إن من يريد أن يُدرك مقاصد الله الصالحة في تلك العصور عليه أن يدرس طبائع، وحياة تلك الشعوب وثقافتهم بدقة، ثم يدرس من خلال نصوص الكتاب المقدس رسائل الله (كما أراد أن نفهمها) من وراء الأحداث، ومن يحاول قراءة الأحداث بمفاهيم اليوم متغافلًا هذه الأمور الهامة؛ فلن يدرك ما أراده الله من وراء تلك الأحداث.

فيما يلي نتناول بالشرح ذلك، ثم نشرح مقاصد الله من تحريم مدن بأكملها، وأخيرًا نوضح استحقاق عاخان بن كرمي للعقاب:

أولًا: قراءة الأحداث بمفهوم عصور حدوثها:

·   الاسلوب المناسب للتعامل مع البشر:

التواصل مع البشر يحتاج لمعرفة اللغة، التي يفهمها من نريد أن نتواصل معه، وأيضا معرفة ثقافته، ومدى معرفته وعلمه. إن هذه الحقيقة تسري أيضًا على طريقة تعامل الله، وتواصله مع بني البشر، فالله لا يتجاهل طبيعة البشر الضعيفة؛ بل يتنازل ويتعامل معهم من حيث ما يدركونه، ويبدأ من حيثما وصلوا إليه من معرفة وفهم وثقافة. إن ما يؤكد ذلك استخدام الرب يسوع الأمثال في تبسيطه، وشرحه عن أسرار ملكوت السماوات كقوله: "هذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَال، وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: «سَأَفْتَحُ بِأَمْثَال فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (مت١٣: ٣٤- ٣٥). وفيما يلي نؤكد هذه الحقيقة من خلال ما سجله الكتاب من معاملات الله:

-المجوس: أعلن الله للمجوس (الذين كانوا علماء في علوم الفلك) عن ولادة الرب يسوع المسيح ابن الله ملك اليهود، ومكان ميلاده بواسطة ظهور نجمٍ فريدٍ ذي طبيعة منيرة بحسب قول الكتاب: "وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ" (مت٢: ١- ٢).

-الضربات العشر في مصر:

أعلن الله عن سلطانه في عصور العهد القديم بإظهاره ضعف الآلهة الوثنية المصرية؛ فعلى سبيل المثال ضرب موسى النبي نيل مصر الذي قدسه المصريون كمعبود فصار ماؤه دمًا نتنًا، وضرب أيضًا الرب ماشية مصر بالوباء، لأن المصريين كانوا يعبدون العجل (الإله أبيس) ... أما الظلام الدامس، الذي غطى جميع أرض مصر -ما عدا أماكن إقامة العبرانيين- فكان ضربة قاسمة لإله الشمس رع ... وهكذا نجد الله يعلن عن ذاته، وفي نفس الوقت عن ضلال الآلهة، والعبادات الوثنية بهدمه مفاهيم تلك الشعوب عن آلهتهم الضعيفة.

·     مثال معاصر:

نستحسن جميعنا بضمير مستريح قيام قوات الأمن في أي دولة بتصفية بؤرة، أو معقل للإرهابيين، أو مافيا للمخدرات، وقد تدكه قوات الأمن بالطائرات من السماء، أو تدكه قذائف المدفعية عن بعد، ومع أن ذلك بالطبع يتسبب في هلاك ودمار شامل لتلك الأماكن بمن فيها؛ إلا أننا نقدر للسلطات عظم صنيعها.

إننا نتفهم جيدًا خطورة تلك الجماعات، أو العصابات مع أن هذا الحادث بعينه قد لا يتفهمه البعض في جيل آخر.

