السقوط

  • لماذا منع الله أبانا آدم وأمنا حواء من الأكل من شجرة معرفة الخير والشر؟ ولماذا لم يقل لهما سبب عدم الأكل منها؟ وهل لهما عذر في السقوط؟ وإن لم يكن، فما الذي كان مفترضاً أن يجيبا به الحية حتى ينجوا من حيلتها الماكرة؟

    أولا:

    لماذا لم يكشف لهما الله أسباب منعهما من الأكل من الشجرة؟.
    يمكننا استناج بعض هذه الأسباب فيما يلي:

    1. الخالق هو الذي أعطى الإنسان العقل الناطق لكي يفهم ويميز به ما لخيره، ومن حقه كخالق ذي السلطان أن يحجب عنه أو يعلن له بحسب حكمته ما شاء من أسرار، سواء بإعلان إلهي فائق كرسالة مباشرة منه، أو بالرؤيا، أو بحلم، أو برسالة يحملها نبي، أو يعطي لعبيده الحكمة لاستنتاج وفهم ماغمض عليهم. أما الخليقة الناطقة أي الإنسان فليس من حقه أن يتذمر طالباً المزيد، أو يلوم الله على ما لم يعلنه له بل يشكره، فما نلناه لم تنله باقي المخلوقات... فشيء طبيعي ألا يعرف الناس كل شيء عن كل شيء.
    2. قد لا يكون لأبوينا قدرة علي استيعاب هذا السر، أي لماذا لا يأكلا من هذه الشجرة بالذات دون باقي شجر الجنة؛ فمن يمكنه أن يدرك فكر الله ومقاصده كقول الكتاب:" «لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟" (رو١١: ٣٤).
    3. قد يكون هذا اختبار حب ؟!والله ينتظر منهما أن يظهرا إيمانهما وحبهما له كأمنا العذراء؛ التي أظهرت خضوعاً وطاعة لله عندما بشرها الملاك بولادة الرب يسوع منها فقالت: "فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ»" (لو١: ٣٨).
    4. أو أن الله كان ينتظر منهما أن يسألاه وهو سيعلن لهما لاحقاً، فهو يريد الدخول معهما في حوار أبوي يسألاه وهو يجيب؛ فتتحقق علاقة الحب بين الله كأب والإنسان كابن يثق في أبيه كما قال أيوب الصديق: "اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي" (أي٤٢: ٤، ٥).
    5. أو لأن الله أرادهما أن يُظهرا شوقاً للمعرفة الإلهيةقبلما يعلن لهما أسراره، فهو لا يعلن إلا لمن يريد، وأعظم مثال لذلك هو شوق دانيال النبي الذي صلى ليفهم متى ينتهي سبي بابل؛ فأرسل الله له الملاك جبرائيل ليفهمه الكثير من الأسرار والإعلانات.

    ثانيا:

    هل كان لهما عذر في السقوط وماذا كان مفترضاً أن يفعلا لكي ينجوا من فخ إبليس؟بالطبع كان من الممكن ألا يسقط أبوانا في فخ إبليس.. والآن دعنا نتخيل في السطور القادمة ماذا كان مفترضاً أن يجيب أبوانا لكي لا يسقطا في الفخ، فنتعلم كيف ننجو نحن أيضاً من حيل إبليس:

    1. نحن لا نعرف لماذا لم يسمح لنا الله بالأكل من هذه الشجرة، ولكن لابد أن يكون هذا فيه خيرنا، ولماذا يمنعنا الله عن شجرة معينة إن لم يكن ذلك في صالحنا؟، فهو صالح ولم نرَ منه غير الصلاح.
    2. حينما نرى الله سنسأله عن سبب ذلك .
    3. أمامنا أشجار كثيرة وخير كثير لماذا ننشغل بهذه الشجرة بالذات؟! فلنعتبرها غير موجودة.
    4. ولكن أبسط الإجابات وأسهلها هي: لا نعرف وماذا يعنينا. وهل من المفترض أن نعرف كل شيء؟!

