تتمسك الكنيسة في عبادتها بأمور قد تبدو شكلية مثل طلب الشماس من المصلين الوقوف، أو السجود أثناء القداس الإلهي

  • لماذا تتمسك الكنيسة في عبادتها بأمور قد تبدو شكلية مثل طلب الشماس من المصلين الوقوف، أو السجود أثناء القداس الإلهي؟ ولماذا تطّالب الكنيسة أبناءها بالانقطاع عن الطعام قبل التناول، مع أن الرب وتلاميذه أكلوا الفصح قبل العشاء الرباني؟ ولماذا يتدخل الآباء في ح

    ترفض الكنيسة الممارسات الشكلية المظهرية الخالية من العبادة الداخلية القلبية، وقد وبخ الوحي الإلهي شعب الله قديمًا بسبب عبادتهم الشكلية قائلًا: "فَقَالَ السَّيِّدُ: "لأَنَّ هذَا الشَّعْبَ قَدِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ بِفَمِهِ وَأَكْرَمَنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَأَبْعَدَهُ عَنِّي، وَصَارَتْ مَخَافَتُهُمْ مِنِّي وَصِيَّةَ النَّاسِ مُعَلَّمَةً" (إش٢٩: ١٣). ولكن من الطبيعي أن يشترك جسد الإنسان، ونفسه (كل قدرته) مع روحه في العبادة الروحية المملوءة حبًا لله كقول الكتاب: "وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى" (مر١٢: ٣٠).

    فيما يلي نشرح أهمية العبادة الروحية القلبية، ومدى تأثرها بالمؤثرات المادية المحسوسة:

    أولًا: العبادة الروحانية:

    أكد الرب يسوع المسيح للسامرية ضرورة العبادة الروحية قائلًا لها: "اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" (يو٤: ٢٤). ولكن البشر لا يمكنهم ممارسة العبادة الروحية الكاملة، لأنهم ليسوا أرواحًا فقط. إن وضع الجسد وقوفاً أو جلوساً أو رقاداً وحالته الفسيولوجية، أو الصحية يؤثر على الحالة الروحية للإنسان، وقد يعيق ضعف الجسد أو تراخيه الروح النشيط عن الصلاة، ولهذا يحتاج الأمر للسهر والجهاد الروحي حتى يتغلب الإنسان على ضعف جسده. لقد نصح الرب يسوع تلاميذه، الذين لم يتمكنوا من السهر في الصلاة بسبب خمولهم ونعاسهم، بضرورة الجهاد والسهر قائلًا : "اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ" (مت٢٦: ٤١).

    فيما يلي بعض صفات العبادة الروحانية:

    • العبادة بالروح هي عبادة ذهنية واعية:

    العبادة بالروح تحتاج لتهيئة الذهن، والوعي (الفكر) كقول معلمنا بولس الرسول: "فَمَا هُوَ إِذًا؟ أُصَلِّي بِالرُّوحِ، وَأُصَلِّي بِالذِّهْنِ أَيْضًا. أُرَتِّلُ بِالرُّوحِ، وَأُرَتِّلُ بِالذِّهْنِ أَيْضًا" (١كو١٤: ١٥).إن العمل الذهني في التفكير، والتأمل في كلمة الله، وعظمته يهيئ الروح للعبادة الحارة. أما الاهتمامات الجسدية فهي تعمي الذهن عن الانتباه، والتركيز في باقي الأمور. لقد أكد سليمان الحكيم تلك الحقيقة بالنسبة للملوك، والرؤساء، الذين يهتمون بأجسادهم، وشهواتهم أكثر من مصالح بلادهم، مؤكدًا أن أمثال هؤلاء الملوك سيصيبهم الويل، بسبب انشغالهم بشهواتهم وتركهم ماهو أنفع: أي تدبير أمور أوطانهم كقول الكتاب: "وَيْلٌ لَكِ أَيَّتُهَا الأَرْضُ إِذَا كَانَ مَلِكُكِ وَلَدًا، وَرُؤَسَاؤُكِ يَأْكُلُونَ فِي الصَّبَاحِ" (جا١٠: ١٦).

