بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ

  • اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: "لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَ

    إن قول الرب هذا جاء ضمن خطاب طويل أعلن الرب في نهايته حكمه بدينونة أمة اليهود الرافضة له. لقد خص الرب هذا الجيل بالذات، لأنه يمثل أمة اليهود، الذين ضاعفوا شرورهم، حتى صار ذلك الجيل في ذلك الزمان أشر أجيال هذه الأمة. في النقاط التالية نشرح بالتفصيل ذلك:

    أولاً: قصد الرب من عبارة: "هذا الجيل"

    • الجيل المعاصر للرب يسوع المسيح:

    إن المقصود بكلمة هذا الجيل في قول الرب هو شعب إسرائيل المعاصرين للسيد المسيح، الذين رفضوا دعوته لهم بالخلاص. ولم يكتفوا بذلك فقط، بل إنهم فاقوا كل من سبقهم بصلبهم الرب يسوع، وأيضاً بقتلهم، وسفكهم دماء رسل الرب وتلاميذه والكثيرين ممن آمنوا بالمسيح في وحشية بالغة.

    • أخر أجيال أمة اليهود في ذلك الوقت أو أورشليم العاصية:

    نحن نعلم أن الله يجازي كل إنسان بحسب أعماله، ولكن إعطاء الويل لجيل بأكمله يشير لعقاب شامل للأمة كلها ممثلة في ذلك الجيل، بعدما تأنى الرب على تلك الأمة لأزمنة كثيرة. إن العقوبة، التي أتت على ذلك الجيل لم يقصد بها الرب استحقاق الجاحدين منهم عقوبة أبدية فقط (دينونة جهنم)، بل قصد أيضاً ويلات زمنية أرضية. لقد خرب القائد الروماني تيطس عام سبعين ميلادية مدينتهم المحبوبة أورشليم، وهدم هيكلهم، ولم يترك فيه حجر على حجر بحسب نبوءة الرب عليهم؛ فتشتتوا في أنحاء العالم وزال مجدهم. أما ما يؤكد أن هذا هو قصد الرب هو نبوءته بخرابهم بقوله: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا... هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا." (مت٢٣: ٣٧- ٣٨).

     

    ثانيًا: لماذا جيل بأكمله؟

    إن الله له السلطان الأوحد والمطلق على خليقته في كل الأحوال. ويمتد سلطان الله ليشمل الجميع أفراداً وجماعات، ممالك وإمبراطوريات، وذلك لكي لا تضل الشعوب. لقد شهد نبوخذ نصر (الوثني وأعظم ملوك مملكة بابل) لله خالق السماوات والأرض، إله دانيال، قائلاً: "فَأَجَابَ الْمَلِكُ دَانِيآلَ وَقَالَ: "حَقًّا إِنَّ إِلهَكُمْ إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الْمُلُوكِ وَكَاشِفُ الأَسْرَارِ، إِذِ اسْتَطَعْتَ عَلَى كَشْفِ هذَا السِّر.ِّ" (دا٢: ٤٧). إن الله لا يمكن أن يصمت تجاه شر الممالك الشريرة، ولكنه يؤدب، ويضبط، ويعاقب ممالك الشر، وهذا ما نشرحه فيما يلي:05

    • ضرورة امتداد سلطان الله على ممالك الأرض، كما هو على كل نفس:

    لقد أظهر الله سلطانه على القبائل والمجتمعات والممالك منذ نشأة الأرض ومن عليها. فقد سجل سفر التكوين قصة العصاة من أبناء نوح الذين بلبل الله ألسنتهم، وبددهم فخربت مدينتهم كقوله: "هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ". فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ " (تك١١: ٧- ٨).

