إجابة الجزء الأول: الفرق بين خطيئة بطرس الرسول وخطيئة يهوذا الإسخريوطي:

إن ظن البعض بالتشابه بين خطيئة معلمنا بطرس الرسول، وخطيئة يهوذا الإسخريوطي يخالف الحقيقة، ذلك لأن أفعال الإنسان يجب ألا تقاس بظواهرها كما علمنا الرب بقوله: "لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً». (يو٧: ٢٤). ولهذا علينا أن نغوص في تحليل أقوال، وتصرفات كل منهما بعمق. إن الدراسة المتأنية للبشائر الأربع تظهر بوضوح فرقاً شاسعاً بين خطأ الاثنين. وفي النقاط التالية نعرض بعض هذه الاختلافات:

أولاً: الاهتمامات القلبية للإنسان تحدد مصيره:

  • كنز الإنسان قلبه: القلب كنز يدخر فيه الإنسان ما يحبه، وما يهتم به كثيراً، أو ما يشغل باله. وما يحبه الإنسان ويحتفظ به في قلبه له قيمة عظمى عنده (سواء كان خيراً أم شراً). ولهذا سمى ربنا يسوع المسيح القلب بالكنز قائلاً:"اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ." (لو٦: ٤٥). إن قول الرب: "كنزه" يعبر عن المعنى السابق، وهو أغلى شيء عند الإنسان، وبالطبع هذا يَشغل الإنسان ويأخذ منه كل إهتمام، ويلهيه عن باقي أموره، ومن السهل عليه أن يضحي بأي شيء لأجله.
  • القلب هو مركز ومصدر الفضائل، أو الرذائل: أكد الرب أن الشرور تنبع من القلب قائلاً: " لأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ" (مت ١٥: ١٩)، ولذلك علمنا الوحي الإلهي أهمية حفظ الإنسان لنقاوة قلبه قائلاً: "فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ" (أم٤: ٢٣). يعتمد خلاص الإنسان على اهتماماته القلبية، فإن كانت تتجه نحو الله يفوز بخلاص نفسه، أما إن كانت تتجه نحو الجسد، والمادة فلن يخلص.

ثانياً: اهتمامات وأولويات كل من قلب بطرس الرسول، وقلب يهوذا:

  • بطرس الرسول:

اتجه بطرس الرسول بقلبه للرب، وما يلي يؤكد ذلك:

  • شهادة الرب له: لقد أحب بطرس الرب من قلبه بصدق، واشتاق لمعرفته، فأعلن له الآب عن ألوهية ابنه (الرب يسوع). لقد مدحه الرب يسوع لاشتياقات قلبه الصادقة نحوه، وشهد له قائلاً: "فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت١٦: ١٧).
  • مشاعره الصادقة نحو الرب: أحب بطرس الرب بشدة، وعندما أعلن الرب لتلاميذه عن آلامه وصلبه انتهره بطرس بحماس قائلاً: "... «حَاشَاكَ يَارَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!" (مت١٦: ٢٢). ولما وبخه الرب على قوله، لم يوبخه لأنه غير صادق، بل، لأنه لا يهتم بما لله (مشيئة الله) قائلاً له: " فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ:«اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ". (مت١٦: ٢٣).
  • تَعَلُقه وإتكاله التام على الرب: أكد الرب للجموع ضرورة أكل جسده، وشرب دمه الأقدسين، ولكن الكثيرين تركوه، ولم يعودوا يتبعوه. عندئذ التفت الرب إلى الإثنى عشر تلميذاً متسائلاً إن كانوا يريدون أن يمضوا هم أيضاً، ولكن القديس بطرس استنكر ذلك بشدة مؤكداً حبه له، واشتياقه لتبعيته قائلاً: "فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ:«يَارَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ،" (يو٦: ٦٨).
  • تبعيته للرب في آلامه: كان معلمنا القديس بطرس يشاء أن يتبع الرب إلى الصليب، وبالفعل ذهب وراءه إلى دار رئيس الكهنة، وهذا بعكس الكثيرين من التلاميذ الذين تفرقوا عنه.
  • تأثره بنظرة الرب إليه: بعد إنكاره للرب استجاب في الحال لنظرة واحدة من الرب له، بحسب قول الكتاب: "فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ… فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّ" (لو٢٢: ٦١- ٦٢). لقد خرج مسرعاً وكأنه استيقظ من كابوس مخيف لا يحتمل أن يعيشه ولو للحظة، ولذا خرج سريعاً نافضاً عنه ضعفه.
  • يهوذا الإسخريوطي:

اتجه يهوذا بكامل قلبه نحو المال، فأعطاه أولوية حياته، حتى صار المال هدفه الأعظم. لقد تحقق فيه قول معلمنا بولس الرسول: "لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ." (١تي٦: ١٠). وهذا ما يتضح مما يلي.

  • شهادة الكتاب المقدس: سجل معلمنا يوحنا الإنجيلي هذه الشهادة عن يهوذا في بشارته قائلاً: "فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويعط للفقراء قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ" (يو١٢: 4- 6).
  • استعبد لشهوة المال بجنون: لقد أحب يهوذا المال جداً، ولم يهمه ماذا سينتج عن هذه المحبة الخاطئة. لقد صار حبه للمال سبباً لعنته، وهلاكه بحسب تعبير النبوة القائلة: "وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ، فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ" (مز١٠٩: ١٧- ١٨). صورت النبوة السابقة تملك شهوة حب المال على قلبه، وكأنها قد أحاطت به تماماً من كل ناحية كثوب لبسه فغطاه، واخترقت أعماقه الداخلية كما تدخل المياه في الأحشاء لتملأها، وأيضاً كالزيت الذي يتسرب إلى مسام العظام الصلبة لتملأها تماماً.
  • لقد كان يهوذا مستعبدا لشهوة حب المال بشدة، ودليل ذلك هو:
  1. الثمن الزهيد الذي خان لأجله الرب دليل على أن القليل من المال كان له تأثير خطير عليه.
  2. لم يرسل رؤساء الكهنة أحد عملائهم للتفاوض معه في أمر تسليم الرب لهم، لكنه ذهب بنفسه ليتمكن من التفاوض معهم على المزيد.
  3. كان جريئاً في شره أو سرقته للصندوق، بدليل أنه لم يخش أن يُكتشف أنه صاحب مصلحة خاصة في جلب الأموال لصندوق الفقراء، بل وبخ مريم أخت لعازر طالباً أن يضع الناس المال في الصندوق.
  4. تجرده من حب صديقه، وعدم تقديره له، وذلك بعكس ما فعلته مريم أخت لعازر، وغيرها من النساء اللواتي سكبن طيباً غالياً على الرب يسوع، ولكن استنكار يهوذا لما فعلته مريم يعبر عن عدم حبه لسيده، وأيضاً عدم تقديره له. لقد كان الأجدر به أن يخجل من الاعتراض على ما صنعته مريم إن كان في قلبه شيء من الحب، أو التقدير لمعلمه. إن سكب الطيب في زمن الرب يسوع كان يعبر عن مشاعر الحب والتقدير والإكرام. أما هو فلم يكن لسيده حباً في قلبه.
  5. انفصاله عن جماعته بسهولة. لقد قضت محبته للمال على انتماءه لجماعته وأصدقائه، فلم يعتد بأحد منهم. لقد خرج من وسطهم يوم العيد مسرعاً لئلا تفوته صفقة بيع سيده بحسب قول الكتاب: " فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ " (يو١٣: ٢).
  • فرق شاسع بين الاثنين: لايمكننا أن ننظر لكل الخطايا من جهة بشاعتها من منظور واحد. فخطيئة يهوذا تختلف تماماً عن خطيئة معلمنا بطرس الرسول، وفيما يلي نذكر بعض هذه الاختلافات:
    1. الدافع للخطية: الدافع لخطية معلمنا بطرس الرسول هو الخوف والضعف، ولكن القلب كان ممتلئاً بحب الرب. أما يهوذا فقد كان الدافع لخطيته هو حب المال.
    2. كيفية حدوثها: خطية معلمنا بطرس الرسول عارضة، ولدت في لحظة. أما يهوذا فقد وجدت الخطيئة في قلبه أولاً كشهوة، وظل جنينها ينمو في قلبه لفترة زمنية غير قصيرة، حتى اكتمل وأصبح لا مفر من ولادتها كقول الكتاب: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا"(يع1: 15). هي خطية إرادية مع سبق الإصرار.
    3. المشاعر المصاحبة للخطية: خيانة يهوذا صاحبها عمى بصيرة أدت به إلى هلاك أبدي، وصَاحَبتها أيضاً بلادة وقساوة، وفقدان في الحس، حتى أنه لم يلتفت لما سَيُسَبِبَهُ ذلك من ألم لمعلمه وصديقه. أما بطرس الرسول فقد وجد نفسه أمام خطر فتملكته مشاعر الخوف بسبب ضعفه، لكن داخله كان مملوءاً بمشاعر الألم لأجل ما أصاب سيده.