     

    • ارتباط وتأثير المظهر الخارجي على العبادة الروحانية:

    إننا نتساءل هل يمكن لمن يبالغ في الاهتمام بمظهره الخارجي (الموضة بكل أشكالها في الملبس، والزينة، والتدهن بالروائح، والأطياب النفاذة)، الاستغراق في عمق صلاة القداس الإلهي، والعبادة الحارة؟! أشك في ذلك. وهل يمكن لمثل ذلك الإنسان أن ينسى المحافظة على هذا المظهر؟. إن الاهتمام بالمحافظة على مظهر الإنسان لابد أن يشغله، وكلما زاد اهتمامه بهذه الأمور الشكلية، كلما زاد أيضًا انشغاله بها، وقل تركيزه في العبادة الذهنية الخاشعة. لقد علمنا الكتاب المقدس أن تخلي الإنسان عن البهرجة في مظهره الخارجي أمر هام يلازم التوبة والتضرع لله. فيما يلي بعض نصوص الكتاب المقدس (الآيات)، التي تبين قوة تأثير المظهر الخارجي على التوبة والعبادة النقية:

    "وَلْيَتَغَطَّ بِمُسُوحٍ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ، وَيَصْرُخُوا إِلَى اللهِ بِشِدَّةٍ، وَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئَةِ وَعَنِ الظُّلْمِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ" (يون٣: ٨).

    "وَفِي الْيَوْمِ الرَّابعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ هذَا الشَّهْرِ اجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالصَّوْمِ، وَعَلَيْهِمْ مُسُوحٌ وَتُرَابٌ" (نح٩: ١).  

    "وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيمًا جَالِسَتَيْنِ فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ" (لو١٠: ١٣).

    ثانيًا: أمثلة الكتاب المقدس عن ضرورة الخشوع في حضرة الله:

    ذكر الكتاب المقدس أمثلة لاجتماع المؤمنين بغرض العبادة والصلاة. ويلاحظ الدارس للكتاب المقدس أن الصفة الأساسية، التي ميزت عبادة الشعب لله سواء في العهد القديم، أو الجديد هي الخشوع، وذلك بسبب شعورهم بالوجود في حضرة الله، ويظهر ذلك بوضوح من التزام الشعب بأوضاع جسدية معينة تعبر عن ذلك، ومن هذه الأوضاع السجود، أو الوقوف أثناء الصلاة، أو الركوع مع رفع اليدين في وضع التضرع. إن هذه الأوضاع الجسدية تعبر عن خشوعهم، ومهابتهم لله. فيما يلي نذكر بعضًا من تلك الأمثلة في العهد القديم والجديد:

    • الملائكة الروحانيون يخشعون ويسجدون في حضرة الله:

    رسم الوحي الإلهي صورة معبرة جدًا عن خشوع الملائكة أثناء تسبيحهم الله، ولم يجد الوحي صورة تعبر عن ذلك أفضل من سجود البشر أثناء صلواتهم، فلصق بالملائكة النورانية الروحانية أفعال البشر المادية كقول الكتاب: "وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ كَانُوا وَاقِفِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَالشُّيُوخِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ، وَخَرُّوا أَمَامَ الْعَرْشِ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَسَجَدُوا ِللهِ قَائِلِينَ: "آمِينَ! الْبَرَكَةُ وَالْمَجْدُ وَالْحِكْمَةُ وَالشُّكْرُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ لإِلهِنَا إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ!" (رؤ٧: ١١- ١٢). إنه لمن العجب أن يصور الوحي الإلهي الأرواح ساجدة خاشعة، بينما يرفض البشر السجود، بحجة أنهم يقدمون عبادة روحانية خالصة!!!

    • الكتاب المقدس يشهد عن عبادة شعب الله له بخشوع:

    سجل الكتاب المقدس شهادات كثيرة (في مواضع متعددة من أسفاره) عن التزام شعب الله بأوضاع جسدية تعبر عن اتضاعهم، ومهابتهم لله أثناء الصلاة، ومن هذه الشهادات نذكر ما يلي:

    • سفر الخروج:

    أثناء نزول الله على جبل سيناء كقول الكتاب: "وَكَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَرَوْنَ الرُّعُودَ وَالْبُرُوقَ وَصَوْتَ الْبُوقِ، وَالْجَبَلَ يُدَخِّنُ. وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ ارْتَعَدُوا وَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ" (خر٢٠: ١٨).