    • سلطان الله على الممالك والمجتمعات هو إعلان عن قداسة الله وهيبته:

    اعتزت الشعوب القديمة بآلهتها، واتخذت من قوة آلهتها المزعومة دليلاً على حقيقة وجودها، ووجوب العبادة لها، فمثلاً رأت الشعوب التي عبدت آلهة الشر في قوتها على الإيذاء (بحسب تخيلهم) مبررًا لعبادتها... وهكذا ووسط هذه الأضاليل كان لزاماً على الإله الحقيقي أن يظهر سلطانه وقداسته ورفضه، وعدم رضاه بالشر بطريقة علنية واضحة. لقد تغنى داود النبي بإعلان الله عن قداسته لكل الشعوب قائلًا: "لأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ نَظَرَ، لِيَسْمَعَ أَنِينَ الأَسِيرِ، لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْتِ، لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِاسْمِ الرَّبِّ، وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ، عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّعُوبِ مَعًا وَالْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ" (مز١٠٢: ١٩- ٢٢).

    • الله ينذر، ويؤدب الأمة الشريرة قبل عقابها:

    أعلن الله الويلات لأمة بني إسرائيل، وذلك بسبب فسادهم وشرهم. لقد أعلن إشعياء النبي عن الويل الذي ينتظر شعب الله بسبب شرورهم، قائلاً: "وَيْلٌ لِلأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ، الشَّعْبِ الثَّقِيلِ الإِثْمِ، نَسْلِ فَاعِلِي الشَّرِّ، أَوْلاَدِ مُفْسِدِينَ! تَرَكُوا الرَّبَّ، اسْتَهَانُوا بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ، ارْتَدُّوا إِلَى وَرَاءٍ." (إش١: ٤). وقد أرسل الله أنبياءه في العهد القديم بنبوءات على ممالك ذلك الزمان مؤكداً سلطانه عليها كقوله: "اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هذَا الْيَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى الْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ" (إر١: ١٠).

    • لأن الجيل بأكمله (أمة اليهود) ساده الضلال:

    يطول صبر الله على الأمم الشريرة عشرات أو مئات السنين، كما حدث مع أهل كنعان، الذين طردهم الله بعد صبره عليهم أكثر من اربعمائة عام. ولكن الله لن يترك تلك الممالك في شرها إلى الأبد. فإذا ساد الفساد، وعم أغلبية الشعب في أمة أو مملكة ما، حينئذ يستشري فيها الفساد بتلقائية، وينعدم الأمل في شفائها من شرها، ومثال ذلك تأكد الطبيب من موت المريض إذا انتشر مرض خطير (سرطان) في أغلب أعضاء جسده. لقد حذر الرب من خطورة ترك الشر، وعدم القضاء عليه قائلًا: "أَقُولُ لَكُمْ:… وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟" (لو١٨: ٨).

     

    • الله لا يأخذ البار مع الأثيم:

    إن الله يعاقب أمة أو مملكة فاعلي الإثم الذين استشرى شرهم، لكنه مع هذا ينقذ الأبرار، ويتعامل معهم بما يتناسب مع براءتهم، وهذا واضح من إنقاذ نوح وبنيه من الطوفان، وواضح أيضاً من إنقاذ لوط وأسرته، وقد حدث ذلك أيضًا مع اليهود الأتقياء الذين آمنوا بالرب يسوع أثناء خراب أورشليم. فقد أعطاهم الرب علامة ليهربوا قبل دمار المدينة. إن الرب أمين وعادل، وهو يقدر أن يحفظ الأبرار، ويوجد لهم مخرجاً من التجارب، وحتى إن أصابهم بعض الشدائد يحولها لخيرهم كقوله: "يَعْلَمُ الرَّبُّ أَنْ يُنْقِذَ الأَتْقِيَاءَ مِنَ التَّجْرِبَةِ، وَيَحْفَظَ الأَثَمَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مُعَاقَبِينَ" (٢بط٢: ٩).وأيضاً قوله: "لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلكِنَّ اللهَ أَمِينٌ، الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا." (١كو١٠: ١٣).

