الخليقة

  • لماذا خلق الله الخليقة؟

    الله خَيِّر وصالح... فلذلك ليس من المعقول أن يكون وراء خلق الله للإنسان غرض آخر غير الخير والصلاح، لأن من الصالح يخرج صلاح، ومن الشرير شرور، وذلك كقول الكتاب المقدس:" هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَارًا رَدِيَّةً" (مت٧: ١٧).
    ولكن لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن نسأل أنفسنا هل أوجد الله الخليقة من أجل نفسه أم من أجل الإنسان؟!

    أولاً:

    بالنسبة لله:

    الله في طبيعته ليس محتاجاً للإنسان لأنه كامل، أي ليس فيه نقص يحتاج أن يكمله بمعونة من أحد.. ومثال ذلك يحتاج لك طفلك الرضيع كأب تحميه، ويحتاج لأمه لترعاه وحياته تتوقف عليكما، ولكن حياتك أنت كإنسان في كمال الرجولة لا تتوقف على طفلك، فأنت وأمه كنتما موجودين قبل ولادته، وبفرض أنكما لم تتزوجا كان يمكنكما أن تعيشا ككثيرين بلا زواج، والله أيضاً ليس في حاجة لأحد لأنه كائن بذاته كقول الكتاب: "أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبَدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (رؤ١: ٨).

    ثانياً:

    بالنسبة للإنسان. 18

    • الإنسان في فردوس النعيم: خلق الله الإنسان ليحيا إلى الأبد.. خلقه على صورته ومثاله في البر والقداسة والحكمة، وضعه في فردوس النعيم متمتعاً بالكثير من النعم، فعاش ينعم بحب ورعاية الله له، لم ينقصه شيء بل عاش كملك له سلطان على نفسه وعلى باقي المخلوقات التي خلقها الله لأجله... لقد زوّده الله بالعقل الراجح الحكيم، عاش حراً لا يقهره شيء... وهكذا أراد الله للإنسان السعادة وتحققت السعادة للإنسان في فردوس النعيم؛ لأن الله أشبع الإنسان بخيره كقول المرنم: "الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُك" (مز ١٠٣: ٥).
    • تعاسة الإنسان بعد سقوطه وانفصاله عن الله: تبدل حال الإنسان إلى التعاسة والشقاء بالسقوط في الخطية، والبعد عن الله مصدر الخير والصلاح، ومن هذا الوقت ابتدأ هذا السؤال يتبادر إلى الذهن: لماذا خلقني الله؟ ولكن لماذا لا يرد هذا السؤال على ذهن أحد القديسين الذين يحيون بفرح وسلام الروح القدس؟ بالطبع لأن هذا السؤال ينم عن شعور البعض بالتعاسة في أوقات الضعف والبعد عن الله.
    • الله يعيد للإنسان سعادته: عانى الإنسان الشقاء بسبب الخطية وعصيانه، لكن الله لم يتركه للتعاسة والشقاء، بل دبر له الفداء والخلاص، وحل بروحه القدوس في المؤمنين المتكلين عليه، ليسكب تعزياته فيهم، وليتمم خلاصه لهم، واعداً إياهم بأن يحيوا معه في ملكوته... إذاً الهدف من خلقة الإنسان هي سعادته سواء قبل السقوط في الفردوس، أو بعده حينما صلب لأجله وفداه ثم حل فيه بروحه القدوس، أو في الأبدية عندما سيعطيه الله ملكوت السماوات والحياة الأبدية.
    • الشكر والاعتراف لله واجب: الاقتراب من الله يهب للإنسان بركات الروح القدس؛ فيمتلئ محبة وفرحاً وسلاماً ورجاءً فى الحياة الأبدية السعيدة التي تنتظره؛ حينئذ يشعر الإنسان بالامتنان لله والشكر له لأنه خلقه، ولذلك يسبّحه ويعترف بحمده. وعندئذ لن يكون هناك مجال لهذا السؤال، وهل يستطيع أحد أن يقول لإنسان خيّر لماذا تعطي الفقراء؟ أم الأولى أن يشكره، أم هل يستطيع أحد أن يقول لموسيقار يعزف ألحاناً شجية لماذا تعزف؟ أم يشكره، وهل يستطيع أحد أن يقول لطبيب لماذا...؟ أم يشكره وهل... وهل... وهل... أم يشكره. إنه الخير الذي لا يمكن أن يقال لصانعه لماذا فعلت هذا، ولكن من المنطقي أن نعترف بفضل الله على خيره وصلاحه في خلقه لبني البشر كقول المرنم في المزمور: "لأَنَّكَ أَنْتَ اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذلِكَ يَقِينًا" (مز139: 13-14).
    أما من يرفض وجود الله في حياته؛ حينئذ سيكون قد أحب التعاسة واختارها لنفسه، ورفض السعادة والأبدية التي خلقه الله لأجلها. 
  • ماذا كان يفعل الله قبل خلقته للإنسان

    كيف يستطيع الإنسان الجسداني والمحدود في إمكانياته ومعرفته، والذي يقاس وجوده بعدد قليل من السنين أن يعرف أسرار الله خالقه الروحاني في طبيعته، وهو غير المحدود، وغير الزمني، أي الأبدي، وأيضاً الأزلي. إن هذا – بالطبع - شيئاً غير معقول ومستحيل كقول الكتاب: "لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟" (رو١١: ٣٤)... فمجرد التفكير في ذلك ينم عن عدم معرفتنا بطبيعة الله مقارنةً بطبيعتنا؛ وذلك لما يلي:

    أولاً:

    من هو الله ومن هو الإنسان؟

    طبيعة الإنسان مادية وطبيعة الله روحية، فنحن نفكر من خلال الأشياء التي نراها ونعرفها من حولنا فقط، فمثلاً: عندما أسألك هل من الممكن أن تقول لي ماذا كان فلان يفعل بالأمس؟ قد تستنتج بحكمتك البشرية مما تعرفه عن نفسك كإنسان عشرين بنداً أو عملاً، وقد يكون من بين ما استنتجته الكثير من الصواب، فتقول مثلاً: استيقظ فلان من نومه الساعة... وأكل فطوره وذهب إلى عمله و... و .. و...

