الله غير مجرَّبٍ بالشرور ولا يجرب أحد كقول الكتاب: "لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا" (يع ١: ١٣). ولكن كيف يتفق ذلك مع آيات أخرى تذكر أن الله قسّى قلب فرعون أو... أو...؟

يمكننا أن نقسم الإجابة لما يلى:

أولا:

طبيعة الله تتعارض مع هذه الأساليب الملتوية

  • الله  صادقُ ومن الاستحالة أن يُأخذ عليه زلة كقول الكتاب: "فَمَاذَا إِنْ كَانَ قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ؟ أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ يُبْطِلُ أَمَانَةَ اللهِ؟ حَاشَا! بَلْ لِيَكُنِ اللهُ صَادِقًاً وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبًا. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:"لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي كَلاَمِكَ، وَتَغْلِبَ مَتَى حُوكِمْتَ" (رو ٣ : ٣-٤).
  • أن أساس أي اتهام لمتهم هو الدافع لجريمته لذلك عندما يغوي أو يحرض البشر بعضهم بعضاً على الشر فهناك دافع في قلوبهم؛ فقد يغوي إنسانٌ إنساناً آخر انتقاماً منه أو لفائدة ستعم عليه أو ليحقق شراً كامناً في نفسه وهكذا... لكن  حاشا لله أن يكون له دافع أو هوى يحرّكه ليحرض أحد على الشر وهو الذي شهد عن نفسه قائلاً: "لأَنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَارْجِعُوا وَاحْيَوْا" (حز١٨: ٣٢).
  • الله لا يخشى لائماً ولا يخشى رد فعل أحد لأنه له السلطان المطلق، ولا يقدم حساباً لأحد، فلماذا يستتر إذاً ويغوي أو يحرض على الشر؟! فحاشا لله القدير من هذه الصغائر التي قد يفعلها بني البشر؛ لأنهم يخشون أن يفعلوا الفعل علانية فيستخدمون هذه الأساليب الملتوية.
  • طبيعة أي كائن تتحكم فيه، فمثلاً يجهل طفلك ذو الخمس سنوات طرق الكذب والمكر (اللف والدوران في الحديث)، وبمجرد أن تتحدث إليه يظهر ما في قلبه بسهولة ولا ينتقي ما يقوله لك. بل أحياناً نجد إنساناً يطلب منه رفاقه أن يكذب أو أن يفعل شراً ما، فيقول لا أقدر(مع أن حنجرته ولسانه قادران على التفوه بأي كلمة يريدها) لأنه لم يتعود الكذب أي أنه لم يتعود عليه، وحينما نقول عن الله أنه لم يعرف شراً أي لم يمارسه أبداً ولا خبرة له به، وهذا ينطبق على الله وحده، ولذلك قيل عن أقنوم الابن الذي هو كلمة الله وحكمته: "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ" (١بط٢: ٢٢)، وأيضاً: "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢كو٥: ٢١). وبالطبع طبيعة الآب والابن والروح القدس طبيعة واحدة.

ثانياً: 

الإنسان وحده المسئول عن مصيره الأبدي 

  "لا يقدر أحد أن يؤذيك إن لم تؤذِ أنت نفسك" هذه العبارة مقولة حقة ذكرها القديس يوحنا ذهبي الفم وهي تتفق مع قول الكتاب المقدس القائل: "وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ" (يع ١: ١٤)... إذاً شهوة قلب الإنسان هي السبب لغوايته وضلاله، والله يعطي الإنسان حسب قلبه أي بحسب ما يشتهيه كقول داود النبي: "لِيُعْطِكَ حَسَبَ قَلْبِكَ، وَيُتَمِّمْ كُلَّ رَأْيِكَ" (مز٢٠: ٤)... وهذا أيضاً ما قيل عن يهوذا الإسخريوطي: "وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ، فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ" (مز١٠٩: ١٧-١٨). إذاً الشر مسئولية شخصية.