    • سفر أخبار الأيام الثاني:

    أثناء اجتماع الشعب لتدشين الهيكل، الذي بناه سليمان صلى الملك سليمان قائلًا: "لأَنَّ سُلَيْمَانَ صَنَعَ مِنْبَرًا مِنْ نُحَاسٍ... وَوَقَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ تُجَاهَ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ وَبَسَطَ يَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ" (٢أخ٦: ١٣).وأيضًا قول الكتاب: "وَحَوَّلَ الْمَلِكُ وَجْهَهُ وَبَارَكَ كُلَّ جُمْهُورِ إِسْرَائِيلَ، وَكُلَّ جُمْهُورِ إِسْرَائِيلَ وَاقِفٌ" (٢أخ٦: ٣). وأيضًا قوله: "وَكَانَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْظُرُونَ عِنْدَ نُزُولِ النَّارِ وَمَجْدِ الرَّبِّ عَلَى الْبَيْتِ، وَخَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ عَلَى الْبَلاَطِ الْمُجَزَّعِ، وَسَجَدُوا وَحَمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ وَإِلَى الأَبَدِ رَحْمَتُهُ" (٢أخ٧: ٣).

    • سفر نحميا:

    "وَبَارَكَ عَزْرَا الرَّبَّ الإِلهَ الْعَظِيمَ. وَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ: "آمِينَ، آمِينَ!» رَافِعِينَ أَيْدِيَهُمْ، وَخَرُّوا وَسَجَدُوا لِلرَّبِّ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ" (نح٨: ٦).

    • سفر المزامير:

    "أَمَّا أَنَا فَبِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ أَدْخُلُ بَيْتَكَ. أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ بِخَوْفِكَ" (مز٥: ٧).

    • البشائر الأربعة:

    سجد معلمنا بطرس الرسول أمام الرب في خشوع كقول الكتاب: "فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!" (لو٥: ٨).

    • سفر أعمال الرسل:

    وسجد معلمنا بطرس الرسول متضرعًا للرب عند إقامة طابيثا في يافا كقول الكتاب: "فَأَخْرَجَ بُطْرُسُ الْجَمِيعَ خَارِجًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْجَسَدِ وَقَالَ: "يَا طَابِيثَا، قُومِي!" فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا. وَلَمَّا أَبْصَرَتْ بُطْرُسَ جَلَسَتْ" (أع٩: ٤٠).

    صلاة بولس الرسول في اجتماعه بالكنيسة في ميليتس: "وَلَمَّا قَالَ هذَا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى" (أع٢٠: ٣٦).

    • سفر الرؤيا:

    خشوع معلمنا يوحنا الحبيب أمام الرب يسوع: "فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائِلاً لِي: "لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ" (رؤ١: ١٧).

     

    ثالثًا: علاقة العبادة والصلاة بالصوم:12 01

    • الله أولًا:

    علَّم الله شعبه منذ القديم ضرورة تفضيل تقوى الله على أي أمر آخر، وقد تمثل هذا التعليم في وصية البكور. فمن يزرع أرضه، ويتعب كثيرًا في انتظار الإثمار عليه أن يحمل أوائل غلات أرضه، وثمارها الثمينة، ويذهب لتقديمها لله، مفضلًا الله على ذاته كقوله: "أَوَّلَ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَطْبُخْ جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ" (خر٢٣: ١٩). على هذا المقياس أدرك الأتقياء -على مر العصور- معنى هذه الوصية بطريقة روحية كقول الكتاب: "أَنَا أُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَنِي، وَالَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي" (أم٨: ١٧). لقد علمتنا الكنيسة بناء على هذا التعليم البدء بالصلاة قبل أي عمل آخر، وبالطبع لا يتفق هذا التعليم مع حرص الإنسان على تناول إفطاره في الصباح قبل حضوره للكنيسة للصلاة، والعبادة.

