أهان الرب

  • لماذا أهان الرب المرأة الكنعانية عندما شبهها بالكلاب قائلاً: "فَأَجَابَ وَقَالَ:«لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب" (مت١٥: ٢٦).؟

    لم يوجه الرب إهانة لشخص المرأة الكنعانية، بل بالعكس مدحها وقدرَّها لإيمانها قائلاً لها:"حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ." (مت١٥: ٢٨). إن دليل تقديره لها هو استجابته لطلبتها، وذلك بشفائه ابنتها. وسنوضح في النقاط التالية هذا تفصيلا:

    أولاً: ما قاله الرب لها كان على سبيل المثل وليس الإهانةً:

    • لقد كان ذلك مثلاً معروفاً:إن ما يؤكد أن ذلك كان مثلاً، وليس شتيمة لهذه المرأة هو ما يأتي:
    1. استخدام المرأة لنفس تشبيهات المثل في ردها على الرب؛ ولذا تؤكد إجابتها معرفتها للمثل بقولها: "... نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!" (مت ١٥: ٢٧). لقد كانت هذه المرأة فينيقية سورية من منطقة صور، وكان هذا المثل مفهوماً في بيئة هؤلاء الأممين الوثنيين، الذين اعتادوا أن يدللوا ويربوا الكلاب في منازلهم، وهذا بعكس اليهود، الذين كانوا يعتبرون الكلب حيواناً ينجس من يلمسه.
    2. يوجد في اللغة اليونانية - التي كُتب بها الإنجيل - أكثر من كلمة تدل على الكلب كحيوان، لكن الكلمة المستخدمة، التي نطقها الرب تعني جرواً أو كلباً صغيراً يُرَبىَ في البيوت، وهذا اللفظ يتوافق مع معنى المثل.
    • المقصود هو المعنى: جرى العرف في حالة التكلم بالأمثال أن المقصود هو المعاني وليست الكلمات في حرفيتها.

    مثال: عندما نقول 04لأم: "القرد في عين أمه غزال" أنت لا تعني أن تشتم الأم بوصفك لابنها بأنه حيوان، أو قرد، ولكنك تقصد قيمة هذا الطفل الثمينة في عيني أمه، أو قد تقصد أيضاً التلميح بأن الطفل ليس جميلاً بدرجة كبيرة، ولكنه له تقدير عظيم في عيني أمه لسبب حبها له، وهكذا...

    • معنى مثل الرب يسوع: لقد قصد الرب يسوع أن يُبين مايلي:

    ١. من المفترض والطبيعي أن يكون اليهود أبناء أب الآباء إبراهيم هم المستحقون، والأجدر بالبركات والنعم قبل غيرهم، لأن الله تعهدهم بالرعاية لأجل إيمان الأتقياء منهم (كإبراهيم أبيهم). لقد أعدهم الله للبركات على مدى أزمنة كثيرة، فأرسل لهم الأنبياء ليعرفهم ناموسه، وكشف لهم عن تجسده وفدائه، و… و…  لقد أئتمنهم على معرفته كقول معلمنا بولس الرسول: "إِذًا مَا هُوَ فَضْلُ الْيَهُودِيِّ، أَوْ مَا هُوَ نَفْعُ الْخِتَانِ؟ كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ! أَمَّا أَوَّلاً فَلأَنَّهُمُ اسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ اللهِ." (رو٣: ١- ٢). لقد قصد الرب أن يعلن للجموع تلك الحقيقة، وهي أن اليهود هم الأجدر بالنعمة؛ لأنهم مُهَيَئُونَ لقبولها أكثر من الأمم (ولكنهم للأسف تهاونوا ولم يؤمنوا به). لقد فهمت المرأة المعنى تماماً، وأكدت وصدقت عليه بطلبها من الرب الفتات الساقط من مائدة الأبناء (أي اليهود).

    1. هناك إشارة لعدم استحقاق من يحيا في نجاسة للبركات، وذلك لأن الكلب عموماً من الحيوانات غير الطاهرة كما هو معروف في الناموس. إن الكلاب ترمز إلى العيش بالشهوات. والنجاسات. وقد مارس شعب هذه المرأة الفينيقية النجاسات كطقوس ضرورية لعبادتهم إرضاءً لآلهة الخصوبة. لقد كانت هذه المرأة نجسة بحكم عبادتها لآلهتها.

    ثانياً: القول هو تقرير لحقيقة قدسية الله، وطهارته:

