مقدمة:
مبدأ تكافؤ الفرص مبدأ عظيم يطالب به الإنسان الحكومات والأنظمة والهيئات والمجتمعات المختلفة، وقد نشأ هذا المبدأ كمبدأ حقوقي ليعبر عن قيمة الإنسان بالمقارنة بأخيه الإنسان، الذي قد يظلمه لأنه مختلف عنه في الجنس أو اللون أو الدين، أو الإمكانيات الصحية أو الطبقة الاجتماعية أو حالته المادية أو... أو... ولكن لنضع الإجابة من خلال النقاط الآتية :

أولاً:
نشأ هذا المبدأ نتيجة للتفرقة التي دافعها الأول المحاباة لأجل منفعة أو تعصب أو هوى، وهذا الدافع بالطبع ليس له وجود لدى الله، فالله محب بطبيعته وصالح وحق، وليس ظالماً وعظيماً جداً ومنزهاً عن كل هذا، ولن يناله منفعة من محاباة أحد، وليس له هوى يقوده ليكره شيئاً، أو يشتهي شيئاً، وهذه هي شهادة الكتاب المقدس عن الله المنزه عن مثل هذا.

  • "وَالآنَ لِتَكُنْ هَيْبَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمُ احْذَرُوا وَافْعَلُوا. لأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ الرَّبِّ إِلهِنَا ظُلْمٌ وَلاَ مُحَابَاةٌ وَلاَ ارْتِشَاء" (٢ أخ١٩: ٧)
  • "لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ، الإِلهُ الْعَظِيمُ الْجَبَّارُ الْمَهِيبُ الَّذِي لاَ يَأْخُذُ بِالْوُجُوهِ وَلاَ يَقْبَلُ رَشْوَةً" (تث17:10)، والكتاب يحوي المزيد من أمثال هذه الشواهد.

ثانياً:
مبدأ تكافؤ الفرص لابد أن ينفذ بحكمة فما يحتاجه هذا غير ما يحتاجه ذاك، بل أيضاً مايسبب سعادة لشخص ما قد لا يسبب سعادة الآخر، لأن خلقة الله متباينة وكل فرد من بني البشر يختلف عن الآخر، وهذا الاختلاف يضمن التكامل في الخليقة، لذلك يهب الله كل فرد ما هو مناسب له على حدة؛ لأنه هو الحكيم العالم ما هو الملائم والنافع لكل أحد.

شواهد كتابية:

"مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ." (مز24:104).

ثالثاً:
الله عظيم في حبه فيعطي ما هو نافع فقط وليس هدف الله أن يرضى الناس عنه، ولكن هدفه خيرهم، فالله كأب لا يهمه رضا أطفاله الصغار الذين يصرون على أكل الشيكولاتة فقط، لأنه إن فعل ذلك يكون قد استجاب لحماقتهم في سبيل إرضائهم، لكنه يتصرف حسب حكمته وصلاحه، حتى إن كان ذلك لا ينال استحسانهم، فإن أصر أحد أطفاله الصغار فرضاً أن يشتري له أبوه أدوات هندسية كأخيه الطالب في كلية الهندسة بالطبع لن يشتري له أبوه ما يريد، بل يشتري ماهو نافع له وليس لأخيه ولذلك يُدعَى الله بـ "الصالح"؛ أي أنه لا يعطي إلا ماهو نافع وخيّر.

شواهد كتابية:

"كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ" (يع١: ١٧).

رابعاً:
أحياناً كثيرة يركز البشر على الأمور الجسدية من أكل وشرب وملبس ومتع حسية ورفاهية وغنى و... و... ولكن نظرة الله شمولية، فهي ليست لأمور الإنسان في حياته على الأرض فقط،  بل لحياته الأبدية، ولخلاص نفسه في السماء، وهو كطبيب حكيم قد يرى أن نوعاً من الأكل اللذيذ كالحلويات مثلاً سيضر بصحة مريضه، فلا يتردد في منعه عنه حفاظاً على حياته التي هي أسمى من أكل الحلويات... إنها شمولية معرفة الله وحبه تجاه بني البشر، لأنه هو الراعي الصالح الذي يعرف كيف يرعى رعيته.

شواهد كتابية:

 "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ" (يو١٠: ١١).