·     أحكام الله بالطرد لسكان كنعان:

إن طرد الله للأشرار من أرض كنعان في تلك العصور، كان إشارة ودليلًا على قداسة الله، وسلطانه على الأرض كلها. أما تحريم بعض البلاد فكان إشارة لشناعة خطايا الناس، التي جعلتهم في حالة فساد لا علاج لها، أو موت روحي لا قيام منه، وأظهرت أيضًا خطورة الشر، وضرورة التخلص منه، ومدى حرص الله على عدم انتقال عدوى الشر إلى شعوب أخرى.

ثانيًا: ضرورة التحريم:

  • علاجٌ قاسٍ لوباء مستعص:

إن الشر والفساد حينما يتأصلان، ويتفشيان في مجتمع ما يضران بجميع أفراده، وهذا ما يشبه انتشار وباء مرضي يصعب السيطرة عليه بوسائل النظافة التقليدية، لأنه أصبح وباء والسكوت عليه يعني الدمار الشامل لدول بأكملها، بل قد يؤثر في قارات بأكملها. وكما أن التخلص من الوباء قد يلزمه الحزالحزم، وذلك بحرق متعلقات المصابين؛ بل أحيانًا التخلص من جثث الموتى المصابيين بالحرق.05

هكذا نرى الله قد نظر، وتعامل مع هذه المدن المصابة بالفساد من هذا المنطلق، مبينًا لشعبه ضرورة تفادي انتقال فساد هذه العبادات الشريرة لهم، وما يترتب عليه من هلاك لهم.

لقد أكد يشوع النبي هذه الحقيقة قائلًا: " وَيَدْفَعُهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ وَيُوقِعُ بِهِمِ اضْطِرَابًا عَظِيمًا حَتَّى يَفْنَوْا. وَيَدْفَعُ مُلُوكَهُمْ إِلَى يَدِكَ، فَتَمْحُو اسْمَهُمْ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ حَتَّى تُفْنِيَهُمْ. وَتَمَاثِيلَ آلِهَتِهِمْ تُحْرِقُونَ بِالنَّارِ. لاَ تَشْتَهِ فِضَّةً وَلاَ ذَهَبًا مِمَّا عَلَيْهَا لِتَأْخُذَ لَكَ، لِئَلاَّ تُصَادَ بِهِ لأَنَّهُ رِجْسٌ عِنْدَ الرَّبِّ إِلهِكَ. وَلاَ تُدْخِلْ رِجْسًا إِلَى بَيْتِكَ لِئَلاَّ تَكُونَ مُحَرَّمًا مِثْلَهُ. تَسْتَقْبِحُهُ وَتَكْرَهُهُ لأَنَّهُ مُحَرَّمٌ" (تث٧: ٢٣- ٢٦).. إن الله يبيد الشر بغرض التنقية، أو للحفاظ على البقية الباقية من الهلاك كقول الرب لشعبه: "صِهْيَوْنُ تُفْدَى بِالْحَقِّ، وَتَائِبُوهَا بِالْبِرِّ. وَهَلاَكُ الْمُذْنِبِينَ وَالْخُطَاةِ يَكُونُ سَوَاءً، وَتَارِكُو الرَّبِّ يَفْنَوْنَ." (إش١: ٢٧- ٢٨).

  • التحريم عقوبة تصدر وفق أحكام قضائية إلهية:

التحريم ليس أمرًا يخص الشعب أو عامة الناس، لكنه عقوبة وحكم قضائي يأمر به الله، ويتممه الكهنة والقضاة المؤتمنون على الشريعة، وذلك الحكم يصدر بسبب فعل الشرور، والتعدي على وصايا الله ونواميسه، ومن الأمثلة الشهيرة لذلك، تحريم مدينة أريحا بسبب كثرة شرورها. لقد أمر الله بتحريم المدينة كلها بإستثناء راحاب الزانية وأسرتها، لأنهم رفضوا فساد وشر الآلهة الشريرة، وقبلوا الله القدوس قائلًا: "فَتَكُونُ الْمَدِينَةُ وَكُلُّ مَا فِيهَا مُحَرَّمًا لِلرَّبِّ. رَاحَابُ الزَّانِيَةُ فَقَطْ تَحْيَا هِيَ وَكُلُّ مَنْ مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، لأَنَّهَا قَدْ خَبَّأَتِ الْمُرْسَلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَرْسَلْنَاهُمَا. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَاحْتَرِزُوا مِنَ الْحَرَامِ لِئَلاَّ تُحَرَّمُوا، وَتَأْخُذُوا مِنَ الْحَرَامِ وَتَجْعَلُوا مَحَلَّةَ إِسْرَائِيلَ مُحَرَّمَةً وَتُكَدِّرُوهَا" (يش٦: ١٧- ١٨).