    • الله قدوس، ولذا فهو حريص على قداسة شعبه. لقد علم الله شعبه مفهوم القداسة والنجاسة من خلال الطبيعة، فالحيوانات الطاهرة هي التي تجتر ومشقوقة الظلف. أما غير الطاهرة فهي المفترسة وهي أيضاً ذات الصفات الذميمة. إن ما أراده الله من استخدام هذه الأمثلة المعروفة في البيئة الطبيعية هو التأمل في صفات هذه الحيوانات سواء طاهرة أم نجسة، والامتناع عما بها من صفات دنيئة. فالحيوانات الطاهرة عموماً هي آكلة للحشائش أي لا تتغذى على غيرها، وهي أيضاً التي تجتر أي تخرج ما تختزنه من طعام في حويصلة بمعدتها؛ لتعيد مضغه مرة أخرى، وهذا يشير للهج والتأمل الدائم في كلمة الله. أما عن شق الظلف في الحيوانات الطاهرة: فهو يشير لعدم الاهتمام بالأمور الدنيوية؛ وذلك لأن الأظافر أو الظلف في الحيوانات قد تقص أو تقطع دون أن يسبب ذلك ضرراً لها، بل لفائدة ما. إن ذلك يشير لوجوب عدم الاستجابة  لشهوات أو أهواء الجسد التي يجب الامتناع عنها كقول معلمنا بولس الرسول: "وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ." (غل٥: ٢٤).
    • استخدام اللفظ في الكتاب المقدس: استخدم الكتاب المقدس لفظ الكلاب كتعبير، أو مصطلح يدل على النجاسة وذلك بناء على تعليم الكتاب عن الحيوانات الطاهرة، وغير الطاهرة. لقد أطلق الكتاب هذا اللفظ  على فئات من الأشرار ليشير إلى كثرة شرهم، وعدم طهارتهم، وصفاتهم البغيضة، وبدراسة كيفية استخدام هذه الكلمة نجد أن المقصود بلفظ الكلب ليس دناءته لأنه حيوان، ولكن المقصود تحقير ما في الناس من الصفات الذميمة لهذا الحيوان، ويمكننا التأكد من ذلك في قول معلمنا بطرس الرسول: "قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي الْمَثَلِ الصَّادِقِ:«كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ»، وَ«خِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ الْحَمْأَةِ». (٢بط٢: ٢٢). إن ذلك اللفظ في الكتاب المقدس يُستخدم كثيراً كاصطلاح (expression) يشير لمدلول روحي توارثته الأجيال اليهودية وهو: النجاسة، وليس المقصود المعنى الحرفي للكلمة. وكمثال لذلك قول سفر الرؤيا: "لأَنَّ خَارِجًا الْكِلاَبَ وَالسَّحَرَةَ وَالزُّنَاةَ وَالْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ الأَوْثَانِ، وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِبًا." (رؤ٢٢: ١٥).من الآية السابقة نلاحظ أن الوحي الإلهي وضع الكلاب ضمن فئات كثيرة من الأشرار ليُشير إلى صفات أو شرور معينة لهذه الفئة من الأشرار أنهم  سيدانون لأجل تلك الشرور. هم تمثلوا في شراهتهم للنجاسات والشهوات بهذه الحيوانات التي لا تَشبَع من أكل الجيف الميتة، ولحس الدماء.

    ثالثاً: المثل لا يمثل سب أو شتيمة في حق هذه المرأة حسب الأعراف المتفق عليها:

    الشتم أو السب هو وصف الشخص بصفات ذميمة دون إسناد واقعي (نرجو الرجوع لإجابة السؤال السابق). لقد كانت هذه المرأة تمارس النجاسات من خلال عبادتها الوثنية؛ ولذا صدّقت ولم تعترض على وصف الرب مؤكدة استحقاقها للتوبيخ.  إن كلام الرب يدخل تحت بند التوبيخ على عدم الكف عن الشهوات، وممارسة النجاسات.

    رابعاً: أراد الرب إظهار عظمة إيمان هذه المرأة:

    لقد أراد الرب أن يعلن قيمة الإيمان، الذي يتخطى كل الصعاب، وينتصر بجدارة. لقد انتصر إيمان هذه المرأة عندما تأنى الرب عليها، ولم يجبها بكلمة واحدة، ولكنها لم تتوقف عن الصراخ إليه حتى أن التلاميذ طلبوا منه أن يصرفها بحسب قول معلمنا متى الإنجيلي: "وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً:«ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ:«اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!». (مت١٥: ٢٢- ٢٣). ظلت المرأة متمسكة بإيمانها، وهنا أجاب الرب تلاميذه قائلاً: "... لمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ» (مت ١٥: ٢٤).بعد ذلك فاح عبير الإيمان العظيم لتلك المرأة بسجودها له، ثم بتمسكها به كمخلص، وثقتها في محبته وقدرته، وأيضاً بإعترافها بنجاستها، وعدم إستحقاقها كشهادة الكتاب القائل: "فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً:«يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَالَ:«لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». فَقَالَتْ:«نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». (مت١٥: ٢٥- ٢٧). إنها حكمة الرب التي أظهرت إيمان هذه المرأة فإستحقت لإيمانها أن تُضَم لبنوية أولاد الله كقول معلمنا يوحنا الحبيب: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ." (يو١: ١١- ١٣).

    الخلاصة:

               لقد سقط الأبناء من بنوتهم لله بسبب عدم إيمانهم، وإرتفعت الخاطئة لتفوز بنعمة التبني. لقد أعطى الرب الجميع - يهوداً وأمماً من خلال تدبيره وحكمته في التعامل مع هذه المرأة - درساً عن كيفية الفوز بنعمة التبني له. كشف الرب عن عظمة إيمان الكنعانية، وإستحقاقها لنعم الله بجدارة أكثر من كثيرين من البنين، الذين جاء لهم خصيصاً ولكنهم لم يؤمنوا به فَرُفِضوا.