بشعبه من باب الجحيم ودخل بهم إلى فردوسه واهبًا إياهم روح النصرة على آخر عدو وهو الموت؟

لقد صار بكر الراقدين أقامنا معه! خرج من القبر وحمل بابه، كما أخذ شمشون مصراعي باب المدينة والقائمتين وقلعهما مع العارضة ووضعها على كتفيه وخرج (قض 16: 3).

يرى البعض أن الفاتك هنا القديس يوحنا المعمدان الذي جاء بروح إيليا يُهييء الطريق أمام ملك الملوك، مخلص العالم، فقد فتح الباب بالمناداة بالتوبة والدعوة للقاء مع حمل الله الذي يحمل خطية العالم.

وسط الظلمات يتقدم المخلص، نور العالم ليشرق بنوره فيُبدد الظلمة. يدعو هنا بالفاتك، أي مُزيل العقبات وفاتح الطريق نحو الأبدية. إنه يفتح الباب على مصراعيه ليجد كل مؤمنٍ فيه رجاءً للدخول والخروج تحت قيادته.

v   من يدخل يلزمه ألاَّ يبقى في ذات الحالة التي فيها دخل، بل يلزمه أن يذهب إلى المرعى فيكون الدخول هو بداية "يدخل ويجد مرعى" (يو ١٠: ٩) كمال النعم. من يدخل يكون محصورًا بحدود العالم، أما من يستمر في السير كمن هو يتعدى الأمور المخلوقة حاسبًا ما يُرى كلا شيء، فإنه يجد مرعى فوق السماوات، ويقتات بكلمة الله، قائلاً: "الرب راعي (يقوتني)، فلا يعوزني شيئًا" (مز ٢٣: ١ LXX). لكن هذا الدخول لا يمكن أن يتحقق إلاَّ بالمسيح، كما تبع ذلك: "والرب رأسهم"[35].

القديس چيروم

 


من وحي ميخا 2

ليعمل روحك فيّ!

فأعمل بروح الحب والحنو!

v   روحك الناري، روح الحب والحنو،

ليعمل فيّ فأحمل أيقونة حبك العملي!

على مضجعي أنشغل باللقاء معك.

أراك تتجلى في المحتاجين والمتألمين.

أراك أبًا لليتامى وقاضيًا للأرامل.

أراك تخرج لتلتقي بالمطرودين.

لألتقي بك فيهم فأتمتع بالشركة معك!

v   انزع عني القلب الحجري، وهب ليَ قلبًا جديدًا مملوء حنوًا!

لا يشغلني مال ولا جاه،

فأنت كنزي ومجدي!

v   لتنزع عن أعماقي كل تصلب للرقبة،

ولتهدم بحبك تشامخي!

حطم كل فساد فيّ،

ولتنزع كل حقلٍ غريب من داخلي!

تكلم يا رب ، فإن عبدك سامع!

كل كلمة مهما كانت جارحة فهي لبنياني.

لتضرب بسيفك فتبتر كل شرٍ في داخلي!

تكلم، فإن أقوالك صالحة!

هب ليّ أن أسلك باستقامة.

أقطن فيك يا أيها الطريق الملوكي!

v   أعترف لك بخطاياي!

أخطأت أنا وكل بيت آبائي!

لأرجع إليك فترجع إلينا.

تجمعنا من أقاصي الأرض،

لنصير سماءً جديدة،

تسكنها أنت أيها البر الحقيقي.

v   لا تسمح لأذني أن تستطيب الناعمات،

فتلهو بوعود العدو الكاذبة،

وتسكر نفسي بخمر العالم المُفسد.

هب ليّ أذنان تسمعان ما يقوله الروح للكنائس!

v   تعال أيها الرب يسوع، ولتضم كل المؤمنين كأعضاء في جسدك.

فنقتحم أبواب الجحيم وننطلق إلى فردوسك!

ننزع باب الموت ونخرج معك إلى القيامة أنت هو بكر الراقدين،

أنت هو رأس الكنيسة المقدسة!

[24] Cassian: Institutes, 7:1-2.

[25] الأب الياس كويتر المخلصي: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 96.

[26] الأب الياس كويتر المخلصي: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 115.

[27] Cassian: Institutes, 7:7-8.

[28] Cassian: Institutes, 7:23.

[29] Against Noetus, 15.

[30] On Ps. 138.       . LXX معناها سبعون، وتشير إلى الترجمة السبعينية

 

[31] St. Cassian: Conferences, 24:24 .

[32] Flight  from the World 5: 31.

[33] Hamilieson Ps. 60.

[34] Commentary on Isaiah 28:7.

[35] Commentary on Micah 1: 2: 13.