    إن سبب السقوط الرئيسي هو أنهما احتارا عندما لم يجدا إجابة، مفترضين في أعماقهما أنهما يجب أن يعرفا كل شيء عن كل شيء ( وهذا بالطبع كذب وخيال ناتج من الشعور بعظمة الذات وهذا أيضاً كبرياء ومستحيل)... لقد قبلا شكوكاً في محبة الله لهما فصدقا الحية؛ وعندما لم يسعفهما عقليهما بالإجابة الشافية على تساؤلات الحية قدم لهما العدو الشرير - على فم الحية - سيناريوهاته الشريرة متهماً الله ومشككاً في صلاحه قائلاً لهما: "بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ" (تك5:3). وهكذا قبلا من إبليس مشورته المميتة، وبالطبع بعدما حرك فيهما محبة الذات وتعظم المعيشة والكبرياء، ومن هذا الوقت ابتدأ إبليس يستعبدهما ويسيّرهما لحساب أغراضه الشريرة، وهكذا انفصلا عن الله مصدر الخير والصلاح، ووقع الجنس البشري كله في قبضة الشرير.

    الخلاصة:

    • هناك الكثير من أمور معاملات الله وحكمته في تدبير الخليقةغامضة على عقل البشر، وقد يكون تفسيرها صعباً لضعف وقصور في حكمة البشر ومعرفتهم، وعندما يرفض الإنسان أن يعترف بعجزه عن إدراك حكمة الله وجهله بالكثير والكثير منها ينتهز العدو الشرير الفرصة، ويقفز ليقدم له تخيلاته الشيطانية متهماً الله الكلي الصلاح بالقساوة والشر ولكن حاشا لله... إنه سيناريو قديم يبدأ بتساؤل قد يبدو بريئاً، ثم يبني عليه العدو افتراءات وشرور كثيرة. إذاً لابد أن نتحلى بالاتضاع واثقين أننا لا يمكننا أن نعرف كل شيء عن أمور الله وتدبيراته الفائقة المعرفة، ولا أحد أيضاً يمكنه أن يدرك حكمته كقول الكتاب: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" (رو١١: ٣٣).
    • ليس من المنطقي للإنسان حينما يجهل شيئاً عن معاملات الله أو أحكامه أن يذهب بخياله بعيداً ويسيء الظن بالله. فيا ليت أبوانا انتهرا الشيطان مؤكدين إيمانهم بالله قائلين: "نحن نعرف أن الله هو المحب والصالح كيف نشك فيه إذهب عنا يا شيطان".
    • كما أنه ليس لأحد الحق أن يعرف ما أخفاه الله في علمه هو فقط، فالله يعلن لمن يشاء وحينما يشاء. فنحن تراب ورماد أعطاه الله الحياة... وقد أكد ذلك أبونا إبراهيم حينما أصدر الله حكمه على مدينتي سدوم وعمورة بالإفناء، فاتضع إبراهيم أمام الله حاسباً نفسه تراباً ورماداً، وأنه ليس من حقه الاعتراض على حكم الله، ولكنه عاد ليلتمس باتضاع عفو الله لأهل سدوم وعمورة قائلاً: "فأجاب إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: «إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ " (تك١٨ : ٢٧). وقد أكد معلمنا بولس الرسول على كيفية السلوك باتضاع أمام الله قائلاً: "بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: «لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟»" (رو ٩: ٢٠).

    ملاحظة أخيرة

    ليس معنى معرفة الإنسان لجهله وضعفه ألا يجتهد ويبحث عن إجابات شافية لما لا يعلمه حسبما أعطاه الله من حكمة وفهم؛ ولكن قبلما نبحث طالبين المعرفة،علينا أولاً أن نتفق بأننا قد لا نفهم كل شيء ولا نعرف كل الأمور،22

    وليس لنا الحكمة الكاملة لإدراك الكامل (الله العظيم)، ولماذا نقبل هذا المبدأ ونطبقه في التعامل مع الأمور العلمية أو في جميع أمور حياتنا الزمنية، ولا نطبق هذا المبدأ على أمور الله السماوية وحكمته في إدارة هذا الكون؟!

  • هل الخطيئة حقاً هي السبب لآلام البشرية؟ ولماذا لم يتدخل الله لمنع أبوينا الأولين من السقوط فيها؟ وكيف تتسبب الخطية في الآلام ؟