    أما الله فلايسعنا إلا أن نقول عنه: "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاء" (رو ١١ :٣٣).

    ثانياً:

    الحجج المنطقية

    للاستنتاج الدقيق عما كان يفعله شخص ما بالأمس يلزمك أن تتحلى بأمرين وهما:

    • قدراتك الذاتية:

    لابد أن تتحلى بقدرٍ عالٍ من الذكاء أو الحكمة، والمعرفة تتيح لك احتواء وفهم ذلك الشخص، فإن لم تكن لديك هذه القدرة سيكون الفشل نصيبك، ولهذا تبارى الناس في اقتناء الحكمة والمعرفة، فمثلاً عندما سمعت في القديم ملكة سبأ بحكمة سليمان جاءت لتختبر حكمته بألغاز أو مسائل، ولما رأت أنه يفوقها في الحكمة اندهشت جداً وصار قلبها وفكرها منكشفان أمامه، بل لم تتمالك نفسها فكشفت له بإرادتها كل ما في قلبها له وخضعت له طالبة إرشاده كقول الكتاب: "وَسَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَأ بِخَبَرِ سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ، فَأَتَتْ لِتَمْتَحِنَهُ بِمَسَائِلَ... وَكَلَّمَتْهُ بِكُلِّ مَا كَانَ بِقَلْبِهَا. فَأَخْبَرَهَا سُلَيْمَانُ بِكُلِّ كَلاَمِهَا. لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ مَخْفِيًّا عَنِ الْمَلِكِ لَمْ يُخْبِرْهَا بِهِ. فَلَمَّا رَأَتْ مَلِكَةُ سَبَا كُلَّ حِكْمَةِ سُلَيْمَان... لَمْ يَبْقَ فِيهَا رُوحٌ بَعْدُ... وَأَعْطَتِ الْمَلِكَ مِئَةً وَعِشْرِينَ وَزْنَةَ ذَهَبٍ وَأَطْيَابًا كَثِيرَةً جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً. لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِثْلُ ذلِكَ الطِّيبِ فِي الْكَثْرَةِ..." (١مل١٠ : ١ - ١٠ ). هنا نتساءل هل من الممكن أن يدرك من لا حكمة له ولا قدرة أسرار كلي الحكمة والقدرة؟ بالطبع لا فنحن كبشر غاية في الضعف كوصف الكتاب المقدس: "هُوَذَا عَبِيدُهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ، وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ، الَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي التُّرَابِ، وَيُسْحَقُونَ مِثْلَ الْعُثِّ؟ بَيْنَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ يُحَطَّمُونَ. بِدُونِ مُنْتَبِهٍ إِلَيْهِمْ إِلَى الأَبَدِ يَبِيدُونَ" (أي 4: 18 -20).

    • مقدرتك على الإلمام بطبيعة الأخر:17

    إن كانت لديك مقدرة فذة فعليك توجيهها للمعرفة والإلمام بطبيعة ذلك الشخص وما يمر به من ظروف؛ حينئذ يمكنك معرفة ماذا فعل بالأمس فلان، فإن كان فلان هذا هو طفلك ذو الخمس سنوات فستستنج بالطبع بحكمتك الفذة بالمقارنة به طبعاً ، ماذا فعل بالأمس واليوم وأيضاً ماذا سيفعل غداً... لقد سَخَّر الإنسان الطبيعة وتحكم فيها بالحكمة والمعرفة فسير الطائرات بل سير سفن الفضاء والسفن العملاقة أيضاً في البحار، وسَخَّر وأخضع الحيوان لأنه تمكن من اكتشاف أسرار الطبيعة والحيوان، وأدركها تماماً.. أما بالنسبة لله فلا يمكننا إدراك أسراره ولا عمق حكمته المتناهية وذلك لضعفنا كشهادة سفر أيوب عن الله: "هُوَذَا اللهُ يَتَعَالَى بِقُدْرَتِهِ. مَنْ مِثْلُهُ مُعَلِّمًا؟ مَنْ فَرَضَ عَلَيْهِ طَرِيقَهُ، أَوْ مَنْ يَقُولُ لَهُ: قَدْ فَعَلْتَ شَرًّا؟ اُذْكُرْ أَنْ تُعَظِّمَ عَمَلَهُ الَّذِي يُغَنِّي بِهِ النَّاسُ. كُلُّ إِنْسَانٍ يُبْصِرُ بِهِ. النَّاسُ يَنْظُرُونَهُ مِنْ بَعِيدٍ. هُوَذَا اللهُ عَظِيمٌ وَلاَ نَعْرِفُهُ وَعَدَدُ سِنِيهِ لاَ يُفْحَصُ" (أي٣٦: ٢٢-٢٦).

    أخيراً قد يمكننا معرفة الكثير عن الله، وذلك عندما يكشف ويعلن لنا روح الله القدوس أسراره فائقة المعرفة كقول الكتاب: "فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ" (١كو10:2).