الله قاضٍ عادل وقدوس ولا يطيق الشر، وهل من المنطقي أن ينكر عاقل حق قاضٍ عادل في إصدار أحكامٍ قضائية على الأشرار؟! فكم بالأولى من يتجرأ وينكر على الله ملك الكون العظيم حقه في مباشرة سلطاته القضائية!. دعونا نتأمل معاً في السطور التالية حكمة الله من وراء هذه الأحكام.

أولًا:
أحكام الإفناء أو القتل (التحريم) لأمة ما بكاملها أو شعب ما أو بلد ما في العهد القديم هي أحكام قضائية، تصدر بأمر إلهي واضح محدد التفاصيل وليست تصريحاً من الله لشعبه بقتل الشعوب الأخرى، ويمكننا من خلال دراسة العهد القديم أن نتعرف على أنواع مختلفة من هذه الأحكام القضائية، نذكر منها على سبيل المثال:

  • أمر الرب بتحريم كل سكان أريحا، كما في (يش ٦: ١٧).
  • الأمر الصادر من الله بالانتقام من النساء المديانيات بقتلهم هم وأولادهم الذكور المولدين منهم؛ لأنهم أغووا رجال بني إسرائيل على السقوط معهم في خطية الزنا، مع استثناء الإناث اللواتي لم يعرفن رجالاً فقد صدر الأمر باستبقائهن أحياء (عدد ٣١ : ١٥ -١٨).
  • لم يأمر الله شعبه بتحريم الشعوب البعيدون عنهم مكانياً؛ بل أن يستدعوهم أولاً للصلح؛ فإذا رفضوا يحاربونهم ويقتلون فقط رجال الحرب منهم، أما النساء والأطفال فيستبقونهم أحياء، كما في (تث ٢٠: ١٣-١٥).
  • أمر الرب شعبه بالمرور فقط في أرض سعير قائلاً لهم: "لاَ تَهْجِمُوا عَلَيْهِمْ، لأَنِّي لاَ أُعْطِيكُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَلاَ وَطْأَةَ قَدَمٍ، لأَنِّي لِعِيسُو قَدْ أَعْطَيْتُ جَبَلَ سِعِيرَ مِيرَاثًا. طَعَامًا تَشْتَرُونَ مِنْهُمْ بِالْفِضَّةِ لِتَأْكُلُوا، وَمَاءً أَيْضًا تَبْتَاعُونَ مِنْهُمْ بِالْفِضَّةِ لِتَشْرَبُوا" (تث ٢: 5- 6 ).

ثانياً:

ملابسات وأسباب هذه الأحكام:

  • أصدر الله حكمه بقتل أو تحريم كل سكان كنعان لكثرة شرّهم وبعد طول أناته عليهم لمدد زمنية طويلة، فاستحقوا أن يحكم الله عليهم بلا رحمة كقول الكتاب: "لأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً، وَالرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْحُكْمِ" (يع ٢: ١٣)... لقد مارسوا الشر والفجور بكثرة حتى أنهم  تعودوا على القساوة؛ فقدموا أطفالهم كذبائح بشرية لآلهتهم الوثنية وعبّروا أولادهم في النار إرضاءً للآلهة الوثنية، ومارسوا خطايا الشذوذ الجنسي ومضاجعة الحيوانات.
  • كانت أحكام الله بالإفناء رمز للدينونة الإلهية الصادرة من الله على جميع أشرار الأرض في اليوم الأخير؛ فصاروا عبرة للفجار بحسب قول الكتاب: "كَمَا أَنَّ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَالْمُدُنَ الَّتِي حَوْلَهُمَا، إِذْ زَنَتْ عَلَى طَرِيق مِثْلِهِمَا، وَمَضَتْ وَرَاءَ جَسَدٍ آخَرَ، جُعِلَتْ عِبْرَةً مُكَابِدَةً عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ" (يه7)، وهذه الأحكام أيضاً مقدمة للدينونة الكبرى التي تنتظر أشرار العالم في آخر الأيام.

