تحكمًا في حرية الأمناء من البشر

  • هل لن يكون لدى الإنسان في الحياة الأبدية إمكانية للتفكير بحرية في الشر؟ وألا يعتبر ذلك تحكمًا في حرية الأمناء من البشر، الذين ينتظرون المكافأة من الله؟ وهل يجبر الله بني البشر على التسبيح الدائم في الملكوت؟ ألا يعتبر ذلك أيضًا نوعًا من العبودية؟!

    تخيلات غير واقعية تمامًا:

    يتخيل صاحب السؤال أن أفكار الشر هي مجرد أفكار حرة، لا علاقة لها بقلب أو داخل الإنسان، ويتناسى صاحب السؤال أن الفكر يعبر عن شهوة قلب الإنسان، وما يريد فعله، ودائمًا ما يُتوج وينتهي بالفعل كقول الكتاب: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا. لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ"(يع١: ١٥- ١٦).أو قد يتخيل أن الأبرار في السماء يعيشون في كبت، وأنهم يسلكون في حياة الفضيلة مجبرين كعبيد؛ بينما هم يشتهون أن يفكروا بالشهوات والرغبات غير المقدسة، لكنهم لا يقدرون لأنهم مُجبرون على حياة القداسة. إننا نتساءل هل يصح أن يستغل القديسون في ملكوت السماوات الحرية الموهوبة لهم من الله في التفكير بالشرور؟ وعندما يفكرون بالشرور هل ستنتهي بهم الأفكارالشريرة لفعل الشر؟ أم سيظلون في تحرق وضيق، لأنهم غير قادرين الحصول على ما يشتهونه. فيما يلي نشرح ضلال تلك التخيلات:

    أولًا: حياة القداسة هي مطلب وشوق الأبرار:

    • تبعية الأبرار لله هي اختيارهم الحر:06

    الأبرار قرروا واختاروا الحياة الأبدية، ودليل اختيارهم هو جهادهم، وصبرهم وهم على الأرض، وقد أكد الرسول العظيم بولس ضرورة الجهاد المقدس، لأن ذلك بالطبع دليل تفضيل القديسين للحياة الأبدية على الحياة الأرضية الزائلة قائلًا: "لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ"(عب 12: 4). وأكد أيضًا أن الأكاليل، التي سنفوز بها في السماء لابد أن يسبقها الجهاد الروحي، وتتميم السعي، وحفظ الإيمان قائلًا: "قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا"(٢تي٤: ٧- ٨).

    ·        الرب يهبٌ إكليل البر لمن يطلبه فقط:

    لن يهب الرب إكليل البر (القداسة الدائمة) إلا لمن يطلبه من أعماق قلبه، لأن الله يهب الإنسان سؤل قلبه كقول المرنم:"لِيُعْطِكَ حَسَبَ قَلْبِكَ، وَيُتَمِّمْ كُلَّ رَأْيِكَ"(مز4:20).إن من يرفض الحياة الأبدية لن يجبره الله على التمتع بها؛ لأن الأبرار سيحيون هناك في قداسة وطهارة على الدوام (إكليل البر).      إن الله يريدنا أن نشتهي الطهارة حبًّا فيه كقوله: "اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي" (يو21:14). لقد فاز الأبرار بإكليل البر؛ لأن أحكام الرب، ووصاياه كانت مطلبهم، وموضوع جهادهم في حياتهم على الأرض. وقد خصص مرنم المزامير المزمور المائة والتاسع عشر لإظهار شوق وحرص أبناء الله القديسين لتتميم كل وصايا الله بأمانة.. وفي السطور التالية نذكر بعضًا من أعداد هذا المزمور الرائع:

    ١. "بِكُلِّ قَلْبِي طَلَبْتُكَ. لاَ تُضِلَّنِي عَنْ وَصَايَاكَ. خَبَأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْك"َ(مز١١٩: ١٠- ١١).

    ٢. "انْسَحَقَتْ نَفْسِي شَوْقًا إِلَى أَحْكَامِكَ فِي كُلِّ حِينٍ"(مز١١٩: ٢٠).

    ٣. "دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ، لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ. أَمِلْ قَلْبِي إِلَى شَهَادَاتِكَ، لاَ إِلَى الْمَكْسَبِ"(مز١١٩: ٣٥- ٣٦).

