الجزء الأول:

العقاب ضرورة لضبط العالم وسلامته:

الله القدير مسئول عن ضبط الكون ولذلك لا يترك الأشرار لشرهم، فالله هو ذو السلطان الأعلى في ممالك البشر بحسب قول الله نفسه لنبوخذ ناصر على فم دانيال النبي: "يَطْرُدُونَكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ،... حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاء" (دا ٤: ٢٥).

  • مادام الله ملك الملوك فسلطته أو سلطانه ليس سلطان عبثي؛ فالمعروف أن كل ملك له سلطان في ربوع مملكته يستخدمه للحفاظ على مملكته، من فساد وشر الأشرار سواء من داخل مملكته أو من أعدائه من خارج المملكة، فهو المسئول الأعلى عن حفظ الأمن وسن القوانين التي تضمن استمرار مملكته، وأيضاً مسئول عن معاقبة المخالفين للقوانين.. وبالإجمال يضبط مملكته كقول الكتاب: "فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ" (رو١٣: ٣).
  • إهمال أي ملك في ضبطه لمملكته ينسب له شخصياًّ... وإن كان الملك الأرضي قد أُعطي سلطان  ليستعمله لخير مملكته؛ فهو مسئول عن رعاياه... فما بالنا الله العظيم الضابط الكل ألا يستخدم سلطانه لضبط الكون وسلامته؟ إن الله هو الحافظ لخليقته من الفساد وهو الضامن لاستمرار وجودها وحياتها، وهو المدبر والراعي لها... فهل يجرؤ أحد أن ينكر على الله ملك الملوك ورب الأرباب سلطانه كمسئول عن خلقته ويقول له لا تعاقب أو تزيل الشرمن مملكتك؟! وهل سلطان الله في يده سلطان عبثي؟!!
  • لقد كان داود الملك يفتخر بأن همه الشاغل كل صباح هو إبادة الشر من مملكته بحسب قوله في المزمور: "بَاكِرًا أُبِيدُ جَمِيعَ أَشْرَارِ الأَرْضِ، لأَقْطَعَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّبِّ كُلَّ فَاعِلِي الإِثْمِ" (مز ١٠١: 8).

الجزء الثاني:

هل ينصح الله البشر ثم يتركهم ليفعلوا ما يشاءون؟

  • الهدف من إبادة الأشرار من أي مملكة هو الصلاح والخير، لأن الأشرار قد انقطع خيرهم ولا نفع منهم؛ بل يضرون الناس وإن تركوا سيزداد الشرر والضرر، وهل يوجد ملك حكيم يغامر بترك الشر يفسد مملكته بدعوى الرحمة والشفقة؟! فالملك الحكيم أولى مهامه أن يشتت الأشرار من مملكته كقول سليمان الحكيم: "اَلْمَلِكُ الْحَكِيمُ يُشَتِّتُ الأَشْرَارَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمِ النَّوْرَجَ" (أم ٢٠: ٢٦).
  • الله هو ملك الملوك الحكيم، لكنه يتأنى وهو ينتقي بدقه الشر فقط ليبيده ويزيله من مملكته.
  • بعض الملوك قد يتأنى فينذر أولاً قبل أن يعقاب الأشرار لكن الكثير منهم لا يعرفون التأني؛ بل سليمان الحكيم يحذر عموماً من غضب الملك؛ لأن العاقبة هي موت لمن يُغضب الملك قائلاً: "غَضَبُ الْمَلِكِ رُسُلُ الْمَوْتِ، وَالإِنْسَانُ الْحَكِيمُ يَسْتَعْطِفُهُ" (أم١٦: 14).
  • أما الله فهو كجراح حكيم يستأصل فقط العضو الذي ثبت فساده وعدم نفعه... هو طويل الأناة يحذر وينذر الأشرار بطرق كثيرة عسى أن يتوبوا ويكفوا عن شرهم، لكنه لا يترك ولا يهمل بل يتدخل في الوقت المناسب ليحمي المخلصين من شر الأشرار كقول الكتاب: "لأَنَّهُ لا تَسْتَقِرُّ عَصَا الأَشْرَارِ عَلَى نَصِيب الصِّدِّيقِينَ، لِكَيْلاَ يَمُدَّ الصِّدِّيقُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى الإِثْمِ" (مز ١٢٥: ٣).