ثالثاً:

طريقة الحكم وأسلوبه لها معنى عند الله:

لم تكن الأحكام الإلهية بالفناء على شعب ما يقوم بتنفيذها بني إسرائيل فقط بل بحسب حكمته استخدم الله أساليب متنوعة نذكر منها: الطوفان أيام نوح وذلك ليصور للبشرية الهلاك الشامل الذي سيأتي على الأشرار، والحرق مع سدوم وعمورة ليصور للبشرية الهلاك بالنار الأبدية الذي ينتظر الأشرار آخر الأيام، وأيضاً هلاك سكان كنعان بيد شعب بني إسرائيل؛ ليشهدوا بأنفسهم عاقبة الأشرار الذين يتعدون على وصايا الله، فيتعظون ويخافون من نفس المصير إذا عصوا الله، وفعلاً تم فيهم هذا الحكم بعينه فيما بعد على يد مملكة آشور وبابل فيما بعد.

رابعاً:

الله له السلطان على ممالك الأرض لأنه ملك الكون العظيم. كما أن الله يتعامل مع كل نفس هو أيضاً يتعامل مع البلاد والممالك والإمبراطوريات كوحدة واحدة وذلك للأسباب التالية:

  • سكوت الله على هذه الممالك فترات طويلة بمثابة تصريح بانتشار الشر في كامل المملكة، وعثرة للأتقياء في هذه المملكة، وأيضاً قد تنتشر عدوى الشر لممالك أخرى مجاورة.
  • تظهر قدرة الله وسلطانه عندما يتعامل مع الممالك أكثر منها عندما يتعامل مع الأفراد، وإن لم يتعامل الله مع الممالك ذات القدرة سواء الحربية أو الاقتصادية أو الإمكانيات البشرية، قد يظن البعض ضعف سلطان الله على هذه البلاد أو الممالك، وأن انضمامهم لهذه الممالك سيجعلهم في حصانة أو مأمن من أحكام الله.
  • تطير الأخبار سريعاً وتنتشر عندما ينفذ الله أحكامه على الممالك أكثر منها على الأفراد؛ فتعم المخافة والرهبة من اسم الله العظيم، وذلك كما حدث عندما شق الرب البحر الأحمر فعبر شعبه على اليابسة بينما غرق فرعون وجنوده فيه.
  • كان لهذه الممالك اعتقاداً في قدرة آلهتهم الوثنية؛ ولذلك صارت غلبة الله على هذه الممالك خصوصاً الممالك الكبيرة دليلاً على عدم نفع هذه الأوثان، وكذب اعتقاد هذه الشعوب فيها، وإعلان أيضاً لعظمة إلهنا رب السماء والأرض والخليقة وما فيها.

خامساً:

بالنسبة لموت الأطفال أو النساء أو الشيوخ

  • إن حكم الموت على البشر هو حكم غير محدد بسن معينة ولا على فئة معينة من البشر؛ بل الجميع معرّضون للموت في أية لحظة من حياتهم سواء سيدات، رجال، أطفال، شيوخ، وذلك بحسب قول الكتاب: "لأن الإنسان أيضاً لا يعرف وقته. كالأسماك التي تؤخذ بشبكة مهلكة، وكالعصافير التي تؤخذ بالشرك، كذلك تقتنص بنو البشر في وقت شر، إذ يقع عليهم بغتة" (جا 9: 12). وأيضاً الطريقة التي يسمح الله أن يموت بها كل إنسان غير محددة، فقد ينتهي عمر الإنسان بسبب المرض أو الغرق أو الحريق أو بسبب طعنة سيف أو طلقة بندقية أو... أو... ولا يعني هذا شيئاً بالنسبة لرضى الله عن ذلك الإنسان أو عدمه، ولكن ذلك يشير إلى:
  • ضعف البشر عموماً.
  • بشاعة الخطية التي جلبت على الإنسان هذا الموت البشع، ولهذا بكى الرب على حال البشر عند موت لعازر رغم أنه كان سيقيمه بعد دقائق من بكائه على قبره.
  • انتهاء عمر الإنسان في أية لحظة وزوال العالم الحاضر.
  • أخيراً نود أن نؤكد أنه لا حق للإنسان في الاعتراض على طريقة أو أسلوب الموت لأننا أخطأنا وجلبنا على أنفسنا حكم الموت فهل للمخطئ أن يختار أسلوب معاقبته على خطئه، ولايمكننا أيضاً أن نلوم الله الخالق الحكيم على خلقته للإنسان بهذه الطبيعة الضعيفة المعرّضة للموت بطرق كثيرة، ومن منا يعترض على شركة صناعة السيارات لأن سيارته اصطدمت بسيارة أخرى، فتهشمت سيارته وتدمرت وعموماً من يعطي له حق الأخذ أيضاً كقول أيوب الصديق: "عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا" (أي ١: ٢١).
  • أحكام الله بالموت على الإنسان تخص هذه الحياة الأرضية فقط، وهي لا تقارن بالأبدية مهما كانت صعبة، لأن الأبدية لانهائية فقد تنتهي حياة قديس بموت رديء كإشعياء النبي، الذي نشره اليهود بمنشار،أو بطرس الرسول الذي صلب منكس الرأس، أو كثير من القديسين الذين قد تم إلقاؤهم للسباع وهذا ليس معناه عدم رضى الله عليهم.
  • طريقة أو أسلوب موت البشر لن يؤثر في مصيرهم الأبدي؛ بل أحياناً يكون سبباً في حياة أبدية سعيدة لا نهاية لها وغير مقارنة بالآلام الزمنية الوقتية (كما في حالة موت الشهداء). وقد أكّد الرب يسوع هذا المبدأ عندما قال لتلاميذه: "وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هذَا خَافُوا" (لو١٢: ٤-٥). والرب نفسه حمل عنا عقوبة هذا الموت الرديء بموته على صليب العار متألماً عنا.
  • موت الأطفال والنساء والخراب الشامل الذي يسمح به الله في الكوارث الطبيعية الكثيرة والتي تحدث بين الحين والآخر يهيء البشر لفكرة زوال العالم بكامله، وفي أي وقت دون سابق إنذار وهي أيضاً صورة مصغرة ليوم الدينونة.

سادساً:

سماح الله للبشر بالموت الرديء:

الخوف من الكوارث أوالحروب أو... أو... أحياناً يكون سبباً في الاتضاع

وطرد الاستهتار من القلب، وبالتالي سبباً لخلاص البعض، وهذا ما أعلنه الوحي الإلهي قائلاً: "وَخَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ، مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ، مُبْغِضِينَ حَتَّى الثَّوْبَ الْمُدَنَّسَ مِنَ الْجَسَدِ" ( يه٢٣). وهذا أيضاً ما أكّده الرب عندما أخبروه بحادث قتل هيرودس للجليلين فقال لهم: " كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ" (لو ١٣: ٥) ومن المؤكد والثابت أن أخبار الحروب المدمّرة والكوارث العالمية تحدث خوفاً، بل أحياناً هلع في نفوس الكثيرين ولذلك ينبئنا سفر الرؤيا بالكثير من الضربات الموجعة التي ستصيب الكون آخر الأيام.

سابعاً:

أظهرت هذه الأحكام العادلة الصورة المتكاملة لصفات الله.
إن أنصاف الحقائق قد تكون أحياناً كثيرة نوعاً من الكذب، أو الزيف لذلك فمن يتمسك بحنان الله ورأفته على البشر، ويتناسى أو ينكر حزم الله مع الشر يتصور صورة خاطئة عنه فالله متكامل في صفاته، ولابد لنا أن نرى لطف الله وحنانه على التائبين بجانب صرامته على الأشرار ونضع صورة الله المحب غافر الخطايا بجانب الله الديان وهكذا... وقد شهد بذلك معلمنا بولس الرسول قائلاً: "فَهُوَذَا لُطْفُ اللهِ وَصَرَامَتُهُ: أَمَّا الصَّرَامَةُ فَعَلَى الَّذِينَ سَقَطُوا، وَأَمَّا اللُّطْفُ فَلَكَ، إِنْ ثَبَتَّ فِي اللُّطْفِ، وَإِلاَّ فَأَنْتَ أَيْضًا سَتُقْطَعُ" (رو١١: ٢٢). فإذاً من يعترض على صورة الله القاضي والديان العادل، لا يريد أن يقبل الله الكامل العادل والحق بل يريد إلهاً آخر حسب خياله.