    • ليس من العدالة أن يعطيهم الله ما اشتهوا الخلاص منه:

    هم كانوا يئنون في الأرض من ضغط شهوات الجسد والخطيئة، وانتظروا بفارغ الصبر خلاصهم كقول الكتاب: "إِذًا أَجِدُ النَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى أَنَّ الشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي. فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ اللهِ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ. وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" (رو٧: ٢١- ٢٤).  وأيضاً قوله: "وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ... نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا"(رو23:8). فهل يطلبوا ما عانوا منه المرارة والشقاء؟! أو هل من العدالة أن يتسبب الله في شقائهم بإعطائهم ما هو ضد رغبتهم، كمكافأة لهم على محبتهم له؟!!

    ثانيًا: لا وجود للعبودية أو للتسلط في ملكوت السماوات:

    • آلام العبودية المرة ونيرها القاسي:

    لا يمكن أن يعيش العبد حياة الفرح، لأن ما يعانيه من مرارة وذل، وثقل العبودية يصير له مصدرًا للحزن، ولا يترك له مجالًا للفرح، إن السادة القساة يتسلطون على عبيدهم، ويسخرونهم مستخدمين التهديد والوعيد والعنف والإيذاء، ولا يراعون إمكانيات، أو ضعف عبيدهم الجسدي. هم يريدونهم أن يتموا ما ألزموهم به، حتى ولو كان ذلك في غير مقدورهم.

    لقد أذل فرعون مصر شعب الله، وسخرهم ليقوموا بأعمال مملكته بقسوة بالغة وصفها الكتاب بقوله: "وَمَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ فِي الطِّينِ وَاللِّبْنِ وَفِي كُلِّ عَمَل فِي الْحَقْلِ. كُلِّ عَمَلِهِمِ الَّذِي عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِمْ عُنْفًا"(خر14:1).

    • الخطيئة عبودية، حتى ولو كانت مجرد فكر شرير فقط:

    الخطية عبودية مُرَّة، وما يعانيه الإنسان الآن من أفكار شريرة تهاجم الكثيرين لا يعبر عن تمتع بالحرية؛ لأن هذه الأفكار الشريرة الضاغطة على إرادته تضايقه مستغلة الشهوة ولذة الخطية؛ فتسبب له آلامًا نفسية. إن الأفكار الشريرة، التي يثيرها عدو الخير لا تتوافق مع الطبيعة المقدسة، التي وهبها لنا الله. وقد يلح الفكر بشدة على الإنسان حتى يستغرق كليةً في خيال مريض شرير يحرمه من التفكير في أي شيء آخر مفيد، وفي النهاية يصنع الشر الذي ليس من طبيعته. فأين إذًا هذه الحرية؟!! ألا يعتبر ذلك جحيمًا؟  لقد صدق الكتاب المقدس حين وصف السقوط في الخطية بالعبودية، لأن السقوط هو سيادة وغلبة للشهوة والخطية على إرادة الإنسان.

    وقد أكد معلمنا بطرس الرسول هذا المفهوم قائلًا: "... لأَنَّ مَا انْغَلَبَ مِنْهُ أَحَدٌ، فَهُوَ لَهُ مُسْتَعْبَدٌ أَيْضًا!"(٢بط٢: ١٩). فهل من المنطقي أن يستعبد الإنسان ثانية للخطيئة في الملكوت؟!

    ثالثًا: مسرة قلب الله أن نكون أبناءً محبوبين له، لا عبيدًا مجبرين على طاعته:

    • بنوتنا لله:

    رفع الرب من قدر البشر فجعلهم أحباء له، وأعلمهم مشيئته، بل أعطى المؤمنين به نعمة التبني، وأمرنا أن ندعوه في الصلاة قائلين: "يا أبانا الذي في السماوات…".