    ثالثاً: استحقاق ذلك الجيل للعقاب والتأديب:

    • الجيل الشرير الفاسق:

    كان ذلك الجيل أشر جيل من أجيال أمة اليهود. لقد شهد الرب بشر هذا الجيل قائلاً: "جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ". ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَمَضَى." (مت١٦: ٤).لقد وصف الله هذا الجيل بأنه فاسق، ومعنى هذه الكلمة في قاموس اللغة هو العصيان والفُجر، أو هو الخروج عن طاعة الله، أو هو صنع الشر بلا مبالاة. إن شر أي جيل من الأجيال يعتمد أو يتحدد بما يأتي:

    ١. رفض رسل وأنبياء الله الذين يحملون رسالته لهم:

    لقد رفض ذلك الجيل أعظم رسالة وأجل إعلان من السماء، وهو الرب يسوع ابن الله الحي. إن أجيال اليهود السابقة لمجيء المسيح قتلوا الأنبياء المرسلين إليهم. أما هذا الجيل فقد رفض، وقتل ابن الله الوحيد الجنس، الذي أرسله الآب إليهم، كقول الرب يسوع نفسه: "ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِينَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذلِكَ. فَأَخِيرًا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ابْنِي! وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! " (مت٢١: ٣٦- ٣٨).

    ٢. عظم خطاياهم وجرائمهم:

    اقترف هذا الجيل الكثير من الخطايا والجرائم؛ فأعلن لهم الرب يسوع ما تستحقه هذه الخطايا من ويلات من خلال إلقائه عليهم خطاباً طويلاً مُعَدِّداً لهم الويلات الكثيرة وأسبابها مبتدءاً خطابه بقوله لهم: "لكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ." (مت٢٣: ١٣). ثم أكمل الرب معددًا لهم بالتتابع سلسلة بشعة من خطاياهم.

    ٣. رفضهم للرب يسوع المسيح البار والقدوس:

    لقد فاض كيل شرورهم برفضهم الرب يسوع المسيح، وعدم تجاوبهم مع ما قدمه لهم من إعلانات ونعم وبركات إلهية، وذلك كمَثلِ إهمال طالب لشرح وعناية أخلص وأعظم المدرسين. لقد أكد الرب هذا المفهوم قائلاً عن شر بعض المدن في زمن تجسده: "وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيمًا فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ." (مت١١: ٢١). وأيضاً قوله: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً." (يو٣: ١٩). وقوله أيضاً: "وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ." (مت١١: ٢٣).

    ٤. قتل الرب يسوع والكثيرين من تلاميذه وأتباعه:

    إن أعظم الجرائم، التي أوجبت اللعنة والدمار على هذا الجيل لم يذكرها الرب، لأنهم لم يكونوا قد أتمُّوها بعد، وهي صلب الرب يسوع ابن الله الوحيد. لقد شهد الرب بفظاعة هذه الجريمة عندما أعلن عن بشاعة دينونة يهوذا الإسخريوطي، الذي أسلم الرب يسوع، قائلاً: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!" (مت٢٦: ٢٤).

    • لماذا يأتي عليهم دم جميع الأنبياء، وليس من قتلوهم فقط؟

    أراد الرب تأكيد فظاعة جرمهم، واستحقاقهم لأقصى دينونة، لأن من قتل إله الأنبياء؛ فقد قتل ضمناً جميع الأنبياء. إن ذلك يشبه قول الرب عمَّن حلف بالمذبح أو بالسماء: "فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ! وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ، وَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ." (مت٢٣: ٢0- ٢2).

    أخيرأً:

    إن الذين يتخيلون الله رحيماً، وينسون أنه عادل أيضاً ينسبون نقصًا إلى كمال الله، لأن ما يتسم به الله من صفات أو فضائل إلهية، لا يمكن أن يتعارض مع بعضه البعض، لأن هذا هو مفهوم الكمال الحقيقي بحسب الكتاب المقدس القائل: "... لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ." (يع١: ٤).

