يسمح به الله من حروب وكوارث شرًّا موجهًا لبني البشر

  • كيف يخلق الله الشر بحسب قوله: "مُصَوِّرُ ٱلنُّورِ وَخَالِقُ ٱلظُّلْمَةِ، صَانِعُ ٱلسَّلَامِ وَخَالِقُ ٱلشَّرِّ. أَنَا ٱلرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هَذِهِ"(إِش٤٥: 7)؟ وهل يعتبر ما يسمح به الله من حروب وكوارث شرًّا موجهًا لبني البشر؟ وهل يتناقض ذلك مع قوله: "فَمَ

    حاشا لله أن يخلق الشر، لأنه قدوس، ولا يتفق الشر مع طبيعته. إن الوحي الإلهي يؤكد تلك الحقيقة قائلًا: "هَلْ أَتَزَكَّى مَعَ مَوَازِينِ الشَّرِّ وَمَعَ كِيسِ مَعَايِيرِ الْغِشِّ؟"(مي٦: 11). أما حينما يعلن الوحي: "أن الله يجلب على شعب ما شرًّا" أو "أن الله ينطق بالشر" أو "أنه يصنع بهم بلية"، أو ما يشبه تلك التعبيرات اللغوية، فهو يقصد تأديب الله لهذا الشعب حتى يدفعهم للتوبة، أو أن ذلك على سبيل عقابه لهم للقضاء على مفاسدهم التي بلغت ذروتها… فيما يلي نشرح معاني تلك النبوءة في النقاط أولًا وثانيًا وثالثًا.. ثم نفند في رابعًا عدم صحة القول بأن الله يوجه شرًّا للناس.. ثم أخيرًا نؤكد في خامسًا أنه لا تناقض في أقوال الله، لأنه لا يعمل غير ما هو حسن في كل الأحوال:

    أولًا: المقصود بكلمة الشر:

    كلمة الشر في القول الإلهي تشير للضيقات والشدائد والكوارث، التي يسمح بها الله على سبيل التأديب، والعقاب.. وفيما يلي ما يؤكد ذلك:

    • المعنى اللفظي للكلمة:

    كلمة الشر جاءت في الآية في سياق التضاد مع كلمة السلام، ومعروف أن الكلمة المضادة لكلمة السلام هي الحرب، أو الاضطراب، والخوف بسبب الشدائد والضيقات.. وبالتدقيق نجد أن سياق الحديث يشتمل أيضًا على تضاد آخر، هو قوله قبل ذلك مباشرة مصور النور وخالق الظلمة، وهكذا تظهر المعاني بوضوح باستخدام أسلوب التضاد.

    • شهادة إرميا النبي:

    جاءت كلمة الشر بنفس المعنى في نبوءة سفر إرميا بالقول: "لِأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: كَمَا جَلَبْتُ عَلَى هَذَا ٱلشَّعْبِ كُلَّ هَذَا ٱلشَّرِّ ٱلْعَظِيمِ، هَكَذَا أَجْلِبُ أَنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ ٱلْخَيْرِ ٱلَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَيْهِمْ"(إِرْمِيَا٣٢: 42). لقد صاغ إرميا النبي كلمة الشر في هذه النبوءة أيضًا بصيغة التضاد مع كلمة الخير.. وقد شرح الوحي الإلهي بالتفصيل في الإصحاح المحتوي على هذه النبوة (الثاني والثلاثون) أن المقصود بالشر هو تأديب شعب الله بالسبي على يد جيش نبوخذنصر ملك بابل.. وأن المقصود بالخير هو رجوعهم من السبي بقوة الله، وبناء المدينة مرة أخرى وإعمارها وازدهارها، وقد تحقق ذلك فعلًا عندما سبى نبوخذنصر شعب يهوذا، وقتل أيضًا الكثيرين منهم، ولكن كورش الفارسي رد سبيهم بعد سبعين سنة.

    • شهادة حبقوق النبي:

    حذر حبقوق النبي مملكة يهوذا من خطر اجتياح أمة بابل الشرسة لأرضهم، وأعلن الرب صراحة أنه يسمح بحدوث هذه الكارثة بغرض تأديبهم قائلًا: "أَلَسْتَ أَنْتَ مُنْذُ الأَزَلِ يَا رَبُّ إِلهِي قُدُّوسِي؟ لاَ نَمُوتُ. يَا رَبُّ لِلْحُكْمِ جَعَلْتَهَا، وَيَا صَخْرُ لِلتَّأْدِيبِ أَسَّسْتَهَا عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ..."(حب١: 12-13).

    • شهادة عاموس النبي:

    أما عاموس النبي فقد أعلن أن سبب ما يأتي عليهم من مصائب هو عدم استجابتهم لإنذارات الله لهم، والتي شبهها بعدم استجابة أهل المدينة لصوت البوق الذي ينذرهم بقدوم خطر قائلًا: "أَمْ يُضْرَبُ بِٱلْبُوقِ فِي مَدِينَةٍ وَٱلشَّعْبُ لَا يَرْتَعِدُ؟ هَلْ تَحْدُثُ بَلِيَّةٌ فِي مَدِينَةٍ وَٱلرَّبُّ لَمْ يَصْنَعْهَا؟"(عا٣: 6).