خامساً:
العدالة تغيب عن بني البشر والظلم يسود أحياناً ولكن الله يتحكم في كل الأمور لخير أولاده كقول الكتاب: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَب قصده" (رو28:8).. إن  الله من محبته وقدرته العجيبة كفنان قدير يستعمل اللونين الأسود والأبيض وباقي الألوان؛ لرسم صورة بديعة لا يمكن للإنسان العادي أن يتخيلها إلا بعد أن ينتهي من رسمها الفنان الملهم، فالله كذلك يستخدم شر الأشرار لخير أولاده كقول الكتاب أيضاً: " فَقَالَ لَهُمْ:«مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أُكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ...»" (قض١٤:١٤).

سادساً:
الله قادر أن يسند المظلومين ويعزيهم، بل يفرحهم ويعوضهم في أشياء أخرى، حتى وإن كانوا في أتون أو لهيب الشدائد، والأمثلة كثيرة في الكتاب المقدس عن تعزيات الله للمظلومين نذكر منها تعزيات الله لداود النبي ونفسيته الفرحة، حتى أنه رتل المزامير بفرح بالرغم أنه كان مطارداً من شاول الملك الذي كان يموت غيظاً وحقداً، فبينما كان شاول يطلب قتله ترنم داود قائلاً: "عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي فِي دَاخِلِي، تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي" (مز٩٤: ١٩).

سابعاً:
يطالبنا الله قاضي المسكونة الديان العادل بالانتظار والصبر حتي تتم مقاصده الصالحة والخيرة نحو خليقته... والصبر هنا لأن الله في محبته ليس قاضياً فقط، بل هو أيضاً كمثل طبيب وجراح معه مشرط لكن عظمته في أنه لا يستخدمه إلا لبتر العضو الذي تأكد من موته بالفعل، والناس تمدح ذلك الطبيب لصبره وتأنيه واستماتته في مداواة العضو المريض، أما إن تسرع لاستعماله المشرط بحجة أن المريض يعاني بعض المعاناة فحتماً سيسبب ضرراً لمريضه وحينئذ يستحق اللوم علي تسرعه، وقد تسحب منه نقابة الأطباء رخصة مزاولته للمهنة. إن الأفضل لنا جميعاً أن يتأنى الله علينا لأننا جميعنا خطاة، أما عندما يستنفذ العضو الفاسد كل فرصة للإصلاح، يأتي دور الجراحة أو بالحري دور القضاء لأن الله قاض عادل وأيضاً صالح، ولكنه لا ولن يسكت على الشر.20

شواهد كتابية:

"إِذًا لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ، حَتَّى يَأْتِيَ الرَّبُّ الَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ" (١كو٤ :٥).

ثامناً:

الموت للأشرار الذين عاشوا حسب هواهم ليس نهاية المطاف، ولا هو منفذ لُهم يهربون بواسطته من عدالة الله، بل هو انتهاء الفرصة الممنوحة لهم للنجاة من العقاب الأبدي، ومثلهم في ذلك مثل لص هارب، ولكنه قد تم القبض عليه، ووضع في قفص الإتهام، ولن يستطيع أن يفلت منه دون عقاب.

شواهد كتابية:

"قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا:«أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا»" (يو٨: ٢١).         

تاسعاً:
ما تمتع به البعض في زمان حياتهم على الأرض لا يقاس بما ينتظر الأبرار المتألمين الشاكرين من فرح ونعيم أبديين، ولن يذكر الأبرار هذه الشدائد بأسى بل بفرح، لأنها حينئذ ستكون لهم كنياشين لمجدهم ودليل على استحقاقهم، كما يَذكرُ الطالب أيام جهاده في الدراسة والمذاكرة بفخر بعد نجاحه وتفوقه.

شواهد كتابية: 

"فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابني، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ" (لو١٦ : ٢٥).

عاشراً:

ما ناله البعض من خير كثير، ليس فرصة أعظم للرفاهية والسعادة، وليس للعيش ببذخ دون غيرهم، لكنه وديعة من الله أو وزنات ليتاجروا بها لحساب الله، وسيحاسبون كيف وظّفوها لحساب الخير والحب، ولحساب من ليس لهم، ودليل ذلك أن الكتاب يحذر من خطر التنعم الزائد والإسراف على الذات، لأن ذلك سيجعل صاحبه قد استوفى خيراته على الأرض، ويحذر أيضاً من التقطير على المحيطين، لأن من يأخذ أكثر سيقدم حساباً أكثر عمَّا وهبه الله له.

شواهد كتابية:

  • "فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ، وَقَالَ لَهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِيَ" (لو13:19). 
"فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابني، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ" (لو١٦ : ٢٥).