إجابة الجزء الثاني: الفرق بين توبة معلمنا بطرس الرسول، وتوبة يهوذا:

  • التوبة هي الرجوع لله: التوبة هي رجوع الإنسان بكل القلب لله كقول الكتاب: وَلكِنِ الآنَ، يَقُولُ الرَّبُّ، ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْح، وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ" (يؤ٢: ١٢- ١٣). ولكن ليس كل ندم على فعل الخطية هو توبة؛ لأن الإنسان قد يندم تأثراً لنتائج الخطية لكنه في نفس الوقت قد لا تكون لديه رغبة صادقة في الرجوع لله.
  • موقف بطرس ويهوذا من التوبة: لم يقدم يهوذا توبة، لأنه لم يرجع لله بقلبه حسبما أوضحنا سابقاً، ودليل ذلك أنه لم يبحث عن الرب الحبيب المتألم07 ليقدم له ندمه، أو ليتأسى على آلامه. ولم نسمع أنه ذهب ليبحث عن تلاميذ الرب، ليشاركهم ذكريات حب الرب لهم، أو ليشاركهم حزنهم، أو حتى ليؤكد انتماءه لجماعة الرب، فيا ليته فعل ذلك لكان الرب قد لاقاه في العلية، ولكان قد سمع صوت الرب الحاني يقول له ولبطرس: "أتحبني...ارع غنمي".
  • الحب أعظم ضمان للتوبة: إن أعظم ضمان للتوبة، والرجوع إلى الله عند الخطأ هو مقدار رصيد الحب في القلب. لقد كانت المحبة الشديدة لشخص الرب هي السر وراء عدم تمادي بطرس الرسول، وتوبته القوية. جذبه الحب المتمكن من قلبه للعودة لوضعه الأصلي (حضن الله) مرة أخرى. أما يهوذا فقد اضمحل الحب من قلبه، وهذا هو سر عدم توبته ويأسه، بل وهلاكه.
  • هل هي حقاً توبة؟

إن رجوع يهوذا لرؤساء الكهنة لا يحسب له توبة، بل هو محاولة للتخلص من الثلاثين قطعة من الفضة دليل خطيئته. لقد توهم أنه برده لثمن خيانته قد غسل يديه من الخيانة، ولكن هذا لم يكن ممكناً إلا بالرجوع للرب، الذي تضرع إليه داود النبي قائلاً: " طَهِّرْنِي بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ." (مز٥١: ٧). لقد خرج يهوذا من دار رئيس الكهنة؛ فوجد شيطان الخيانة في إنتظاره مرة أخرى يطارده حيثما يمضي، ويُعَيره ويُحَقره. أغلق الشرير أمامه كل سبيل حتى الموت والهلاك.

  • أراد أن يخلص ذاته فأهلكها: بذل يهوذا قصارى جهده لإسعاد ذاته، وتأمينها بحبه للمال فخان سيده، وعندما أخطأ لم  يحتمل على ذاته، - التي كان يحبها لدرجة العبادة - أن يراها خائنة، وساقطة في الحضيض. لقد سبق الرب وحذر من الحب الخاطئ للذات قائلاً: "فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا" (لو9: 24).

      أخيراً لعلنا نتساءل هل تحسب له مثل هذه توبة يقبلها الله؟!!.

v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);}