الجزء الثالث:

عقاب الله للأشرار لا يتعارض مع شفقته:

  • رحمة الله وشفقته تتجلى في طول أناته وكثرة إنذراته وهذا واضح في أسفار العهد القديم، فمثلاً نجد أن الله حذر الأشرار في أيام نوح البار أكثر من مائة عام، هي فترة بناء نوح للفلك.
  • شفقة الله تتجلى في أنه يتأنى في العقاب من أجل القلة القليلة من الناس، فعلى سبيل المثال كان الله  مستعداً أن يتأنى ويؤخر عقابه لدائرة مدن سدوم وعمورة المتسعة، إن وجد خمسين أو أربعين أو ثلاثين باراً فقط، وعندما عاقب هذه البلاد أرسل ملاكين لينقذ لوط وأسرته، وقد أكد الرب ذلك بقوله: "قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ" (مت١٢: ٢٠).
  • شفقة الله تتجلى في قبوله الأشرار إذا تابوا؛ فمثلاً أهل نينوى قبلهم الله ولم يحرق المدينة عندما صاموا هم وملكهم من الكبير إلى الصغير، وعندما استاء يونان النبي من قبول الله لتوبتهم وبّخه الله قائلاً: "أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟" (يونان٤: ١١).
  • من مظاهر شفقة الله أنه يعطي فرصة لبدايات جديدة؛ فعندما قتل قايين هابيل أخاه وضل نسل قايين وامتلأوا شراً؛ بارك الله في شيث وفي نسله وتعهدهم، ثم بارك الله في نوح ونسله أيضاً وتعهدهم، وبعدها بارك الله في إنسان تقي إسمه أبرام وأفرزه من وسط الأشرار ودخل معه ومع نسله في عهد، وعندما ضل أولاد إبراهيم ورفضهم الله أعطى لبعض الأتقياء منهم من صيادي السمك البسطاء رسالة وكرازة ليبدأ بهم عهداً جديداً... وهكذا وراء كل فساد للإنسان كانت هناك رحمة أخرى ورأفة جديدة كقول الكتاب: "أَنْتَ تَقُومُ وَتَرْحَمُ صِهْيَوْنَ، لأَنَّهُ وَقْتُ الرَّأْفَةِ، لأَنَّهُ جَاءَ الْمِيعَادُ" (مز١٠٢: 13).
  • شفقة الله تجلت بعدم مسرته بالعقاب الذي ينزل بالشعوب الشريرة والملوك الأشرار وقد عبر الله عن عدم مسرته بأمره للأنبياء برفع مرثاة، أي يتنبأ النبي بشعر حزين يعبر فيه عن مدى حزن الله لما سيصيب هؤلاء الأشرار، وهذا ماحدث أيضاً لأورشليم العاصية التي بكى عليها الرب يسوع وهو يتنبأ بما سيصيبها نتيجة لعصيانها قائلاً: "وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا  قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ" (لو19: 41، 42).
  • لا تعارض في صفات الله مع بعضها البعض:

أخيراً نود أن نؤكد أن الله متكامل في صفاته فلا تعارض بين شفقة الله ومعقابة الله للأشرار 23وللتقريب للذهن... نضرب مثلًا بالطبيب الجراح الذي يعمل لفائدة مريضه؛ فيضطر آسفاً بعد محاولات علاجية مستميتة لبتر قدم قد دب فيها الفساد والموت بسبب الغرغرينا وبالطبع لا يكون هذا الطبيب في حالة رضى وسرور وهو يبتر هذه القدم، لكنها الضرورة الحتمية لإنقاذ المريض من الموت، وبالطبع يشكره المريض لإنقاذه لحياته ولا أحد يجروء أن يلومه على ذلك، فهو طبيب نبيه صالح... وهكذا بالنسبة لله الصالح الرحوم، يجب على كل عاقل أن يمجده على كل أحكام صلاحه، فهو لا يشاء موت الخاطئ حسب قوله: "لأَنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَارْجِعُوا وَاحْيَوْا" (حز ١٨:  ٣٢).