حاشا لله أن يكون له هوى، فَيحُب أحداً ويكره أحداً بحسب مزاجه أو هواه، فالله ليس له هوى أو مزاج كالبشر، بل هو يحُب الجميع ويريد خلاصهم بحسب قول الكتاب: "الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ." (١تي ٢: ٤). إن الله ليست عنده محاباة، وهو يريد قبول جميع البشر إليه كقول معلمنا بطرس الرسول: "فَفَتَحَ بُطْرُسُ فَاهُ وَقَالَ:«بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ" ( أع: ١٠: ٣٤-٣٥).

ولكن دعونا نُفَنِد عدم صحة هذا الفهم الخاطئ:

أولاً: الخلاص ليس مقصوراً فقط على فئة من الناس بل كل إنسان مدعو للخلاص:

لم يَقصرُ الله الخلاص على المختارين من الآباء مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا على نسل بني إسرائيل فقط. لقد كان اختيارهم بهدف تكوين كنيسة الله (التي تحمل للبشرية كلها دون محاباة أو تعصب نعمة وخلاص الله). وفيما يلي بعض الأدلة على ذلك:

  • لم يخلص كل شعب إسرائيل، أي المولودين بحسب الجسد من إبراهيم، ولا كل المولودين من إسحاق أو من يعقوب، ولم يحسب الله كل المولودين منهم أولاداً له كقول الكتاب: "... لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعًا أَوْلاَدٌ..." (رو٩: 6- 7). وأيضاً قول الرب يسوع: "أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ:«أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!" (يو٨: ٣٩).
  • حُسب شعب إسرائيل (كنيسة العهد القديم) كشجرة مباركة تحمل النعم والبركات ومنها أتى الرب جسدياً، لكن الأغصان غير الصالحة في هذه الشجرة (الأشرار غير المؤمنون) قُطعت، وأيضاً طَعَّم الله في هذه الشجرة التائبين المؤمنين من خارج هذه الشجرة كقوله: " فَسَتَقُولُ: «قُطِعَتِ الأَغْصَانُ لأُطَعَّمَ أَنَا!». حَسَنًا! مِنْ أَجْلِ عَدَمِ الإِيمَانِ قُطِعَتْ، وَأَنْتَ بِالإِيمَانِ ثَبَتَّ. لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ! لأَنَّهُ إِنْ كَانَ اللهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى الأَغْصَانِ الطَّبِيعِيَّةِ فَلَعَلَّهُ لاَ يُشْفِقُ عَلَيْكَ أَيْضًا" (رو١١: ١٩- ٢١). فأين إذاً المحاباة ليعقوب أو لبني إسرائيل؟!
  • لم يكن هناك أي مانع من قبول الأمم، أو الوثنيين التائبين المؤمنين بالله ضمن رعوية شعب إسرائيل، فقد صاروا ضمن رعوية إسرائيل، وهم الذين لقبهم الكتاب المقدس باللفيف أو بالدخلاء، والدارس للكتاب يعلم أن هناك مصريون خرجوا من مصر مع بني إسرائيل كقول الكتاب: " وَصَعِدَ مَعَهُمْ لَفِيفٌ كَثِيرٌ أَيْضًا مَعَ غَنَمٍ وَبَقَرٍ، مَوَاشٍ وَافِرَةٍ جِدًّا. " (خر١٢: ٣٨)، إذاً لم يكن هناك مانع من انضمام عيسو، أو نسله تحت مظلة أخيه يعقوب لينال البركات، ولكن ذلك كان مشروطاً  بإيمانه، وتوبته.

ثانيا: موضوع الحديث في الأصحاح التاسع من الرسالة إلى أهل رومية:

  • السياق العام: يتبين لنا أن معلمنا بولس الرسول أراد أن يؤكد مبدأ مهماً، وهو أن بركات الله تُعطىَ على سبيل نعمة، وليست لاستحقاق متلقيها، ودليل ذلك قوله قبل ذلك في نفس الأصحاح: "بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ". أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ، بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً. " (رو٩: ٧- ٨). وكلمة الموعد يَعني بها الرسول (الذين ولدوا بوعد من الله، بعدما استحال على ابراهيم وسارة الإنجاب لشيخوختهما، أو لعجزهما). 
  • موضوع الاختيار: يساوي الرسول بين اختيار يعقوب ليكون أباً للمسيح بالجسد، وبين اختيار إسحاق الذي من نسله أتى الرب يسوع، ودليل ذلك قوله: "وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا"، فعبارة لا فعلا خيراً، أو شراً توضح ما قبلها، أي لم يولدا بعد؛ فحينما وعد الله رفقة بهذا الوعد العظيم كما وعد أمنا سارة قبلها لم يكن أب الآباء يعقوب له أعمال صالحة يستحق من أجلها هذه النعمة.