    فهل يرثي أحد أو يشفق على تلك المدينة المستهترة، والغافلة عن خلاصها؟!!

    • استعمال شائع بين الناس:

    لفظ الشر يستخدمه البشر بنفس المعنى للدلالة على المصائب والكوارث؛ فعند حلول مرض أو شدة بعزيز لهم، أو عند سماع أخبار غير سارة عن أحبائهم يقولون لبعضهم البعض: "بعُد الشر عليك".

    ثانيًا: المقصود بكلمة خالق الشر:

    • ليس الله هو الخالق للشر:

    كلمة خالق الشر مقصود بها أن الله هو المتسبب فيما يأتي على شعبه من تأديبات. أما عملية الخلق فهي استحداث ما لم يكن له وجود من العدم. وهنا نتساءل قائلين: هل الشعوب الشريرة، التي تسببت في الأذى لشعب الله خلقت شريرة من البدء؟ الإجابة بالطبع لا، ولكنها أصبحت شريرة بسبب مخالفتها لله كلي الصلاح (نرجو الرجوع لإجابة السؤال الخاص باستحالة خلق الله للشر).

    • إبليس هو الشرير المتأهب لإيقاع الشر بالبعيدين عن الله:

    أن من يحب الشر يكتوي به، ولذلك يحذر الكتاب المقدس من التراخي والاستجابة للشهوات؛ لأن إبليس، ومعه خواصه من قوى الشر على أهبة الاستعداد للإيذاء، والفتك بكل من يجدونه وحيدًا خاليًا من النعمة الإلهية، التي تحفظه كقول الكتاب: "اصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ"(١بط٥: 8).

    • أمينة هي جروح المحب:

    الضيقات والشدائد، التي يسمح بها الله ليست شرًّا، لأنها تصدر عن قلب محب يريد خير أولاده. أما إبليس فيريد بها لأبناء البشر هلاكًا وشرًّا، لأنه شرير، وعدو للخير لقد صدق الكتاب في قوله: "أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ، وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ"(أم٢٧: 6).

    • الله يؤدب الخاطئ لكي يُشفَى:

    يؤدب الله البشر ليخلصهم من الهلاك الأبدي بطرق كثيرة. فقد يحجب الله وجهه عن شعبه (بسبب كثرة شرورهم)؛ فحينئذ يفقدون نعمة حفظه لهم، وبالتالي تصيبهم الشدائد، والضيقات كتأديب يحثهم على التوبة كقول الله على فم إشعياء النبي: "فَالآنَ أُعَرِّفُكُمْ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَرْمِي: أَنْزِعُ سِيَاجَهُ فَيَصِيرُ لِلرَّعْيِ. أَهْدِمُ جُدْرَانَهُ فَيَصِيرُ لِلدَّوْسِ. وَأَجْعَلُهُ خَرَابًا لاَ يُقْضَبُ وَلاَ يُنْقَبُ، فَيَطْلَعُ شَوْكٌ وَحَسَكٌ. وَأُوصِي الْغَيْمَ أَنْ لاَ يُمْطِرَ عَلَيْهِ مَطَرًا». إِنَّ كَرْمَ رَبِّ الْجُنُودِ هُوَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ، وَغَرْسَ لَذَّتِهِ رِجَالُ يَهُوذَا. فَانْتَظَرَ حَقًّا فَإِذَا سَفْكُ دَمٍ، وَعَدْلاً فَإِذَا صُرَاخٌ"(إش٥:٥ - ٧).

    ثالثًا: صانع كل هذه:

    عبارة:"صانع كل هذه" تبين سلطان الله المطلق على كل ما يحدث في الكون، وتنفي المزاعم القائلة بوجود آلهة للخير وأخرى للشر. لقد اعتقد المصريون القدماء أن إله الشر "ست" هو إله العواصف والصحراء، وهو أيضًا إله الظلام والفوضى أي هو المتسبب والمتحكم فيها. وفيما يلي شرح معنى هذه العبارة:

    • هو خالق واحد له السلطان على كل الأشياء:

    كلمة "صانع" هذه مقصود بها أن الله هو الخالق كل الأشياء، والمتحكم أيضًا في كل ما يحدث في هذا الكون، وما يؤكد هذا أن الوحي الإلهي ذكر شيئان متضادان تفصل بينهما درجات متباينة. لقد ذكر الوحي أنه مصور النور(النهار) والظلمة (الليل) قبل قوله صانع السلام، وخالق الشر إن ذلك يشبه قوله: "أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبَدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ» يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"(رؤ8:1).. وذلك أيضًا كقوله: "اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ"(مت٢٤: 35).