ولكن ماذا يقصد الوحي بكلمة أن الله قسّى أو أن الله أغوى أو الله أرسل لهم عمل الضلال أو حتى أسلمهم الله لذهن مرفوض؟

يمكننا أن نوضح قصد الوحي من خلال النقاط الآتية:

  • لا يجتمع في القلب الشر مع الخير، فإما أن يكون القلب شريراً فيحيا الإنسان لحساب الشر أو يكون القلب محباً لله، فيحيا الإنسان في طريق الخير وحتى إن سقط في زلة ففي هذه الحالة ستقيمه النعمة الساكنة فيه سريعاً، ومثال ذلك ما تعلّمه لنا الطبيعة أن النور لا يجتمع مع الظلمة، ولا البرد مع الحرارة، ولا تجتمع الحكمة مع الحماقة، وحتى إن كانت هناك ظلمة سيبددها النور متى وجد وإن وجدت الحرارة ستبدد البرودة وهكذا.... ولذلك قال الرب: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ" (مت١٢: ٣٠).
  • أن الله هو الخير والصلاح والنور، ولذلك إن رفض الإنسان بإرادته وبكل قلبه نعمة الله ودعوته له بالصلاح، يكون في هذه الحالة قد قسى قلبه ورفض وجود الله في حياته، هنا تفارقه نعمة الله ويدركه الظلام والقساوة والغواية أكثر فأكثر، كما تدب البرودة في الماء الساخن عندما تُبعد الماء عن مصدر الحرارة وتعزله في الثلاجة، أو كما يعم الظلام حينما تحمل المصباح بعيداً عن الحجرة فيمكنك أن تقول في هذه الحالة أنا أظلمت (ظلّمت) الحجرة وهذا ما قصده الكتاب بقوله أن الله هو الذي يقسّي والذي يغوي وهو الذي يضل؛ بمعنى أن الله قد ترك ذلك الإنسان لشره بناءً على رغبته وإصراره. ولذلك يحذر داود النبي من هذه الحالة الصعبة قائلاً: "فَالآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ، وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الابْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيل يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ" (مز٢: ١٠-12).
  • ترك الله الأشرار من مجال ودائرة رعايته ونعمته شيء خطير جداً، وهذا وحده سبب كافٍ للقساوة والغواية والضلال، وهذا ما أراد أن يبين الوحي الإلهي خطورته بهذه التعبيرات
  • الله يحجز ويمسك عنا العدو الشرير الذي هو متأهب تماماّ لإفساد الإنسان وتدميره بالشر، وهذا ما سيحدث آخر الأيام عندما يُحل الشيطان من سجنه، أي يتركه الله ليُضل الناس لأن في تلك الأيام سيرفض الناس الحق لحبهم في الشر، وهذا هو معنى عبارة أن الله سيرسل لهم عمل الضلال بحسب قول الكتاب: "لأَنَّ سِرَّ الإِثْمِ الآنَ يَعْمَلُ فَقَطْ، إِلَى أَنْ يُرْفَعَ مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي يَحْجِزُ الآنَ، وَحِينَئِذٍ سَيُسْتَعْلَنُ الأَثِيمُ، الَّذِي الرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ. الَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ الشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ، وَبِكُلِّ خَدِيعَةِ الإِثْمِ، فِي الْهَالِكِينَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ الْحَقِّ حَتَّى يَخْلُصُوا. وَلأَجْلِ هذَا سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ اللهُ عَمَلَ الضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا الْكَذِبَ" (٢تس٢: ٧-١١).

مثال

لقد أعطانا الكتاب المقدس مثالاً لذلك على فم يوثام ابن جدعون الذي لما رأى اتفاق أبيمالك الشرير مع أهل شكيم وقتله لإخوته أنبأهم بما سينالونه على يد هذا الشرير، وما سيناله أبيمالك على يدهم بمثل قال لهم فيه كيف أن الأشجار أرادت أن تملّك إحداها عليهم فلما رفضت الزيتونة ورفضت التينة، ورفضت الكرمة ذهبت الأشجار للعوسج الذي هو نبات شوكي ففرح العوسج لكن يوثام حذرهم وأنبأهم بخطئهم قائلاً: "فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِالْحَقِّ وَالصِّحَّةِ مَعَ يَرُبَّعْلَ وَمَعَ بَيْتِهِ فِي هذَا الْيَوْمِ، فَافْرَحُوا أَنْتُمْ بِأَبِيمَالِكَ، وَلِيَفْرَحْ هُوَ أَيْضًا بِكُمْ. وَإِلأَّ فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَبِيمَالِكَ وَتَأْكُلَ أَهْلَ شَكِيمَ وَسُكَّانَ الْقَلْعَةِ، وَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَهْلِ شَكِيمَ وَمِنْ سُكَّانِ الْقَلْعَةِ وَتَأْكُلَ أَبِيمَالِك" (قض٩: ١٩– ٢٠)... وبالفعل انقلب هذا الشرير على أهل شكيم وأهلكهم ثم أخيراً تمكنت امرأة من قتله. وهذا ما سيحدث لكل من يرفض محبة الحق فيأتيه عدو الخير ويهلكه بشره وضلاله.