ثالثاً: عبارة: "لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار":

  • المعنى المقصود: متفقٌ مع مضمون سياق حديث الرسول، وهو أن عطايا الله تُعطى على سبيل نعمة، لا على سبيل استحقاق، ودليل ذلك قوله بعد ذلك مباشرة: " ليس من الأعمال بل من الذي يدعو" فالسبب إذاً هو رحمة الله الذي يَعدُ الإنسان، أو يدعوه ليكون لنعمة خاصة، وليس السبب أعماله.
  • كلمة الاختيار: الله له كامل السلطان في تدبير خليقته بحسب حكمته، ومن هو الذي له الحق أن يلومه أو يناقض حكمته؟!، وإن كان مجرد اعتراض من إنسان بسيط لمخترع سيارة ذات ماركة شهيرة على أسلوب تصميمه لسيارته من المتوقع أن يلاقي استنكاراً من ذلك المخترع، والذي سيكون لسان حاله  رداً على ذلك الاعتراض هو: "هل تفهم حكمتي؟"، أو أظنه سيقول له: " لقد صنعت أنا مخترعي بهذه الطريقة فإن كان يمكنك أن تبدع مثله فصمم أنت كما يحلو لك".

رابعاً: استهتار عيسو وشره منع عنه البركات:

  • اختيار الله حسب صلاحه: ليس من المعقول أن يختار الله الأشرار، وغير التائبين ليهبهم بركاته ونعمته، وإلا يكون الله في هذه الحالة مُشَجِعاً على الشر بمكافأته للأشرار على شرهم بالبركات. إن اختيار الله هو للأفضل دائماً، وأيضاً اختياره بحسب ما يتفق مع طبيعته الخيرة، وإن كنت أنا كإنسان أختار الأفضل دائماً، فهل يفترض عاقل أن الله كلي الصلاح وكلي الحكمة يختار ما هو دون؟!. لقد ترجمت كلمة الاختيار في اللغة الإنجليزية ب (election)، أي الانتخاب، وهو ما يتفق مع مبدأ أن الله يختار الأفضل.
  • شر عيسو: كان عيسو شريراً بحسب شهادة الكتاب القائل: "لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِيًا أَوْ مُسْتَبِيحًا كَعِيسُو، الَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ." ( عب ١٢: ١٦).

خامساً: شر عيسو وعدم تأهله لنوال البركات:

يدعي البعض أن عيسو قدم توبة، ولكن الله رفضها، مستندين لقول الكتاب: "فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَيْضًا بَعْدَ ذلِكَ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ الْبَرَكَةَ رُفِضَ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَانًا، مَعَ أَنَّهُ طَلَبَهَا بِدُمُوعٍ.". بالتدقيق في هذا العدد من سفر العبرانين نلاحظ  أن هذا لم يحدث ودليلنا ما يلي:

  1. رفض عيسو من وراثة البركة لما أرادها (بحسب النص)؛ فليست توبته هي التي رُفِضت لأن كلمة رفض تأتي بعد" أراد أن يرث البركة"، وعلى ذلك فالرفض يخص البركة وليس التوبة.
  2. كلمة لم يجد مكاناً للتوبة تؤكد أنه لم يتب، فالتوبة لم يكن لها مكان في قلبه.
  3. ما طلبه عيسو بدموع هو البركة وليس التوبة بدليل ما سجله الوحي الإلهي من تفاصيل هذه الحادثة بقوله: "فَقَالَ عِيسُو لأَبِيهِ: "أَلَكَ بَرَكَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ يَا أَبِي؟ بَارِكْنِي أَنَا أَيْضًا يَا أَبِي". وَرَفَعَ عِيسُو صَوْتَهُ وَبَكَى." (تك٢٧: ٣٨). لم يسجل الوحي الإلهي مطلقاً: أنه رفع صوته وقال: "قد أخطأت " فأين هذه التوبة إذاً؟!
  4. أكد الوحي الإلهي إصرار عيسو على مخالفة الله وأبويه، وذلك بزواجه وارتباطه بالأشرار، وهذا بخلاف أخيه يعقوب كشهادة الكتاب القائل: " فَلَمَّا رَأَى عِيسُو أَنَّ إِسْحَاقَ بَارَكَ يَعْقُوبَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى فَدَّانَ أَرَامَ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مِنْ هُنَاكَ زَوْجَةً، إِذْ بَارَكَهُ وَأَوْصَاهُ قَائِلاً: «لاَ تَأْخُذْ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ كَنْعَانَ» وَأَنَّ يَعْقُوبَ سَمِعَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَذَهَبَ إِلَى فَدَّانَ أَرَامَ،. رَأَى عِيسُو أَنَّ بَنَاتِ كَنْعَانَ شِرِّيرَاتٌ فِي عَيْنَيْ إِسْحَاقَ أَبِيهِ،فَذَهَبَ عِيسُو إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَأَخَذَ مَحْلَةَ بِنْتَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أُخْتَ نَبَايُوتَ، زَوْجَةً لَهُ عَلَى نِسَائه." (تك٢٨: ٦- ٩). فأين توبته إذاً، ومتى رفضها الله.