    إن ذكر الشيء، ونقيضه في هذه الأمثلة إشارة لإجمال الأشياء وما بينها؛ أي أن الكل تحت سلطان الله، فهو خالق كل الأشياء، وهو المتحكم في كل الأمور.

    رابعًا: كل ما يأتي على الإنسان من الله لا يمكن أن يكون فيه شرًّا موجهًا نحوه:

    لقد شرح القديس يوحنا ذهبي الفم (في مدونة بعنوان

    http://erinipasy.blogspot.com.eg/2013/01/blog-post_14.html?m=1

    أن أحداث هذا الزمن من مرض…  صحة…  فقر… غنى…  رفاهية…  ضنك… أو سبي وعبودية أو حتى موت… أو… أو...) كل ذلك ليس شيئًا ضارًّا ولا نافعًا في حد ذاته: فموت الشرير المعاند ليس خطيئة، ولا شرًّا في حد ذاته، إن أتى ذلك كحكم قضائي من القاضي العادل.. والفقر ليس ضارًّا على الدوام، ودليل ذلك أنه لم يضر بالكثيرين من تلاميذ الرب الصيادين البسطاء، ولا بالآباء الرهبان والسواح، الذين عاشوا دون أن يقتنوا ذهبًا ولا فضة.. ولا أضر الفقر أيضًا بالكثيرين من الفلاسفة، والعظماء، أمثال المهاتما غاندي زعيم الهند، الذي صار عظيمًا رغم فقره.

    وفيما يلي بعض من الأمثلة التي ذكرها الكتاب المقدس، والتي تؤكد صحة ذلك:

    ١. أيوب البار وإبراهيم أب الآباء:

    إن من يتتبع مصير أيوب البار بعد ما لحق به من تجارب، وفقدان لممتلكاته، يدرك أنه لم يتأثر سلبًا بما حل به من كوارث؛ بل تنقى، وازداد تقوى، ومعرفة بضعفه.. لقد عمل ذلك كله لخيره وخلاصه. أما المال الذي يتكالب الناس على اكتنازه، ويعتبرونه نافعًا على الدوام، فقد حذرالرسول من التعلق به قائلًا: "لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ"(١تي٦: 10). ولكنه أيضًا كان سبب بركة، ونفع لإبراهيم أب الآباء، الذي قيل عنه: "لاَ تَنْسَوْا إِضَافَةَ الْغُرَبَاءِ، لأَنْ بِهَا أَضَافَ أُنَاسٌ مَلاَئِكَةً وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ" (عب١٣: 2).

    ٢. تأديب الله لبني إسرائيل:

    صار الأسر، والذل الذي حل ببني إسرائيل، الذين نسوا الرب في رفاهيتهم أعظم مؤدب لهم. لقد أتى بثماره الصالحة فيهم؛ فقدموا توبة في أرض السبي، مشتاقين لعبادة الله مترنمين لله قائلين: "كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي! لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ، إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي!"(مز١٣٧: 4 - 6).

    ٣. معاناة يوسف الصديق:

    لم يضر الذل، والظلم، والعبودية يوسف الصديق، ولم تكن الضيقة شرًّا كما خطط وقصد به إخوته؛ بل صار كل ما ذاقه من معاناة خيرًا له كقوله: "أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا"(تك٥٠: 2).

    خامسًا: الرب يصنع على الدوام ما هو حسنٌ.. ولا يصنع شيئًا غير ذلك:02

    • الله يستعمل الأشياء حسنًا:

    إن الله كفنان بارع يستخدم في فنه، وإبداعه كل الألوان بما فيها اللون الأسود (الضيقات والشدائد)، فذلك الفنان، وهو يضع اللون الأسود على لوحته، جنبًا إلى جنب مع الألوان المبهجة له قصد حسن، ومتى أتم عمله الرائع يستحسن الناظر عبقريته، هكذا كل الأحداث بين يدي الله هي طيعة لحكمته، وبراعته فتعمل حسنًا حسب مشيئته الصالحة.

    لقد أكد سليمان الحكيم هذه الحقيقة قائلًا: "صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ، وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ"(جا٣: 11).

    • تقوى الإنسان تجعل الأشياء نافعة له:

    الإنسان هو وحده القادر على ضرر نفسه بعدم خضوعه لله، وهو أيضًا القادر على نفع نفسه بقبوله مشيئة الله المقدسة من نحوه. إن الإنسان التقي لا يضره شيء على الإطلاق؛ بل كل شيء نافع وحسن له كقول الكتاب: "وَأَمَّا الْخُرَافَاتُ الدَّنِسَةُ الْعَجَائِزِيَّةُ فَارْفُضْهَا، وَرَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى. لأَنَّ الرِّيَاضَةَ الْجَسَدِيَّةَ نَافِعَةٌ لِقَلِيل، وَلكِنَّ التَّقْوَى نَافِعَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، إِذْ لَهَا مَوْعِدُ الْحَيَاةِ الْحَاضِرَةِ وَالْعَتِيدَةِ"(١تي٤: 7 - ٨).