    إن قول الرب هذا جاء ضمن خطاب طويل أعلن الرب في نهايته حكمه بدينونة أمة اليهود الرافضة له. لقد خص الرب هذا الجيل بالذات، لأنه يمثل أمة اليهود، الذين ضاعفوا شرورهم، حتى صار ذلك الجيل في ذلك الزمان أشر أجيال هذه الأمة. في النقاط التالية نشرح بالتفصيل ذلك:

    أولاً: قصد الرب من عبارة: "هذا الجيل"

    الجيل المعاصر للرب يسوع المسيح:

    إن المقصود بكلمة هذا الجيل في قول الرب هو شعب إسرائيل المعاصرين للسيد المسيح، الذين رفضوا دعوته لهم بالخلاص. ولم يكتفوا بذلك فقط، بل إنهم فاقوا كل من سبقهم بصلبهم الرب يسوع، وأيضاً بقتلهم، وسفكهم دماء رسل الرب وتلاميذه والكثيرين ممن آمنوا بالمسيح في وحشية بالغة.

    أخر أجيال أمة اليهود في ذلك الوقت أو أورشليم العاصية:

    نحن نعلم أن الله يجازي كل إنسان بحسب أعماله، ولكن إعطاء الويل لجيل بأكمله يشير لعقاب شامل للأمة كلها ممثلة في ذلك الجيل، بعدما تأنى الرب على تلك الأمة لأزمنة كثيرة. إن العقوبة، التي أتت على ذلك الجيل لم يقصد بها الرب استحقاق الجاحدين منهم عقوبة أبدية فقط (دينونة جهنم)، بل قصد أيضاً ويلات زمنية أرضية. لقد خرب القائد الروماني تيطس عام سبعين ميلادية مدينتهم المحبوبة أورشليم، وهدم هيكلهم، ولم يترك فيه حجر على حجر بحسب نبوءة الرب عليهم؛ فتشتتوا في أنحاء العالم وزال مجدهم. أما ما يؤكد أن هذا هو قصد الرب هو نبوءته بخرابهم بقوله: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا... هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا." (مت٢٣: ٣٧- ٣٨).

    ثانيًا: لماذا جيل بأكمله؟

    إن الله له السلطان الأوحد والمطلق على خليقته في كل الأحوال. ويمتد سلطان الله ليشمل الجميع أفراداً وجماعات، ممالك وإمبراطوريات، وذلك لكي لا تضل الشعوب. لقد شهد نبوخذ نصر (الوثني وأعظم ملوك مملكة بابل) لله خالق السماوات والأرض، إله دانيال، قائلاً: "فَأَجَابَ الْمَلِكُ دَانِيآلَ وَقَالَ: "حَقًّا إِنَّ إِلهَكُمْ إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الْمُلُوكِ وَكَاشِفُ الأَسْرَارِ، إِذِ اسْتَطَعْتَ عَلَى كَشْفِ هذَا السِّر.ِّ" (دا٢: ٤٧). إن الله لا يمكن أن يصمت تجاه شر الممالك الشريرة، ولكنه يؤدب، ويضبط، ويعاقب ممالك الشر، وهذا ما نشرحه فيما يلي:

    ضرورة امتداد سلطان الله على ممالك الأرض، كما هو على كل نفس:

    لقد أظهر الله سلطانه على القبائل والمجتمعات والممالك منذ نشأة الأرض ومن عليها. فقد سجل سفر التكوين قصة العصاة من أبناء نوح الذين بلبل الله ألسنتهم، وبددهم فخربت مدينتهم كقوله: "هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ". فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ " (تك١١: ٧- ٨).

