إن الله هوالقاضي العادل، بل هو العدالة ذاتها، وحاشا لله أن يظلم أحداً وإن كنا كبشر نبحث عن العدالة ونتكلم عنها ليل نهار، فما بالنا الله الذي خلقنا، وجعل عدالته في قلوبنا. أنه هو مصدر كل عدالة عرفها البشر. في النقاط التالية نعرض لملامح من صفات عدل الله بحسب شهادة الكتاب المقدس:

أولاً: عدل الله يقتضي تطبيق روح العدالة :

أي قاض عادل له اعتبارات كثيرة يحكم بمقتضاها، فليس من العدل أن يجازي القاضي كل من أخطأ بنفس العقاب، دون النظر لأي اعتبارات، أو ظروف تخص المتهم مثل سنه، أو غرضه أو دوافعه من جريمته، أو حالته النفسية وقت وقوع الجريمة أو... أو… إن عدالة الله تقتضي أن يدين الله الناس طبقاً لاعتبارات كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • دينونة الله ليست نمطاً واحداً: إن من لم يصل إليه نور تعاليم الرب يسوع المسيح نهائياً، قد يسأل عما وضعه الله في قلبه من طبيعة خيرة مثلاً، أو ما عرفه، أو وصل إليه من خلال المجتمع المحيط به، ومن وصلت إليه الكرازة والبشارة، ولم يقبل نورها لا يتساوى مع من لم تصل إليه. لقد أكد معلمنا القديس بولس الرسول ذلك قائلاً: " لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ. وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ... لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً، " ( رو٢: ١٢- ١٥).
  • دينونة الله للناس على ما ارتكبه كل منهم من خطأ شخصي: من أهمل سَيُحَاسب على إهماله الشخصي، ومن تقسى سَيُحَاسب عن قساوته. كل على خطئه الشخصي، وسَيُدان من لم يستجب لصوت الله الذي ناداه به الله مراراً وتكراراً،  ولن يقدر أحد يوم الدينونة أن يُنكر معاملات الله معه، أو رفضه وعدم تجاوبه لصوته، لأن الله سَيُحاسب البشر بأحكام لا لبث فيها، وهكذا... وقد شهد الكتاب بذلك قائلاً: " بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ. كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ الْحِصْرِمَ تَضْرَسُ أَسْنَانُهُ. " (إر٣١: ٣٠). وأيضاً قوله:"الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ." (رو٢: ٦). علل صاحب الوزنة الواحدة (في مثل الوزنات) عن إهماله - متهماً سيده بالقساوة - قائلاً: "... يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ. فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا" (مت٢٥: ٢٤-٢٧). واضح في المثل أن السيد يطالب العبد بعمل بسيط كان بإمكانه فعله بسهولة.
  • الدينونة بحسب الإمكانيات الموهوبة للإنسان: دينونة الله للبشر تختلف من شخص لشخص، وذلك بحسب ما ناله الإنسان من إمكانيات، وما أُعْلِنَ له من معرفة. فمن أعطي كثيراً سَيُحَاسب بأكثر، لأن إمكانياته أكثر. وللتقريب للذهن نتساءل هل امتحان الصف الخامس الابتدائي في مادة العلوم يصلح كإمتحان لطلبة كلية العلوم؟! بالطبع لا. إننا أولاد الله الذين أئتمننا على أسرار ملكوت الله فلابد أن نكون حريصين أكثر، لأننا سندان على نفس الخطايا التي قد يفعلها غيرنا ممن ليس لهم معرفة روحية بأكثر صرامة كقول الكتاب: " وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا. وَلكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ" (لو١٢: ٤٧- ٤٨).

ثانياً: الله ليس عنده محاباة في أحكامه إطلاقاً:

  • مواهب وعطايا الله المتنوعة للإنسان هي على سبيل وزنات، وليست محاباة:

تختلف وتتنوع عطايا ومواهب الله للبشر، ولكنها تُحسب على سبيل وزنات كما أشرنا سابقاً، فمن أعطي كثيراً سَيُطالب بأكثر، ولكن أحكام الله بغير محاباة لأن كل واحد سَيُحاسب على قدر إمكانياته. كشف معلمنا بطرس الرسول هذه الحقيقة قائلاً: " وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ،" (١بط١: ١٧).. لقد وبخ الله معلمنا بطرس الرسول الذي كان ينظر لغير اليهود بنظرة دونية، مُظهِراً له مشيئته في طهارة الجميع، وقبولهم قائلاً له: "... مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!" (أع١٠: ١٥).  أدرك الرسول العظيم تلك الحقيقة فتغنى بذلك قائلاً: "... بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ." (أع١٠: ٣٤- 35)، بل أكد في موضع آخر أن شعب الله سَيُدان أول الكل قائلاً: "لأَنَّهُ الْوَقْتُ لابْتِدَاءِ الْقَضَاءِ مِنْ بَيْتِ اللهِ. فَإِنْ كَانَ أَوَّلاً مِنَّا، فَمَا هِيَ نِهَايَةُ الَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ اللهِ؟ ." (١بط٤: 17).