    لقد أكد الرب هذا المفهوم صراحة قائلًا: "أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ. لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي"(يو١٥: ١٤- ١٥).. ولذلك لا يجبرنا الله على تقديم الصلوات، ولا على حياة القداسة، لكننا نجاهد لنحيا مقدسين حبًّا فيه.. وحينما نسبحه فذلك انفعالٌ قلبيٌّ حقيقيٌّ يشهد لحبه، وعظمة صنيعه معنا، وحينما نمجده فذلك إحساسٌ وإدراكٌ لعظمته، وهكذا…

    ·       طاعة الله تختلف تمامًا عن طاعة العبيد لسادتهم، لأنها تنبع من القلب:

    يطيع العبيد أسيادهم، لأن ذلك واجبٌ فرض عليهم، وإن لم يطيعوا يجبرهم أسيادهم على طاعتهم، وليس من الضروري أن يقتنع العبد بقيمة، وأهمية ما يعمله، لأن ذلك لا يخصه في شيء. أما العيش بقداسة فمن المستحيل أن يكون هكذا، لأن حب الله هوالدافع له، وذلك يحتاج أيضًا لعمل الروح القدس، الذي يُقنعنا بعظمة الحياة المقدسة. إنها طاعة من القلب كقول الكتاب: "فَشُكْراً ِللهِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيدًا لِلْخَطِيَّةِ، وَلكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا" (رو٦: 17).

    • الله يعطينا حق الحرية في تبعيته، لذلك يدخل معنا في عهد:

    جمع يشوع النبي الشعب - استجابة لأمر من الرب - وطلب منهم أن يقرروا من يختارون ليعبدوه: هل الرب أم آلهةأخرى؟ قائلًا لهم: "وَإِنْ سَاءَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا الرَّبَّ، فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ: إِنْ كَانَ الآلِهَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمُ الَّذِينَ فِي عَبْرِ النَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ آلِهَةَ الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ أَنْتُمْ سَاكِنُونَ فِي أَرْضِهِمْ. وَأَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ"(يش15:24).  فاختار الشعب عبادة الرب قائلين: "حَاشَا لَنَا أَنْ نَتْرُكَ الرَّبَّ لِنَعْبُدَ آلِهَةً أُخْرَى، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنَا هُوَ الَّذِي أَصْعَدَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالَّذِي عَمِلَ أَمَامَ أَعْيُنِنَا تِلْكَ الآيَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَحَفِظَنَا فِي كُلِّ الطَّرِيقِ الَّتِي سِرْنَا فِيهَا وَفِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَبَرْنَا فِي وَسَطِهِمْ"(يش٢٤: ١٦- ١٧). ولكن النبي أكد لهم أن تبعيات هذا الاختيار الحر هو العيش في قداسة، وطلب منهم عدم إغضاب الرب بالرجوع عن عهدهم مع الله قائلًا لهم: "وَإِذَا تَرَكْتُمُ الرَّبَّ وَعَبَدْتُمْ آلِهَةً غَرِيبَةً يَرْجعُ فَيُسِيءُ إِلَيْكُمْ وَيُفْنِيكُمْ بَعْدَ أَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ". فَقَالَ الشَّعْبُ لِيَشُوعَ: «لاَ. بَلِ الرَّبَّ نَعْبُدُ». فَقَالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: "أَنْتُمْ شُهُودٌ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ قَدِ اخْتَرْتُمْ لأَنْفُسِكُمُ الرَّبَّ لِتَعْبُدُوهُ". فَقَالُوا: «نَحْنُ شُهُودٌ"(يش٢٤: ٢٠- ٢٢)، ولهذا طالبهم النبي بنزع تماثيل الآلهة الغريبة قائلاً لهم: "فَالآنَ انْزِعُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي فِي وَسَطِكُمْ وَأَمِيلُوا قُلُوبَكُمْ إِلَى الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ". فَقَالَ الشَّعْبُ لِيَشُوعَ: "الرَّبَّ إِلهَنَا نَعْبُدُ وَلِصَوْتِهِ نَسْمَعُ". وَقَطَعَ يَشُوعُ عَهْدًا لِلشَّعْبِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، وَجَعَلَ لَهُمْ فَرِيضَةً وَحُكْمًا فِي شَكِيمَ"(يش٢٤: ٢٣- ٢٥).

    أما نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، فقد دعانا الربلندخل معه في عهد جديد مقدس بدم المسيح ابن الله، تاركًا الاختيار لمن يريد، ويمكن أن نرى ذلك بوضوح مما رواه لنا القديس يوحنا الإنجيلي، عن رجوع بعضٍ من تلاميذ الرب عن تبعيته بسبب عدم قبول تعاليمه المقدسة، ولكن الرب تركهم لحرية اختيارهم، بل أكثر من هذا التفت الرب مخاطبًا تلاميذه الاثنى عشر مؤكدًا أنه لا يجبر أحد على تبعيته قائلًا: "أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟"(يو67:6). ولكن الاثنى عشر تلميذًا القديسين أكدوا ثبات اختيارهم على فم معلمنا بطرس الرسول القائل: "فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ:"يَارَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ"(يو٦: ٦٨).