  • التحريم عمل موجه ضد الشر:

لم يستخدم الله قضاء التحريم ضد شعب بعينه، لكن هذا الحكم كان ضد شر عبادة الأوثان المقيتة، وما ترتب عليها من خطايا نجاسة وقسوة وظلم. إن التحريم دافعه الأول هو القداسة وكره الشر، ولا علاقة له بالبغضة، لأن الله لا يفرق في هذا بين شعب وآخر، وقد أكد موسى النبي تطبيق ذلك الحكم على شعب الله، إذا انزلقوا في نفس الشر قائلًا: "قَدْ خَرَجَ أُنَاسٌ بَنُو لَئِيمٍ مِنْ وَسَطِكَ وَطَوَّحُوا سُكَّانَ مَدِينَتِهِمْ قَائِلِينَ: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لَمْ تَعْرِفُوهَا. وَفَحَصْتَ وَفَتَّشْتَ وَسَأَلْتَ جَيِّدًا وَإِذَا الأَمْرُ صَحِيحٌ وَأَكِيدٌ، قَدْ عُمِلَ ذلِكَ الرِّجْسُ فِي وَسَطِكَ، فَضَرْبًا تَضْرِبُ سُكَّانَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَتُحَرِّمُهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مَعَ بَهَائِمِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. تَجْمَعُ كُلَّ أَمْتِعَتِهَا إِلَى وَسَطِ سَاحَتِهَا، وَتُحْرِقُ بِالنَّارِ الْمَدِينَةَ وَكُلَّ أَمْتِعَتِهَا كَامِلَةً لِلرَّبِّ إِلهِكَ" (تث13: 13-16)

  • هدف التحريم (قداسة المجتمع):

التحريم يعبر عن قداسة الله، الذي لا يرضى بالخطية إطلاقًا، لذلك يعلن الله غضبه بمعاقبة المخطئ والقضاء عليه، ونزع شره من المجتمع لتعود إليه قداسته. إن الشر له قدرة عجيبة على الانتشار بسرعة كقول الكتاب: "لَيْسَ افْتِخَارُكُمْ حَسَنًا. أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ؟ إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ..." (١كو٥: ٦- ٧).

لقد شملت لعنة الخطية شعب إسرائيل كله بسبب خيانة عاخان بن كرمي، الذي تعدى أوامر الله، واختلس ما حرمه الله، ولهذا أعلن الله غضبه وتخليه عن شعبه، مطالبًا يشوع بنزع الحرام قائلًا: " ُقمْ قَدِّسِ الشَّعْبَ وَقُلْ: تَقَدَّسُوا لِلْغَدِ. لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: فِي وَسَطِكَ حَرَامٌ يَا إِسْرَائِيلُ، فَلاَ تَتَمَكَّنُ لِلثُّبُوتِ أَمَامَ أَعْدَائِكَ حَتَّى تَنْزِعُوا الْحَرَامَ مِنْ وَسَطِكُمْ." (يش٧: ١٣).

  • قطع الشر مسئولية مجتمعية:

إن أحكام التحريم تأتي على المدينة الشريرة بأكملها، ونزع الشر يأتي بالخير والبركة للمدينة بأكملها أيضًا. لذلك فكل أفراد المجتمع ملتزمين بالبعد عن الشر، ونزع أسبابه من حياتهم. أما المجتمع المدني ممثلًا في حكامه، وقضاته فهو مسئول عن تنفيذ الأحكام الإلهية، وأيضًا عن تخصيص أفرادٍ من الشعب (جنودٍ) لنزع الشر.