  • النعمة الموهوبة لأولاد الله ليست حصانة لهم من المُساءَلة: إننا سَنُحاسب على كثرة عطايا الله لنا. هي وزنات، وليست شهادة تؤهل للتمتع بملكوت السماوات دون حساب، وهذا ما أكده معلمنا بولس لليهود المتنصرين في رومية قائلاً: " لأَنْ لَيْسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ النَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ اللهِ، بَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ." (رو٢: ١٣).

ثالثاً: زود الله البشر بعطايا، ونعم كثيرة ليحفظهم من أحكام دينونته:

إن الإنسان محدود المعرفة، ويستخدم حواسه لمعرفة ما حوله، لكن الله روح، ولا يمكن للحواس البشرية البسيطة أن تدركه. لقد أعطى الله البشر إمكانية معرفته كقول القديس إغريغوريوس في القداس الإلهي: " أعطيتني علم معرفتك" لذا لن يكون لإنسان عذر يحتج به أمام دينونة الله العادلة كقول الكتاب: "... لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ الله" (رو٣: 19). في النقاط التالية نعرض لذلك بالتفصيل:

  • المَلَكَات والمواهب المتعددة المعطاة للإنسان: وضع الله ذو العظمة والجلال في كل إنسان الكثير من المَلَكَات والمواهب الطبيعية، لتؤهله للنعيم الأبدي، وذلك بدرجات متفاوتة. نذكر من تلك المَلَكَات والنعم على سبيل المثال لا الحصر: العقل والمنطق، والمشاعر الطبيعية التي تتأثر عند الألم، وتفرح وتسعد للخير. ومَن مِن البشر لم يَبكِ مطلقاً مهما كانت قساوته. لقد وهبنا الله طبيعة خيرة مثله، فنحن قد خلقنا على صورته ومثاله، ولذلك من المنطقي أن يجد البشر راحتهم في الله الرحوم صانع الخيرات. إن أبسط دليل يؤكد قولنا هو إجماع الناس في العالم كله على أهمية الخير والصلاح، ولذلك نجد أعتى الأشرار يتكلم بمنطق الواجب والحق وسط خاصته، ويستريح لمن يعمل معه معروفاً، ولكن الأشرار يقَّسون قلوبهم، فَيفَسِدوا مراحمهم كقول الكتاب عن قساوة شعب أدوم: "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِ أَدُومَ الثَّلاَثَةِ وَالأَرْبَعَةِ لاَ أَرْجعُ، لأَنَّهُ تَبعَ بِالسَّيْفِ أَخَاهُ، وَأَفْسَدَ مَرَاحِمَهُ، وَغضَبُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَفْتَرِسُ، وَسَخَطُهُ يَحْفَظُهُ إِلَى الأَبَدِ." (عا١: ١١).09
  • وصايا الله: أعطى الله  وصاياه لشعبه، وأعطى أيضاً من لم تصلهم وصاياه، كارزين وشهوداً أتقياء، يعيشون وسط العالم ليشهدوا له، وكأنهم إنجيل مقروء من كل من يراهم كقول معلمنا بولس الرسول: "ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ." (٢كو٣: ٣). إنه من المستحيل على الله خالق الكون العظيم ألا يشهد لنفسه، ثم يدين البشر. لقد أكد الكتاب ذلك قائلاً: "مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا».(أع ١٤: ١٧)؛ فالله إذاً يعلن معرفته باستمرار لسائر البشر حباً فيهم.
  • موهبة العقل: خلق الله الإنسان عاقلاً ناطقاً، ولذا يُمكِنه إدراك الكثير من الأمور بالاستنتاج. إن معرفة الله ظاهرة في الطبيعة تشهد لعظمة الخالق، ومن السهل على البشر إدراك ذلك، وهذا ما أكده الكتاب قائلاً:"لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ،حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ" (رو١: ٢٠).
  • الضمير: هو صوت داخلي، وهوحَكَمٌ عادلٌ وخِصمٌ عنيد مستعد للمقاومة. هو رفيق للإنسان على الدوام. يصرخ الضمير ضد ما هو باطل، ولا يمكن  للإنسان أن يُسْكِت ضميره بسهولة، هو قادر أن يُبَكِت ويؤلم صاحبه بشدة ليبعده عن الكثير من الشرور، ويقوده للصلاح. لقد علمنا الرب أن نُرضِي ضمائرنا  لئلا نقع في الدينونة قائلاً: "كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ." (مت٥: ٢٥)، ولكن ضمير الإنسان  يتأثر بشره أو بقداسته، ويحتاج لتدريب وتهذيب ليصير صالحاً نافعاً لصاحبه كقول الرسول بولس: "لِذلِكَ أَنَا أَيْضًا أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِمًا ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ اللهِ وَالنَّاسِ." (أع٢٤: ١٦).
  • عمل روح الله القدوس وإعلاناته: يستحيل على البشر البسطاء والضعفاء معرفة الله القدير والعظيم جداً، لذا كان لابد لروح الله أن يعلن لنا عن الرب يسوع كقول الكتاب: "لِذلِكَ أُعَرِّفُكُمْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِرُوحِ اللهِ يَقُولُ: «يَسُوعُ أَنَاثِيمَا». وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ:«يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. فَأَنْوَاعُ مَوَاهِبَ مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الرُّوحَ وَاحِدٌ." (١كو١٢: ٣-4).  يمكننا تلخيص عمل الروح القدس في الإعلان عن الله في النقاط التالية:

١. يسكن الروح القدس في أولاد الله ليقودهم في طريق الحياة الأبدية، ولكنه أيضاً يعمل في البشر جميعاً (مؤمنين أو غير مؤمنين) ليقودهم للتوبة، ومعرفة الله. إنه يعلن بطرق كثيرة عن وجود الله وصلاحه بحسب ما يناسب كل إنسان، وهذا ما أكده الوحي الإلهي على فم سليمان الحكيم قائلاً: "أَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ لاَ تُنَادِي؟ وَالْفَهْمَ أَلاَ يُعْطِي صَوْتَهُ؟ عِنْدَ رُؤُوسِ الشَّوَاهِقِ، عِنْدَ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَسَالِكِ تَقِفُ. بِجَانِبِ الأَبْوَابِ، عِنْدَ ثَغْرِ الْمَدِينَةِ، عِنْدَ مَدْخَلِ الأَبْوَابِ تُصَرِّحُ: «لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُنَادِي، وَصَوْتِي إِلَى بَنِي آدَمَ. أَيُّهَا الْحَمْقَى تَعَلَّمُوا ذَكَاءً، وَيَا جُهَّالُ تَعَلَّمُوا فَهْمًا" (أم٨: ١- ٥)

٢. من يقبل إعلانات روح الله، القادرة أن تخلصه، ولو القليل منها يُزيدَه الله من معرفته أكثر فأكثر، حتى يتأصل في معرفة الرب يسوع المسيح كشهادة الكتاب: "فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ." (مت ١٣: ١٢). ولذلك لن يوجد عذر لمن يَدّعِي الجهل بالله، لأنه هو الذي رفض معرفته وأراد لنفسه الجهل به كقول الكتاب:" لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ،" (رو١: 21- 22).

٣. يستخدم الروح القدس كل الإمكانيات الموهوبة للإنسان (كما ذكرنا العديد منها) لتكون لضميره بمثابة شهادة حية قوية من داخل نفسه تدفعه للتوبة والإيمان. لقد أوضح ذلك الرسول بولس قائلاً: " أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ، لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (رو٩: ١)، ولكن ضمير الإنسان سَيَشهد عليه في يوم الدينونة، ولن يقدر أن يهرب من شهادته، أويتناسى ما أخفاه سراً من قساوة ومقاومة لضميره كقول معلمنا بولس الرسول: "الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً، فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ." (رو٢: ١٥- ١٦).

٤. يجب علي كل من يشتاق لمعرفة الله أن يَجّدُ في الصلاة بلجاجة لطلب معرفة الله، وبالتأكيد سيتعامل الله مع المخلصين الجادين في طلب معرفته، ويعلن له عن ذاته بغض النظر عن ما يعتقدوه من معتقدات خاطئة. لقد علم القديس بولس الرسول بضرورة الصلاة، والطلبة ليعلن الله المزيد عن معرفته ومجده قائلاً: "ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي، كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ" (أف: ١: ١٦- ١٧).

أخيراً:

يشهد تاريخ الكنيسة من خلال سيرة القديس العظيم موسى الأسود عن حب الله، وإعلانه عن ذاته لطالبيه. لقد كان هذا القديس وثنياً يعبد الشمس، ولكنه احتار متخبطاً في جهله، ولذا كان يتساءل طالباً من الإله الحقيقي أن يعلن له ذاته، وبالفعل جذبه الله إليه، وأعلن ذاته له حتى صار قديساً عظيماً، وراهباً، وأباً من آباء الكنيسة العظام. إن السمائيين والأرضيين، وكل خليقة ستشهد وتمجد الله لعدالته في اليوم الأخير قائلة: "وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ:«عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَق هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ!" (رؤ١٥: ٣).