  • الله ذو السلطان الأعظم والأوحد حتى على الأشرار بما فيهم الشيطان، ولكي ينفي الوحي الإلهي اعتقاد الناس في إلهين: إله للخير وآخر للشر، ويؤكد السلطان الأوحد لله الضابط كل الأشياء؛ نسب الكتاب المقدس هذه الأفعال لله لأنها بسماح منه كنتيجة لرغبة الأشرار وإرادتهم، ولكن الله بحكمة عالية سيحوّلها للخير، وهذا ما أكّده أيوب البار بقوله لزوجته: "تَتَكَلَّمِينَ كَلاَمًا كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ! أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟. فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ" (أي10:2).  وهو ما أكّده الكتاب أيضاً على فم عاموس النبي قائلاً: "أَمْ يُضْرَبُ بِالْبُوقِ فِي مَدِينَةٍ وَالشَّعْبُ لاَ يَرْتَعِدُ؟ هَلْ تَحْدُثُ بَلِيَّةٌ فِي مَدِينَةٍ وَالرَّبُّ لَمْ يَصْنَعْهَا؟" (عا6:3)... فعلى هذا المثال قيلت هذه التعبيرات لتأكيد سلطان الله الأوحد.
  • يسمح الله بضلال الأشرار بحسب شهوة قلوبهم مع أنه لا يريد شيئاً غير خير الجميع، ولا يريد ضلال أحد، ولا يُقهر أحداً لكي يمتنع عن صنع الشر، ولا يُجبر أحداً أيضاً على صنع الخير لكنه ترك البشر لحريتهم ليصنعوا ما يشاؤون، فقد تكون تلك هي الفرصة الأخيرة لهم للتوبة، فكم من الناس بعدما تركهم الله لشرهم ولإبليس الذي أذلهم صرخوا لله والرب خلصهم.

 

مثال

  • الابن الضال الذي رجع لأبيه بعدما ذاق آلام ومرارة الشر؛ فرجع مخبراً عن شر وهوان وذل الخطية له مردداً وقائلاً: "... كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا" (لو17:15).
  • كتب معلمنا بولس الرسول بشأن خاطئ في مدينة كورنثوس يأمر بحرمه؛ واصفاً ذلك الحرم بأنه تسليم هذا الخاطئ للشيطان وبالطبع لم يتقابل معلمنا بولس الرسول مع الشيطان ليسلم ليده ذلك الخاطئ، ولكنه قصد أن قطعه أو حرمانه من شركة الكنيسة هو حرمانه من النعمة التي رفضها بإصراره على الخطية مع امرأة أبيه، وبالتالي تلقفه الشيطان ليذله وبالفعل قد عانى هذا الخاطئ من نتائج حرمانه من النعمة، واستلمه عدو الخير فأذله حتى تاب ورجع، ويخبرنا الكتاب عن توبة ذلك الخاطئ وقبوله مرة أخرى في شركة الكنيسة... وهذا هو نص حرمان معلّمنا بولس الرسول له من شركة الكنيسة أو تسليم ذلك الخاطئ للشيطان: "بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِذْ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ مَعَ قُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ، أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ" (1كو4:5).

أخيراً:

إن أمثال هذه العبارات تعبر عن تعليم مهم جداً وهو أهمية وضرورة نعمة الله لحفظ البشر من الضلال والهلاك، فعلى الإنسان ألا يقسّي قلبه أو يستهتر لئلا تفارقه النعمة وفي الحال يباغته الشيطان، كما قيل عن شاول الملك: "وَذَهَبَ رُوحُ الرَّبِّ مِنْ عِنْدِ شَاوُلَ، وَبَغَتَهُ رُوحٌ رَدِيءٌ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ" (1صم14:١6).29