ولماذا يلام يهوذا

  • لماذا حكم الرب على يهوذا مُسلمه مسّبقاً بالويل؟، ولماذا يلام يهوذا مع أن الرب قد اختاره ليتمم به الفداء عندما أعطاه اللقمة، وقال له ما أنت فاعله، فافعله سريعاً؟

    كشف الوحي الإلهي بدقة مسئولية يهوذا التامة عن شره قائلا: "وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ" (مز١٠٩: ١٧). من خلال النقاط التالية نشرح ذلك تفصيلاً:

    أولاً : لم يحكم الله على يهوذا مسبقاً:

         لم يُعطِ الرب شخص يهوذا ويلاً، أو حكماً مسبقاً إنما لِحُبِه له حذره، وأنذره كراعٍ صالح مما سيأتي عليه في حالة تمسكه بشره، ودليل ذلك قوله: "ويل لذلك الرجل الذي"… وليس "الويل لك" كما جاء بحسب بشارة القديس مرقس القائلة: "... وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!». (مر١٤: ٢١).

    ثانياً: لم يختر الرب يسوع يهوذا ليسلمه:

    هذا الافتراض غير منطقي كلية، وحاشا لله أن يفعل هذا، لأن الله هو الخالق القدير كلي الحكمة المُدبر كل ما في السماء، وما على الأرض. لقد شهدت العذراء أنه هو الصانع عظائم قائلة: "لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ،" (لو١: ٤٩). وإنه لمن السذاجة أن يَتهم عاقل الرب بأنه كان يتحين فرصة ليدفع يهوذا لخيانته، حتى يتمكن من إتمام الفداء. قد يكون هذا افتراض منطقي لإنسان ضعيف مثلي، ومثلك يقتنص الفرص ليصل إلى ما يريد. أما بالنسبة لله فهذا غير معقول، لأنه لايعسر عليه أمر كقول إرميا النبي: ".هأَنَذَا الرَّبُّ إِلهُ كُلِّ ذِي جَسَدٍ. هَلْ يَعْسُرُ عَلَيَّ أَمْرٌ مَا؟" (إر٣٢: ٢٧).

    ثالثاً: صلاح الله:

    الله هو الراعي الصالح بحسب قوله 08عن نفسه: "... أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ." (يو١٠: ١٠- ١١)، وهذا يعني ما يلي:

    • الله كامل في كل طرقه ومعاملاته، ولا يغوي أحداً كقول الكتاب: "بَارٌّ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَأَحْكَامُكَ مُسْتَقِيمَةٌ." (١١٩: ١٣٧). وأيضاً قول الوحي الإلهي على فم أليهو صديق أيوب: "لأَجْلِ ذلِكَ اسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي الأَلْبَابِ. حَاشَا ِللهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ. لأَنَّهُ يُجَازِي الإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُنِيلُ الرَّجُلَ كَطَرِيقِهِ. فَحَقًّا إِنَّ اللهَ لاَ يَفْعَلُ سُوءًا، وَالْقَدِيرَ لاَ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ." (أي٣٤: ١٠- ١٢).
    • لا يفرط في أحد من رعيته، كما أشار هو في مَثل الخروف الضال، عندما ذهب ليبحث عن خروف واحد ضال من مائة خروف. وهذا ما أكده الرب في ساعة القبض عليه في بستان جثسيماني بحرصه على سلامة تلاميذه كقول معلمنا يوحنا الحبيب: "أَجَابَ يَسُوع: "... فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ». لِيَتِمَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ: «إِنَّ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا" (يو١٨: ٨- ٩). فكيف يحكم الرب على تلميذه المحبوب يهوذا مسبقاً، أو يتمنى شراً أو ويلاً له؟!
    • الراعي الصالح يُعلم ويُرشد ويُنذر ويُحذر، ولا يَغوي أحداً، بل يُعلمالخطاة أيضاً، كما الأبرار (إن هم قبلوا) كقول المرنم: "اَلرَّبُّ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ، لِذلِكَ يُعَلِّمُ الْخُطَاةَ الطَّرِيقَ." ( مز٢٥: 8). فكيف يدفع الرب يهوذا لخيانته مع أن هذا ضد طبيعته الصالحة. وهناك الكثير من الأمثلة التي لا حصر لها عن تحذيرات الله للبشر قبلما يخطئوا. نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:

    ١. تحذيره لقايين قبلما يقتل أخاه هابيل، وحثه له لكي لا يُتَمِم شره.