إنها مسئولية نبيلة تجاه المجتمع كله. لقد كدر عاخان كل شعب إسرائيل كقول يشوع النبي: "... كَيْفَ كَدَّرْتَنَا؟ يُكَدِّرُكَ الرَّبُّ فِي هذَا الْيَوْمِ!». فَرَجَمَهُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ بِالْحِجَارَةِ وَأَحْرَقُوهُمْ بِالنَّارِ وَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ" (يش٧: ٢٥). ولقد نفذ أفراد من الشعب الأمر بالتحريم؛ إشارة لاشتراك الجميع في المسئولية.

  • أحكام التحريم واجبة النفاذ:

هي أحكام القضاء، التي يقضي بها الله على من يخالف شريعته؛ وذلك بغرض الحفاظ على المجتمع من الفساد والإيذاء، ولا بديل للتحريم، أو القتل حينما يصدر أمر الله كقول الكتاب: " كُلُّ مُحَرَّمٍ يُحَرَّمُ مِنَ النَّاسِ لاَ يُفْدَى. يُقْتَلُ قَتْلاً." (لا٢٧: ٢٩). إن التحريم في العهد القديم يشبه حكم الإعدام الآن، وكما أن الحكم بالإعدام لا يمكن الرجوع عنه، أو دفع فدية عنه متى صدر، كذلك أحكام التحريم التي يُصدرها الله لا يمكن الرجوع عنها. وهل نتخيل مجتمعًا على رأسه الله يتساهل مع السارق، والزاني، والقاتل بحجة الشفقة؟!

  • الشفقة المدمرة:

لقد أمر الله شعبه بعدم الشفقة على الشر؛ لأن هناك أمورًا لاتجوز فيها الشفقة، إن من يصر على صنع الشر لا يستحق الشفقة كقول الكتاب: "مَنْ يَرْحَمُ رَاقِياً قَدْ لَدَغَتْهُ الْحَيَّةُ؟ أَوْ يُشْفِقُ عَلَى الَّذِينَ يَدْنُونَ مِنَ الْوُحُوشِ؟ هكَذَا الَّذِي يُسَايِرُ الرَّجُلَ الْخَاطِئَ، يَمْتَزِجُ بِخَطَايَاهُ." (بن سيراخ١٢: ١٣) ... ذلك، لأن من يشفق على الأشرار يتسبب في أذى نفسه كقول الكتاب:” إِنْ لَمْ تَظْلِمُوا الْغَرِيبَ وَالْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ، وَلَمْ تَسْفِكُوا دَمًا زَكِيًّا فِي هذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ تَسِيرُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لأَذَائِكُمْ" (إر٧: ٦).

لقد اعتبر الكتاب الحياة وسط الشر شركٌ مهلكٌ قائلًا: "وَتَأْكُلُ كُلَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ الرَّبُّ إِلهُكَ يَدْفَعُ إِلَيْكَ. لاَ تُشْفِقْ عَيْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَعْبُدْ آلِهَتَهُمْ، لأَنَّ ذلِكَ شَرَكٌ لَكَ" (تث٧: ١٦).

ثالثًا: خطورة الحرام:

إن رسالة الله للبشر، ولشعبه بالأخص من وراء تحريم أفعال أو أشياء بعينها هى الحذر الشديد من الخطية والشر المهلك. لقد تعامل الله بصرامة مع من لا يحرم ما حرمه الله، لعل الناس تدرك مدى الجرم الشديد من وراء خطايا معينة، مثل عبادة الأوثان المقيتة بكل ما تضمنته هذه العبادات من نجاسات، وعنف، وظلم.