    سلطان الله على الممالك والمجتمعات هو إعلان عن قداسة الله وهيبته:

    اعتزت الشعوب القديمة بآلهتها، واتخذت من قوة آلهتها المزعومة دليلاً على حقيقة وجودها، ووجوب العبادة لها، فمثلاً رأت الشعوب التي عبدت آلهة الشر في قوتها على الإيذاء (بحسب تخيلهم) مبررًا لعبادتها... وهكذا ووسط هذه الأضاليل كان لزاماً على الإله الحقيقي أن يظهر سلطانه وقداسته ورفضه، وعدم رضاه بالشر بطريقة علنية واضحة. لقد تغنى داود النبي بإعلان الله عن قداسته لكل الشعوب قائلًا: "لأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ نَظَرَ، لِيَسْمَعَ أَنِينَ الأَسِيرِ، لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْتِ، لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِاسْمِ الرَّبِّ، وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ، عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّعُوبِ مَعًا وَالْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ" (مز١٠٢: ١٩- ٢٢).

    الله ينذر، ويؤدب الأمة الشريرة قبل عقابها:

    أعلن الله الويلات لأمة بني إسرائيل، وذلك بسبب فسادهم وشرهم. لقد أعلن إشعياء النبي عن الويل الذي ينتظر شعب الله بسبب شرورهم، قائلاً: "وَيْلٌ لِلأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ، الشَّعْبِ الثَّقِيلِ الإِثْمِ، نَسْلِ فَاعِلِي الشَّرِّ، أَوْلاَدِ مُفْسِدِينَ! تَرَكُوا الرَّبَّ، اسْتَهَانُوا بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ، ارْتَدُّوا إِلَى وَرَاءٍ." (إش١: ٤). وقد أرسل الله أنبياءه في العهد القديم بنبوءات على ممالك ذلك الزمان مؤكداً سلطانه عليها كقوله: "اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هذَا الْيَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى الْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ" (إر١: ١٠).

    لأن الجيل بأكمله (أمة اليهود) ساده الضلال:

    يطول صبر الله على الأمم الشريرة عشرات أو مئات السنين، كما حدث مع أهل كنعان، الذين طردهم الله بعد صبره عليهم أكثر من اربعمائة عام. ولكن الله لن يترك تلك الممالك في شرها إلى الأبد. فإذا ساد الفساد، وعم أغلبية الشعب في أمة أو مملكة ما، حينئذ يستشري فيها الفساد بتلقائية، وينعدم الأمل في شفائها من شرها، ومثال ذلك تأكد الطبيب من موت المريض إذا انتشر مرض خطير (سرطان) في أغلب أعضاء جسده. لقد حذر الرب من خطورة ترك الشر، وعدم القضاء عليه قائلًا: "أَقُولُ لَكُمْ:… وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟" (لو١٨: ٨). 

    الله لا يأخذ البار مع الأثيم:

    إن الله يعاقب أمة أو مملكة فاعلي الإثم الذين استشرى شرهم، لكنه مع هذا ينقذ الأبرار، ويتعامل معهم بما يتناسب مع براءتهم، وهذا واضح من إنقاذ نوح وبنيه من الطوفان، وواضح أيضاً من إنقاذ لوط وأسرته، وقد حدث ذلك أيضًا مع اليهود الأتقياء الذين آمنوا بالرب يسوع أثناء خراب أورشليم. فقد أعطاهم الرب علامة ليهربوا قبل دمار المدينة. إن الرب أمين وعادل، وهو يقدر أن يحفظ الأبرار، ويوجد لهم مخرجاً من التجارب، وحتى إن أصابهم بعض الشدائد يحولها لخيرهم كقوله: "يَعْلَمُ الرَّبُّ أَنْ يُنْقِذَ الأَتْقِيَاءَ مِنَ التَّجْرِبَةِ، وَيَحْفَظَ الأَثَمَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مُعَاقَبِينَ" (٢بط٢: ٩). وأيضاً قوله: "لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلكِنَّ اللهَ أَمِينٌ، الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا." (١كو١٠: ١٣).