    • محبتنا لله هي السر وراء خضوعنا له:

    لقد أحبنا الله محبة أبدية وأعطانا نعمة البنوة. إننا نحبه، ولهذا يدفعنا الحب للخضوع له، وطاعته أكثر من طاعة العبيد، الذين يطيعون مجبرين. إن أبلغ مثال يبين الفرق بين طاعة العبد المجبر، وطاعة من يحب هو ما ذكره سفر التثنية عن العبد العبراني، الذي يفضل البقاء مع سيده حبًّا فيه فيصير له عبدًا مؤبدًا، وذلك بالرغم من انتهاء فترة عبوديته قائلًا: "وَلكِنْ إِذَا قَالَ لَكَ: لاَ أَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ. لأَنَّهُ قَدْ أَحَبَّكَ وَبَيْتَكَ، إِذْ كَانَ لَهُ خَيْرٌ عِنْدَكَ، فَخُذِ الْمِخْرَزَ وَاجْعَلْهُ فِي أُذُنِهِ وَفِي الْبَابِ، فَيَكُونَ لَكَ عَبْدًا مُؤَبَّدًا. وَهكَذَا تَفْعَلُ لأَمَتِكَ أَيْضًا"(تث١٥: ١٦- ١٧). لقد دعي معلمنا بولس الرسول نفسه عبد يسوع المسيح ليؤكد استعداده لخدمته بتفانٍ، كما يطيع العبيد الأمناء سادتهم.

    وقد أكد معلمنا بطرس الرسول أيضًا على وجوب خضوعنا، وطاعتنا لله، الذي نحبه بملء الحرية في بلاغة قائلًا: "لأَنَّ هكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ: أَنْ تَفْعَلُوا الْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ النَّاسِ الأَغْبِيَاءِ. كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ اللهِ"(١بط٢: ١٥- ١٦). أننا أبناء الملكوت نتمتع بحب، وغنى أبينا السماوي ونحبه؛ ولهذا نخضع له، ونطيعه.

    الخلاصة:

    • أورشليم السمائية المقدسة هي مسكن الله مع الناس:

    وعد الكتاب المقدس الأبرار بالحياة الدائمة مع الله، وقد وصفها الكتاب أنها مسكن الله مع الناس.. وأكد الكتاب أيضًا على حضور الله الدائم، وسكناه مع الأبرار قائلًا: "وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا:"هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ"(رؤ3:21).. ولكن الله هو القدوس، الذي لا يطيق الشر؛ ولهذا لن يكون هناك شر أو أشرار في أورشليم السمائية كقول الوحي الإلهي: "وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا، إِّلاَّ الْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ"(رؤ27:21). وأيضًا قول معلمنا بطرس الرسول: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ"(١بط١: ٣- ٤). نستنتج مما سبق أنه لن يكون في الأبدية شرٌ سواء بالفكر، أو بالحواس، أو بالفعل.

    • أورشليم السمائية مدينة الفرح والحرية:

    إن الأبرار في ملكوت أبيهم لا يُجبرون على حياة القداسة، ودليل ذلك فرحهم الدائم، وتسبيحهم، وتهليلهم عن طيب قلب كقول القديس يوحنا الرائي: "وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنِيمَةَ إِّلاَّ الْمِئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ اشْتُرُوا مِنَ الأَرْضِ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً ِللهِ وَلِلْخَرُوفِ. وَفِي أَفْوَاهِهِمْ لَمْ يُوجَدْ غِشٌّ، لأَنَّهُمْ بِلاَ عَيْبٍ قُدَّامَ عَرْشِ اللهِ"(رؤ١٤: ٣- ٥). فهل يمكن لإنسان مجبر يشتهي الشر، أو النجاسة أن يتهلل هكذا؟ لقد نفى النبي ذلك بقوله: "لم يستطع أحد أن يتعلم الترنيمة… إلخ…".

    إننا نخلص مما سبق شرحه أن طبيعة الخطية، حتى لو كانت فكرًا فقط لا تتماشى مع طبيعة الحياة الأبدية إطلاقًا