لقد أظهر الله قداسته، وغضبه الشديد تجاه شرور مدينة أريحا، فأمر بإبادة (تحريم) المدينة بكل ما فيها، لكن عاخان بن كرمي خالف أوامر الله، وأخذ من الحرام لنفسه، واختلس بعضًا من الممتلكات... ولم تنتهِ الحادثة عند ذلك الحد، لكن الله تخلى عن شعبه، وسقط منهم في الحرب ستة وثلاثون رجلًا، وعندما صرخ يشوع النبي لله أعلمه بخيانة عاخان بن كرمي، ثم أمر الله بتحريمه هو أيضًا، وكل ما له. أظهر الله من خلال هذه الحادثة خطورة اشتهاء، واختلاس ما حرمه الله. إن حادثة موت عاخان بن كرمي هي من أوضح الصور لغضب الله القدوس على الشر، وعدم تهاونه معه.

وفيما يلي نشرح بشاعة خطية عاخان واستحقاقه للدينونة كمثال حي لخطورة الحرام:

  • رفض عاخان لحياة القداسة:

ليست خطية عاخان أخذ بعض المقتنيات، التي ستحرق، ولكن خطيته هي رفض القداسة. لقد أحب ما حرمه الله؛ أي تعدى على وصايا الله كما أوضح الله لنبيه يشوع قائلًا: "قَدْ أَخْطَأَ إِسْرَائِيلُ، بَلْ تَعَدَّوْا عَهْدِي الَّذِي أَمَرْتُهُمْ بِهِ، بَلْ أَخَذُوا مِنَ الْحَرَامِ، بَلْ سَرَقُوا، بَلْ أَنْكَرُوا، بَلْ وَضَعُوا فِي أَمْتِعَتِهِمْ" (يش٧: ١١). إن كل من يسر باختلاس ما حرمه الله يرفض القداسة؛ لأنه اشتاق، واشتهى الحرام كقول صموئيل النبي لشاول الملك، الذي أخذ هو أيضًا من الحرام: "وَأَرْسَلَكَ الرَّبُّ فِي طَرِيق وَقَالَ: اذْهَبْ وَحَرِّمِ الْخُطَاةَ عَمَالِيقَ وَحَارِبْهُمْ حَتَّى يَفْنَوْا؟ فَلِمَاذَا لَمْ تَسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ، بَلْ ثُرْتَ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَعَمِلْتَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ؟" (١صم ١٥: ١٨- ١٩). لقد رفض يوسف الصديق أن يخطئ مع امرأة فوطيفار؛ لأن الله قد حرم ذلك فحسب له تصرفه هذا قداسة.

  • عدم طاعة الله:

عاخان بن كرمي هو أحد أفراد شعب إسرائيل، الذين صاروا شعبًا مقدسًا لله، ودخلوا في عهد قداسة معه، وصاروا جنودًا مخلصين طائعين له. لقد خلصهم الله، وأخرجهم بقوته العظيمة من عبودية فرعون، وحفظهم ورعاهم في القفر، وأدخلهم أرض كنعان، وأسلم أعداءهم لأيديهم، وأوصاهم بتحريم الأشرار. فهل يليق به - والرب ذاهب به ليملكه نصيبًا عظيمًا- أن يخالفه؟!!

إن الطاعة والخضوع هما مطلب الله من الإنسان، وهما أهم ما يمكن أن يقدمه الإنسان حبًّا وتقديرًا لله كقول صموئيل النبي لشاول الملك: "... هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ؟ هُوَذَا الاسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَالإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكِبَاشِ" (١صم١٥ ٢٢).