    ثالثاً: استحقاق ذلك الجيل للعقاب والتأديب:

    الجيل الشرير الفاسق:

    كان ذلك الجيل أشر جيل من أجيال أمة اليهود. لقد شهد الرب بشر هذا الجيل قائلاً: "جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ". ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَمَضَى." (مت١٦: ٤). لقد وصف الله هذا الجيل بأنه فاسق، ومعنى هذه الكلمة في قاموس اللغة هو العصيان والفُجر، أو هو الخروج عن طاعة الله، أو هو صنع الشر بلا مبالاة. إن شر أي جيل من الأجيال يعتمد أو يتحدد بما يأتي:

    ١.رفض رسل وأنبياء الله الذين يحملون رسالته لهم:

    لقد رفض ذلك الجيل أعظم رسالة وأجل إعلان من السماء، وهو الرب يسوع ابن الله الحي. إن أجيال اليهود السابقة لمجيء المسيح قتلوا الأنبياء المرسلين إليهم. أما هذا الجيل فقد رفض، وقتل ابن الله الوحيد الجنس، الذي أرسله الآب إليهم، كقول الرب يسوع نفسه: "ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِينَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذلِكَ. فَأَخِيرًا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ابْنِي! وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! " (مت٢١: ٣٦- ٣٨).

    ٢.عظم خطاياهم وجرائمهم:

    اقترف هذا الجيل الكثير من الخطايا والجرائم؛ فأعلن لهم الرب يسوع ما تستحقه هذه الخطايا من ويلات من خلال إلقائه عليهم خطاباً طويلاً مُعَدِّداً لهم الويلات الكثيرة وأسبابها مبتدءاً خطابه بقوله لهم: "لكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ." (مت٢٣: ١٣). ثم أكمل الرب معددًا لهم بالتتابع سلسلة بشعة من خطاياهم.

    ٣.رفضهم للرب يسوع المسيح البار والقدوس:

    لقد فاض كيل شرورهم برفضهم الرب يسوع المسيح، وعدم تجاوبهم مع ما قدمه لهم من إعلانات ونعم وبركات إلهية، وذلك كمَثلِ إهمال طالب لشرح وعناية أخلص وأعظم المدرسين. لقد أكد الرب هذا المفهوم قائلاً عن شر بعض المدن في زمن تجسده: "وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيمًا فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ." (مت١١: ٢١).وأيضاً قوله: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً." (يو٣: ١٩). وقوله أيضاً: "وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ." (مت١١: ٢٣).

    ٤.قتل الرب يسوع والكثيرين من تلاميذه وأتباعه:

    إن أعظم الجرائم، التي أوجبت اللعنة والدمار على هذا الجيل لم يذكرها الرب، لأنهم لم يكونوا قد أتمُّوها بعد، وهي صلب الرب يسوع ابن الله الوحيد. لقد شهد الرب بفظاعة هذه الجريمة عندما أعلن عن بشاعة دينونة يهوذا الإسخريوطي، الذي أسلم الرب يسوع، قائلاً: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!" (مت٢٦: ٢٤).

    لماذا يأتي عليهم دم جميع الأنبياء، وليس من قتلوهم فقط؟

    أراد الرب تأكيد فظاعة جرمهم، واستحقاقهم لأقصى دينونة، لأن من قتل إله الأنبياء؛ فقد قتل ضمناً جميع الأنبياء. إن ذلك يشبه قول الرب عمَّن حلف بالمذبح أو بالسماء: "فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ! وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ، وَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ." (مت٢٣: ٢0- ٢2).

    أخيرأً:

    إن الذين يتخيلون الله رحيماً، وينسون أنه عادل أيضاً ينسبون نقصًا إلى كمال الله، لأن ما يتسم به الله من صفات أو فضائل إلهية، لا يمكن أن يتعارض مع بعضه البعض، لأن هذا هو مفهوم الكمال الحقيقي بحسب الكتاب المقدس القائل: "... لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ." (يع١: ٤).

    v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} Normal 0 false false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:8.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:107%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}