    ٢. تحذيره لبلعام بن بعور بمجيء ملاك الرب له؛ ومعجزة تكلم حماره، لكي لا يخطئ ويلعن بني إسرائيل، الذين كانوا مباركين من الرب في ذلك الوقت.

    ٣. تحذيره لبيلاطس البنطي في حلم لامرأته، لكي لا يمد يده بسوء للرب يسوع المسيح البار.

    ٤. تحذيره لبطرس كي لا يُخطئ، ويُنكر الرب، وإعطاؤه علامة لتذكيره، وهي صياح الديك.

    وهكذا حذر الرب كثيراً أورشليم لرفضهم له، ومازال الرب يُحَذر كل نفس بحب، لكي لا تخطئ، ولسان حاله يخاطب عناد البشر قائلاً: " أَمَّا مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ:«طُولَ النَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ" (رو١٠: ٢١). كانت إرادة الرب أن يستجيب يهوذا، ولكن شره عماه وأهلكه.

    رابعاً: أمسك الرب به إلى النهاية، ولكنه لم يقبل حتى النهاية أيضاً:

         لو كان الله – فرضاً - يُريد أن يدفع يهوذا ليُسَلمه، لماذا حذره كثيراً؟.      لقد حذره الرب بطريقة واضحة دون أن يجرح مشاعره بكلمة واحدة، ودون أن يسمح لأحد من التلاميذ أن يُسيء إليه، ولكنه لم يقبل تحذيرات الرب له. لقد كانت النتيجة سيئة جداً، أخذ قلبه يتقسى، وبصيرته تظلم أكثر فأكثر مع كل مرة يرفض فيها التحذير حتى عمي تماماً، ودخله الشيطان. حينئذ أتى الشيطان ليقوده إلى الهلاك وهو في خضوع تام له. وفيما يلي تخيل لتسلسل تحذيرات الرب المتوالية له على مائدة العشاء الأخير من خلال ما كتبه البشائر الإنجيليين:

    • ربط الرب جلوسهم على المائدة لأكل الفصح، والعشاء الرباني بنبوة المزمور القائل: "...اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ." (يو ١٣: ١٨)، وكأنه أراد أن يَرجِع يهوذا بالذاكرة للمزمور الذي يحكي بالتفصيل ما سيعانيه من هلاك لعله يرتدع.
    • كشف الرب لهم في حزن أن أحدهم سيسلمه قائلاً: "... الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي». فَحَزِنُوا جِدًّا، وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ:«هَلْ أَنَا هُوَ يَارَبُّ؟» (مت ٢٦: ٢١- ٢٢).
    • أجاب الرب وقال بوضح قائلاً: "...الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي!" (مت ٢٦: ٢٣) & (لو٢٢: ٢١).
    • أدرك التلاميذ تماماً مشاعر الرب، وذلك بدليل حزنهم واضطرابهم وسؤال كل منهم للرب: " هل أنا يا سيد".
    • اضطر يهوذا أن يُظهر حزناً وإضطراباً مُصْطَنعين، وكأنه قد انفجع لقول الرب مثل باقي التلاميذ، فسأل هو أيضاً الرب قائلاً: "هل أنا هو ياسيد"؛ فأجاب الرب صراحة أمام الجميع: "أنت قلت"، وسكت يهوذا، ولم يُجب بشيء، ولم يجرؤ على إظهار حبه للرب (كبطرس)، ولم يستنكر أيضاً ذلك كباقي التلاميذ.
    • كان التلاميذ مُتَشَككين، ومُتحيرين فيمن يكون هذا الخائن، لذا طلب معلمنا بطرس الرسول من معلمنا يوحنا حبيب الرب أن يَسأل الرب صَراحةً عمن يكون الخائن، فأجابه الرب قائلاً: " هوذا الذي أغمس اللقمة وأعطيه"، ثم غمس الرب اللقمة، وأعطاها ليهوذا الإسخريوطي، ولم ينطق يهوذا بعدها.
    • استمر الرب في تحذيره له للمرة الأخيرة مُظهراً نبرة عتاب رقيقة؛ لعله يَفيق من غفلته قائلاً له: "ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة" (يو ١٣: ٢٧).
    • خرج بعدما أخذ اللقمة لأن الشيطان دخله ليقوده للهلاك، ولكن لرقة الرب، وعذوبة أسلوب حديثه لم يدرك أحد من المتكئين معنى قول الرب له، لقد ستر الرب عن تلاميذه شر يهوذا، لئلا يسيء إليه أحدهم إذا عرفوا شخص الخائن. (يو ١٣- ٢٩- ٣٠).