  • عدم توبة عاخان:

لم يشعر، ولم يعترف عاخان بخطيته، عندما انكسر جيش إسرائيل بسببه، وسقط منهم ستة وثلاثون رجلًا في الحرب، لقد أنكر عاخان، وأصر على عدم الاعتراف بخطيته، بعدما أمر يشوع الشعب بنزع الحرام من وسطهم كقول الرب: "قُمْ قَدِّسِ الشَّعْبَ وَقُلْ: تَقَدَّسُوا لِلْغَدِ. لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: فِي وَسَطِكَ حَرَامٌ يَا إِسْرَائِيلُ، فَلاَ تَتَمَكَّنُ لِلثُّبُوتِ أَمَامَ أَعْدَائِكَ حَتَّى تَنْزِعُوا الْحَرَامَ مِنْ وَسَطِكُمْ" (يش٧: ١٣).

لقد تأنى الله على عاخان، ولم يعلن اسمه كخائن مباشرة، ولكنه أعلن اسم السبط، الذي ينتمي له الخائن، ثم العشيرة، ثم البيت الذي ينتمي له، وفي كل هذا لم يقدم عاخان توبة.

رابعاً: الحرام والتحريم من منظور العهد الجديد:

  • الحرام في العهد الجديد:

إن الله هو هو لا يتغير بمرور الزمن، وكلمته ثابتة، وما حرمه الله في العهد القديم مازال محرمًا في العهد الجديد. لقد جاء الرب يسوع لا لينقض الناموس، بل ليكمله كقوله الصادق: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُ" (مت٥: ١٧- ١٨).

البعض من غير العارفين يظنون خطأ، أنه لا يوجد حرام في المسيحية، مستندين لقول معلمنا بولس الرسول: "كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي"، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوَافِقُ. «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي"، وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي" (١كو١٠: ٢٣). ولكن بمراجعة النص بدقة يتضح أن معلمنا بولس الرسول لا يقصد بكلامه أي أمر محرم على المؤمنين؛ بل موضوع الحديث منصب على ما يحل له أكله من لحوم قد تكون ذبحت للوثن، ولكنه لا يليق به، ولا يوافقه أن يأكل منها لئلا يعثر غيره (نرجو من القارئ العزيز مراجعة الشاهد السابق في سياقه).

  • مفهوم التحريم في المسيحية:

ترك الرب يسوع حكم شعوب الأرض لملوكها ورؤسائها، بعدما تحضرت الشعوب، وعرفت الشرائع، التي تمنع الظلم والفساد، وأصبح كل مجتمع يُضبط بالقوانين. لقد أثنى معلمنا بولس الرسول على عمل الحكام (الحكومات)، واعتبره خادم الله للصلاح قائلًا: "فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ" (رو١٣: ٣- ٤). أما الدينونة الإلهية فهي مؤجلة للدهر الآتي، حين يأتي الرب كقول الكتاب: "أَنَا أُنَاشِدُكَ إِذًا أَمَامَ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتَ، عِنْدَ ظُهُورِهِ وَمَلَكُوتِهِ" (٢ تي٤: ١).

 
  • سلطان الكنيسة في حرم الأشرار:

لا يوجد سلطان للكنيسة في إنزال عقوبات حسية، أو مادية على الأشرار؛ لأن ذلك من اختصاص السلطات المدنية، لكن الكنيسة لها سلطان روحي بفرز، أو قطع الأشرار من عضويتها، إلى أن يتوبوا، وذلك كقول الرب يسوع: "وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ" (مت١٨: ١٧).

لقد استخدم معلمنا بولس سلطانه في حرم خاطئ كورنثوس، ثم عاد وأمر بقبوله في عضوية الكنيسة عندما قدم توبة، وكف عن خطيته.

إن القضاء بأحكام التحريم شيء مؤسف، ولكنه كان ضروريًا في زمن سادت فيه الهمجية، والعنف دون ضابط... أما ما يؤسف له أكثر فهو التساهل مع الشر ونزعه، لأن ذلك يكدر مجتمعات بأكملها، وقد يتسع نطاقه وينتشر، ويشمل شعوبًا، وأممًا بأكملها... إن أحكام التحريم في ذلك الزمان كانت بمثابة صمام أمان لضبط المجتمع، وحمايته من الفساد، والهلاك.