سادساً: هل حقيقةً أن الله يحابي يعقوب؛ فيحبه أكثر من عيسو؟.

  • النص المشار إليه: "أَحْبَبْتُكُمْ، قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: بِمَ أَحْبَبْتَنَا؟ أَلَيْسَ عِيسُو أَخًا لِيَعْقُوبَ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ، وَجَعَلْتُ جِبَالَهُ خَرَابًا وَمِيرَاثَهُ لِذِئَابِ الْبَرِّيَّةِ؟ لأَنَّ أَدُومَ قَالَ: قَدْ هُدِمْنَا، فَنَعُودُ وَنَبْنِي الْخِرَبُ. هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هُمْ يَبْنُونَ وَأَنَا أَهْدِمُ. وَيَدْعُونَهُمْ تُخُومَ الشَّرِّ، وَالشَّعْبَ الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ الرَّبُّ إِلَى الأَبَدِ" (ملا١: ٢- ٤).
  • يُفهم من النص أن المقصود بيعقوب أو بعيسو ليس مجرد اسمي شخصين، ولكن الوحي قصد بذلك تسمية أمتين؛ هما أمة يعقوب (بني إسرائيل)، وأمة عيسو (آدوم).
  • حديث الله عن حُبِه ليعقوب وبُغضِهِ لعيسو كان بمناسبة اتهام بني إسرائيل لله بأنه لا يُكافئ، أو يبارك الذين يصنعون خيراً، وأنه أيضاً لايفرق بين الأشرار والأبرار، وهذا واضح بحسب قوله لهم في الأصحاح الثالث من سفر ملاخي: " قُلْتُمْ: عِبَادَةُ اللهِ بَاطِلَةٌ، وَمَا الْمَنْفَعَةُ مِنْ أَنَّنَا حَفِظْنَا شَعَائِرَهُ، وَأَنَّنَا سَلَكْنَا بِالْحُزْنِ قُدَّامَ رَبِّ الْجُنُودِ؟ وَالآنَ نَحْنُ مُطَوِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَأَيْضًا فَاعِلُو الشَّرِّ يُبْنَوْنَ. بَلْ جَرَّبُوا اللهَ وَنَجَوْا» (ملا٣: ١٤- ١٥).
  • بالتدقيق في النص نرى أن المقصود ب"أبغضت" هو عدم رضاه على آدوم وعدم مباركتهم، وليس المقصود مشاعر البغضة، والمقصود ب"أحببت" هو مباركة الله لنسل يعقوب (أمة بني إسرائيل).
  • سبب البغضة لعيسو أو عدم مباركتهم هو شرهم، وتحديهم لله، ولذلك هم يحصدون ثمار أفعالهم01
  • أحب الله بني إسرائيل بسبب تقواهم، ولكنه حذرهم في الأصحاح الثاني من سفر ملاخي بما سيأتي عليهم بسبب احتقارهم لوصية الله قائلاً: " إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَجْعَلُونَ فِي الْقَلْبِ لِتُعْطُوا مَجْدًا لاسْمِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. فَإِنِّي أُرْسِلُ عَلَيْكُمُ اللَّعْنَ، وَأَلْعَنُ بَرَكَاتِكُمْ،بَلْ قَدْ لَعَنْتُهَا، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ جَاعِلِينَ فِي الْقَلْبِ."(ملا٢: ٢).

أخيراً: لا يسعنا غير أن نعطي الله المُحب، والعادل مجداً لعظمته؛ فهو لا يُحابي أحد، ولن يحابي أحد بحسب إيماننا بصدق الكتاب القائل: " وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ،" (١بط١: ١٧).