    خامساً : فداء الرب كان سيتم دون تدخل يهوذا:

    • لم يكن الفداء الذي سيصنعه الرب يحتاج أن يُسلمه تلميذ من تلاميذه. بحسب قول الرب: "وَابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ!"(لو ٢٢: ٢٢). فهل كان فداء الرب يعيبه أن يقبض أعوان رؤساء الكهنة على الرب يسوع دون وساطة يهوذا؟! إن فداء الرب كان سيتم سواء سلم يهوذا الرب أم لا. لقد كان شر رؤساء كهنة اليهود، ورؤساء تلك الأمة نحو الرب لا مثيل له. لقد تشاوروا لقتل الرب بعدما أَعادَ البصر للمولود أعمى، وأفتوا بأن ذلك خير لأمتهم حتى لا تزيد شعبية الرب يسوع المسيح، بل أصدروا أمراً صريحاً بالقبض عليه حسب قول البشير:" فَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ. فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضًا يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ عَلاَنِيَةً، بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ... وَكَانَ أَيْضًا رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْرًا أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ، لِكَيْ يُمْسِكُوهُ." (يو١١: ٥٣- ٥٧).
    • كان احتياج رؤساء الكهنة، وقادة اليهود ليهوذا هو للقبض على الرب منفرداً عن الجموع من أحبائه؛ وذلك لخوفهم من رد فعل الجموع، وهذا لم يكن بالأمر الصعب لو لم يقم به يهوذا، فلو أرسلوا جواسيس يترقبونه، لكانوا قد نجحوا في الوصول لغرضهم دون يهوذا. ولكنها خيانة يهوذا الذي زج بنفسه في هذا الوضع الصعب ليحصل على بعضٍ من الفضة، وهو غيرَ مُبالٍ بما سيعانيه صديقه من جراء خيانته.

    سادساً: لم يكن يهوذا في حاجة إلى غواية لأنه كان شريراً :

    • لم يحتاج يهوذا لغواية ليتمم جريمته فالشر كان يملأ قلبه بحسب شهادة الكتاب عنه، وفيما يلي بعض من شهادات البشائر الأربع عنه:

    1- كان لصاً بحسب قول الكتاب عنه: "فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ :"لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟ "قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ."(يو12: 4- 6).

    2- أنانياً لا يلتفت لبؤس الفقراء بحسب شهادة معلمنا يوحنا الرسول السابقة.

    3- دَاوَمَ على هذه التصرفات الشاذة لفترة ليست بقصيرة بدليل قول معلمنا يوحنا الرسول: "إنه كان يأخذ ما يُلقىَ في الصندوق".

    4- لم يعرف الخجل، حتى أنه باستهتار وبخ مريم أخت لعازر، لأنها انفقت كثيراً من الدينارات من أجل الرب، ولم يخجل أن يُحسَب هذا عليه عدم تقدير لسيده.

    5- جريئاً في شره أو سرقته للصندوق، بدليل أنه لم يَخشَ أن يُكتشف أنه صاحب مصلحة خاصة في جلب الأموال لصندوق الفقراء.

    6- قد اعتاد على السرقة بجرأة بسبب محبته للمال بشدة، حتى أنه لم يبال بحرص الرب على الستر عليه بل واصل سرقاته.

    • نبعت الغواية من داخل يهوذا، ولم يدفعه أحد للخيانة. بدليل ذهابه مسبقاً كما هو مكتوب في بشارة القديس لوقا إلى رؤساء الكهنة قبل الفصح، وتفاوضه معهم، واتفاقه على تسليم الرب لهم وذلك كقول الكتاب: " وَقَرُبَ عِيدُ الْفَطِيرِ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْفِصْحُ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ. فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ... فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْوًا مِنْ جَمْعٍ." (لو٢٢: ١- ٦).

     

    الخلاصة:

    رفض يهوذا محبة الرب، ولم يقبل تحذيراته الكثيرة، ومع كل رفض لحب سيده له أو تحذيره كان قلبه يتقسى أكثر فأكثر، وبصيرته تُظِلم أكثر فأكثر،... وهكذا إزداد قساوة قلب، وظُلمةٍ حتى عَمِيَ تماماً، وعندئذ دَخَله الشيطان ليقوده، وهو خاضع له تماماً، وغير مُدرك لما هو مقبل عليه من مصير وهلاك. إن عَمَىَ الأعين المادية لا يؤدي للهلاك. أما العَمَىَ الروحي وما يتبعه من هلاك أبدي فهو النهاية المفجعة لعناد الإنسان، وعدم قبوله لعمل نعمة الله العاملة فيه.