    إن الألم عرضٌ ناتج عن معرفة الإنسان للشر، وهو أيضاً صناعة بشرية خالصة، ومقياس صادق لا يخطئ (ثرموميتر) لشرور البشر وأنانيتهم. وكلما زاد بُعدَ البشر عن الله طبيب البشرية الصالح زاد فسادهم وشرورهم، وقلّ صلاحهم، وبالتالي كثرت آلامهم، والعكس صحيح، وذلك كشهادة الكتاب القائل: " وَتَعْبُدُونَ الرَّبَّ إِلهَكُمْ، فَيُبَارِكُ خُبْزَكَ وَمَاءَكَ، وَأُزِيلُ الْمَرَضَ مِنْ بَيْنِكُمْ. لاَ تَكُونُ مُسْقِطَةٌ وَلاَ عَاقِرٌ فِي أَرْضِكَ، وَأُكَمِّلُ عَدَدَ أَيَّامِكَ" (خر٢٣: ٢٥- ٢٦). يتضح من الشاهد السابق إن زوال البركة عن الأشرار هي سبب الكثير من الآلام، وأما بركة الله للإنسان فَتُرِيَحهُ وتُجَنِبَهُ الكثير من الأتعاب بحسب قول الحكيم:"بَرَكَةُ الرَّبِّ هِيَ تُغْنِي، وَلاَ يَزِيدُ مَعَهَا تَعَبًا" (أم ١٠: ٢٢). والآن دعنا أيها السائل العزيز نبين ذلك من خلال ما جاء في السؤال بالتتابع من خلال النقاط التالية:

    أولاً: الخطية وراء آلام البشرية:

    • ارتباط الألم بالخطية وفساد وشرالإنسان: بدراسة سفر التكوين نجد أن بداية آلام البشرية بدأت بالتعدي على وصية الله، بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر. لقد أحس أبونا آدم ولأول مرة بالاضطراب النفسي والخوف نتيجة لمخالفته لوصية الله، وهذا ما يؤكد ارتباط الخطية بالألم النفسي. لقد كانت إجابة أب البشرية على سؤال الله له : " أين أنت" هي: … «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ».( تك: ٣: ٩- ١٠). وهذه الإجابة تشهد على آثار ونتائج خطيته. إن أعظم دليل على أن أبونا آدم كان يستمد سلامه النفسي وسعادته من إرتباطه بالله هو خوفه وفقدانه للسلام بمجرد معاداته، ومخالفته لله. لقد كان ما عاناه أب البشرية من إضطراب، وخوف هو مقدمة لما عاناه البشرمن أوجاع وآلام فيما بعد.

    ثانياً: لم يمنع الله الإنسان من الخطأ حفاظاً على حريته:

    أن الألم هو النتيجة الحتمية للخطية، والتي فعلها الإنسان بكامل حريته الممنوحة له من الله. أما إذا منعه الله من الخطأ فكان لابد أن يسلبه نعمة الحرية والإرادة، وهذا بالطبع ما لا يُرضي الله، ولا يُرضي الإنسان المخلوق على صورة الله في الحرية والإرادة. إن مشيئة الله للإنسان هي خيره وسلامه، ولكن الإنسان رفض طريق الحياة، واختار طريق الموت والألم. لقد أكد إشعياء النبي هذه الحقيقة قائلاً: "لَيْتَكَ أَصْغَيْتَ لِوَصَايَايَ، فَكَانَ كَنَهْرٍ سَلاَمُكَ وَبِرُّكَ كَلُجَجِ الْبَحْرِ. وَكَانَ كَالرَّمْلِ نَسْلُكَ، وَذُرِّيَّةُ أَحْشَائِكَ كَأَحْشَائِهِ. لاَ يَنْقَطِعُ وَلاَ يُبَادُ اسْمُهُ مِنْ أَمَامِي." (إش٤٨: ١٨- ١٩).

    ثالثاً: كيف تسببت الخطية في آلام البشرية؟:

    • تأصل الخطية في البشر، أو فساد طبيعتهم: صار لأبوينا الأولين خبرة في معرفة الخير والشر بعد أن صدقا الحية وأطاعاها. وقد أثرت هذه الخبرة السيئة سلبياً على سلوكهما وحياتهما، وذلك لأن الإنسان حينما يقع تحت تأثير الخطية يعتاد عليها بسهولة، ثم تتحول فيه إلى طبع يتحكم فيه، فلا يقدر التوقف عنها، حتى لو كانت تسبب له ضرراً. وأبسط دليل على ذلك هو: أن الناس كثيراً ما يذكرون عيوب بعضهم البعض، وكأنها طبيعة فيهم، وليس كأنها شيئاً عارضاً فيقولون مثلاً: فلان طبعه أناني، أو أنه مراوغ ومخادع، أو عنيف، أو شهواني، أو... ،أو...
    • الخطية تُفقِدُ الإنسان سلامه: بتحول الخطية إلى طبيعة في الإنسان وُجد الصراع في قلبه بين الخير الذي خُلِقَ عليه، والشر الذي أصبح واقعاً في حياته، ولكن الشر أكثر قبولاً للإنسان الطبيعي من الخير. كقول الكتاب: «الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ». (أم٩: ١٧). لقد تملك الشر على الإنسان، حتى أنه إذا أراد فعل الخير يجد الشر حاضراً أمامه ويمنعه أيضاً عن صنع الخير. إن فعل الحق والبر للإنسان الطبيعي يحتاج منه لصراع وجهاد، وهذا بعكس صنع الشر الذي صار سهلاً وميسوراً، كقول الكتاب: " لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ. إذًا أَجِدُ النَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى أَنَّ الشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي." (رو٧: ١٩- ٢١).
    • البغضة والأنانية وراء الكثير من الآلام: لقد صار الانسان مُستَعبداً للخطية والشر، وبالتالي زادت آلام البشرية بازدياد شرور الناس، فُوجد الطمع والغيرة والحسد والشهوة التي أدت إلى العنف والإيذاء و....و...، وكلما زاد شر الإنسان زاد إبتعاده عن الله القدوس، وبالتالي صار يطلب شهوته ولذته ويبحث عن ذاته في كبرياء، ففقد النعمة الإلهية. لقد اتخذ من الشيطان مُلهِماً وسيداً له، بل صار الشيطان هو رئيس هذا العالم الذي يقود الناس في طريق الفساد وهكذا ملأ الغم والألم الناس.
    • شر الناس وإيذاؤهم لبعضهم البعض مصدر أساسي للألم: بتحكم الشر في البشرية اصطدم البشر بعضهم ببعض، ولم يراعِ الإنسان انسجامه، واتفاقه، ووحدانيته مع إخوته من البشر. لقد تمكنت الكراهية والبغضة من قلوب الكثيرين من أبناء البشر نحو إخوتهم، حتى تخلى الكثيرون عن محبتهم لإخوتهم، وصار لسان حالهم قول قايين لله بعد قتله لأخيه: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟»، ومع ازدياد شر الناس زادت العداوة والقتل بين البشر، وقامت الصراعات والحروب بين الأفراد، والعائلات، والقبائل، والشعوب، والدول، واخترع البشر الأسلحة الفتاكة المدمرة، والتي تركت آثارها على صحة البشر لأجيال متلاحقة، بل أكثر من هذا أثرت على الطبيعة نفسها كما هو الحال في استخدام الأسلحة النووية. إنها الذات وعدم المحبة علة الشقاء والألم.
    • فساد الطبيعة والألم الجسدي: بدأ الألم الجسدي يزحف إلى جسد أبوينا الأولين مع سريان الحكم الإلهي بالموت، وذلك بعدما كسرا وصية الله وأصبحا مستحقين للموت بحسب القول الإلهي: "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ» (تك٢: ١٧)، ومع أنهما لم يموتا في الحال، لكن الموت بدأ يعمل فيهما تدريجياً من خلال الضعف والشيخوخة التي زحفت إلى كل خلية من خلايا جسديهما، ومنذ ذلك الوقت أصبح الإنسان معرضاً لأنواع كثيرة من الأمراض، وبالتالي دخله الألم الجسدي كنتيجة للخطية، والذي لا نهاية له سوى بانفصال روح الإنسان من جسده، (أي بموته).   
    • الأمراض العضوية، والاضطرابات النفسية تسري في جسد البشرية: إن الجينات الوراثية التي تحمل صفاتنا الجسمانية مصدرها واحد وهو أبوينا الأولين، ومع دخول الخطية وطمع الإنسان، وما سببه ذلك من اختراعات صناعية وحربية تأثرت البيئة الطبيعية المحيطة بنا بعوامل صناعية كثيرة، وهذا بدوره له تأثيره الضار على الجينات الوراثية للإنسان، وهكذا ظهرت أمراض عضوية كثيرة مستحدثة، توارثتها الأجيال المتعاقبة، وبالطبع صاحب الألم تلك الأمراض. إن عامل الوراثة يؤثر أيضاً في انتقال الأمراض النفسية من الآباء إلى الأبناء كما في انتقال الأمراض العضوية.
    • الأرض الملعونة سبب لآلام وشقاء البشرية: خُلق الإنسان ليكون سيداً للخليقة كلها، لكنه بخطيته وشره أضر بالطبيعة التي أصبحت ملعونة بسببه بحسب قول الرب: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِك. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ». (تك ٣: ١٧- ١٩). ومن ذلك الحين لم تعد الأرض تعطيه قوتها. لقد صارت الأرض الملعونة ضمن 14أسباب شقائه. أما الحيوانات والبهائم فقد كانت خاضعة لأبونا آدم الذي أعطاها أسماءها، ولكن ذلك لم يدم بعد الخطية، لأن الكثير منها أصبح مفترساً للإنسان بحسب قول قايين القاتل: "... : «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَل. إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي"(تك ٤: ١٣- ١٤).