    • شهادة الكتاب عن موائد الأغابي:

    اعتاد شعب كنيسة كورنثوس الاشتراك سويًا في مائدة واحدة (مائدة الأغابي)، لكن البعض من أغنياء الشعب أخطأ بالتسرع في الأكل بأنانية، دون انتظار باقي إخوته، ودون مراعاة مشاعر إخوتهم الفقراء، فأرسل الرسول يوبخ من لا يضبط نفسه منهم قائلًا: "فَحِينَ تَجْتَمِعُونَ مَعًا لَيْسَ هُوَ لأَكْلِ عَشَاءِ الرَّبِّ. لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْبِقُ فَيَأْخُذُ عَشَاءَ نَفْسِهِ فِي الأَكْلِ، فَالْوَاحِدُ يَجُوعُ وَالآخَرُ يَسْكَرُ. أَفَلَيْسَ لَكُمْ بُيُوتٌ لِتَأْكُلُوا فِيهَا وَتَشْرَبُوا؟ أَمْ تَسْتَهِينُونَ بِكَنِيسَةِ اللهِ وَتُخْجِلُونَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ؟ مَاذَا أَقُولُ لَكُمْ؟ أَأَمْدَحُكُمْ عَلَى هذَا؟ لَسْتُ أَمْدَحُكُمْ!" (١كو١١: ٢٠- ٢٢). وهكذا أرسى الرسول مبدأ أولوية الاهتمام بالأمور الروحية على الانشغال بالطعام. إن الهدف الأساسي من سر الإفخارستيا هو الشبع، والاتحاد بالرب من خلال هذا السر. أما من يستيقظ باكرًا باحثًا عن الطعام؛ فلابد أن ينصرف اهتمامه إلى أمور الجسد. لقد رتبت كنيستنا أن يأتي الشعب صائمًا في شوق للشبع بالرب من خلال تناول الأسرار الإلهية، وهذا يتمشى مع قول الكتاب: "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ" (مت٥: ٦)

    • العلم والواقع يشهد:

    تناول الطعام قد يؤثر في التركيز الذهني للإنسان، لأنه معروف لعامة الناس، والمثقفين منهم أيضًا أن امتلاء معدة الإنسان يصاحبها قلة التركيز، وتراخي الجسد، والميل للنعاس في بعض الأحيان.

    • أكل الفصح ليس مبررًا:

    لم يكن الفصح طعامًا معتادًا يغتذي به الإنسان، لكنه كان رمزًا للمسيح الفصح الحقيقي، الذي تمم خلاص، وفداء الإنسان، وحرر بني البشر من عبودية الشيطان. لقد أكل الرب، وتلاميذه الفصح كرمز، ثم قدم لهم الرب يسوع ما كان يرمز له الفصح، أي جسده المكسور عنا على الصليب، ودمه المسفوك عنا كقول الكتاب: "... لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا" (١كو٥: ٧). إن تلازم الرمز، والمرموز إليه في ليلة خميس العهد كان أمرًا ضروريًا لإيضاح حقائق كثيرة انتظرتها البشرية على مر أجيالها، وكما خلص أبكار بني إسرائيل من ضربة الموت بيد الملاك المهلك، ونال الشعب الحرية من عبودية فرعون، هكذا نال المؤمنون الخلاص، والحرية من عبودية إبليس. ولكن الرمز أدى مهمته بنجاح، فلم يعد هناك داعٍ لتكراره، ولهذا لم يعد المؤمنون يأكلون الفصح فيما بعد قبل سر الشكر (التناول) بحسب المبدأ الكتابي القائل: "وَلكِنْ مَتَى جَاءَ الْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ" (١كو١٣: ١٠). مما سبق يتضح أن أكل الفصح ليس مبررًا لعدم الاستعداد بالصوم قبل التناول من الأسرار المقدسة، لأن أكل الفصح كان طقسًا يهوديًا له غرض مقدس. أما عدم الصوم قبل التناول فهو ينم عن تهاون، وعدم استعداد لتناول الأسرار المقدسة.

    • الاستنتاج:

    لا تتمسك كنيستنا الملهمة بالروح القدس بأمور خارجية، لكنها تعتمد في طقوسها وتعاليمها على تعاليم الكتاب المقدس. لقد طَالبَّ الرسول بولس العظيم المؤمنين بتقديمهم لأجسادهم ذبيحة حية مرضية لله قائلًا: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ" (رو١٢: ١). فلا فصل إذًا بين الروح، والجسد في العبادة. أما من يتجاسر، ويتهم الكنيسة بالشكلية في تمسكها في عبادتها بروح الانضباط، وتقديم المهابة، والخشوع لله فهو لم يدرك بعد هذه المفاهيم الإنجيلية السامية اللازمة لخلاص البشر.