    رابعاً: هل نشترك مع الله الحنون في رفع آلام البشر ولا تكون سبباً في مضاعفتها؟:

    أشفق الله على البشرية، وأعطاها إمكانيات كثيرة لتبرأ من آلامها، ولكن الكثير من الناس يتقاعسون، ولا يستخدمون تلك الإمكانيات  لتخفيف آلام إخوتهم من البشر مضاعفين آلام أنفسهم بشرهم، وعدم محبتهم لبعضهم البعض وفيما يلي نذكر بعض هذه الإمكانات:

    • المشاعر والأحاسيس الطبيعية والتي وضعها الله في قلوب البشر: وضع الله هذه الأحاسيس النبيلة لتدفع الناس للإحساس بآلام المرضى، والمساكين، والفقراء، والمشردين، والمعاقين، والمنكوبين لنخدمهم ونهتم بهم. لقد أكد الرب في مثل السامري الصالح أهمية الإحساس بالآخرين ومسئوليتنا نحو إخوتنا المنكوبين. وفي هذا المثل فضح الرب خطية البشرية التي لا تشعر بآلام أفرادها في صورة الكاهن واللاوي، اللذين لم يكترثا بالرجل المجروح والمتألم بقوله: "فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِنًا نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضًا، إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ" (لو ١٠: ٣١- ٣٢). إن الرب يريدنا كلنا أن نشعر، ونتفاعل مع إخوتنا مثله، وذلك كقول الكتاب: "فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ. مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا، غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِالأُمُورِ الْعَالِيَةِ بَلْ مُنْقَادِينَ إِلَى الْمُتَّضِعِينَ. لاَ تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ" (رو ١٢: ١٥- ١٦).
    • الإنسان وكيل الله على كل الإمكانيات والطاقات المعطاة لخدمة البشرية: أعطى الله البشرية طاقات وإمكانيات جبارة لتحيا بها. لقد استأمن الله البشر على الكثير من الخيرات، سواء كانوا أفراد أو جماعات أو دول، وعندما استخدم البشر تلك الإمكانيات لحساب الخير عم السلام والفرح. لقد خفف النبلاء من البشر آلام إخوتهم بإقامتهم المستشفيات ودورالرعاية للاهتمام بالأيتام والمسنين والمشردين، وأيضاً بذهابهم في رحلات شاقة إلى بلاد لم يعرفوها بحثاً عن المتألمين والفقراء والمعذبين، وكم أيضاً صنعوا خيراً باختراعاتهم واكتشافاتهم العلمية المفيدة و… و… و… لقد اقتدوا بالرب يسوع الطبيب الشافي، وخادم البشرية الحنون والمتضع

    الذي قيل عنه: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا" (مت٩: ٣٥-٣٦).

    الخلاصة:

    إن الألم صناعة بشرية خالصة، لأنه ثمرة شر الإنسان، ولكن الله كطبيب شفوق وضع بين أيدي البشر الكثير من الإمكانيات لتفادي آلام إخوتهم، أو على الأقل تخفيفها، ولكن على البشر أولاً أن يمتلئوا حباً بعضهم نحو بعض وأن يستغلوا الإمكانيات الموهوبة لهم من الله في خدمة البشر إخوتهم بحسب وصية الله القائلة: " فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ." (غل ٦: ١٠).

    أما العكس فهو الشر بعينه من كبرياء البشر وأنانيتهم، وطمعهم الذي يتسبب في الحروب والإيذاء للآخرين، وعدم مد يد الحب للشعوب الفقيرة، وهذا بخلاف الحروب والعنف، وما ينتج عنها من قتل للآلاف بل للملايين من البشر، وما تتركه وراءها هذه الحروب من تشريد، وتجويع، وأمراض، بل تدمير وإفساد للطبيعة الجامدة.