تسمية خاطئة تخالف مفهوم الكتاب المقدس:

يعتبر البعض أن كل ما يلحق بهم من ضيقات، أو أزمات هي تجارب من الله، ولكن تسمية كل شدة أو ضيقة بكلمة تجربة هي تسمية تفتقر إلى الدقة. لذا دعونا نسمي الأمور بما تدل عليه. فالضيقات أمر طبيعي من أمور هذه الحياة (كما أن الولادة والموت من أمور هذه الحياة التي لا تحتاج لتفسير).. وسوف نتناول بالتأمل حكمة الله من ورائها في سؤال لاحق. أما كلمة تجربة فأغلب استعمالات هذه الكلمة في الكتاب المقدس يرتبط بالشر.

أما بخصوص كلمة امتحان، أو امتحن (المستخدمة في حادثة تقديم إبراهيم ابنه إسحق محرقة لله)، فهي مصطلح آخر يستخدم في الكتاب بمعنى آخر غير كلمة تجربة؛ وبناء على ذلك، لا يكون هناك تعارض بين قول الكتاب في الحالتين. في السطور التالية نعرض لذلك بالتفصيل:

أولًا: مفهوم الكتاب المقدس عن التجارب:

  • ارتباط التجربة بالشر:

أغلب استخدامات الكتاب لكلمة "يجرب" ومشتقاتها اللغوية هي للدلالة على الشر، والأذى المرتبط بها.. ومن أمثلة الاستخدامات الكثيرة لهذه الكلمة ما يلي:

  ١. "وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ"(مر١: 13). في الآية السابقة يخبرنا الكتاب أن المجرب هو الشرير الشيطان عدو الخير، والمضل.12

٢. قَالُوا لَهُ: "يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْل هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟" قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ"(يو٨: ٤ - ٦).. واضح من الشاهد السابق أن ذلك الناموسي كان يهدف من سؤاله تصُّيد خطأ من فم الرب (تجربة الرب)، وبالطبع حاشا لله أن يخطئ بفمه المبارك.

  • المُجَرِّب:

المُجَرِّب شخص شرير وله خبرة بالشر يطلب أذى غيره. لقد لقب الوحي الإلهي الشيطان بلقب المُجَرِّب، ذلك لأنه لا يكف عن نصب الشراك، والفخاخ لبني البشر، وهكذا وصفه أيضًا معلمنا بولس الرسول قائلًا: "مِنْ أَجْلِ هذَا إِذْ لَمْ أَحْتَمِلْ أَيْضًا، أَرْسَلْتُ لِكَيْ أَعْرِفَ إِيمَانَكُمْ، لَعَلَّ الْمُجَرِّبَ يَكُونُ قَدْ جَرَّبَكُمْ، فَيَصِيرَ تَعَبُنَا بَاطِلًا"(١تس٣: 5).

أما الله الحنون فهو الصالح والخيٍّرُ، الذي لا يعرف شرًّا؛ لذلك فهو لا يجرب أحداً كقول الكتاب: "لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: "إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ"، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا"(يع١: 13).

  • سلاح المُجَرِّب:

 ١. يستخدم المُجَرِّب الغش، والخداع كسلاح؛ فيتكلم بكلام معسول، أو يغري ضحاياه بالشهوات الرديئة، وهو دائمًا يخدع من يجربهم؛ لينحرفوا عن طريق الحياة الأبدية (بدعوى صعوبته)، وليختاروا الراحة، والملذات مخفيًا عنهم الهلاك الذي، ينتظرهم في نهاية الأمر.

لقد صدق النبي في قوله عن يهوذا عميل الشيطان: "أَنْعَمُ مِنَ الزُّبْدَةِ فَمُهُ، وَقَلْبُهُ قِتَالٌ. أَلْيَنُ مِنَ الزَّيْتِ كَلِمَاتُهُ، وَهِيَ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ"(مز55: 21).

 ٢. يستخدم المُجَرِّب أيضًا أسلوب التخويف والتهديد بالإيذاء؛ مع أنه ليس له سلطان على الإنسان إطلاقًا بحسب قول الرب لبيلاطس البنطي: "أَجَابَ يَسُوعُ:"لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ"(يو١٩: 11).. إن الله له وحده السلطان المطلق على جميع خلائقه.

  • المجَرَّبون:

المجَرَّبون هم بشر ضعفاء ينقادون وراء شهواتهم؛ فينخدعون، ويقبلون الشر من يد المُجَرِّب. إنهم يخضعون لإبليس على أمل تتميم رغباتهم، وشهواتهم الدنيئة، كقول الوحي عنهم: "وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ"(يع١: 14). أما المتعففون الضابطون لذواتهم (بنعمة الله) فلا سلطان للمُجَرِّب عليهم، وذلك بشهادة الرب القائل: "لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضًا مَعَكُمْ كَثِيرًا، لأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ"(يو١٤: 30).

  • خطورة التجربة:

إن العدو الشرير لا يكف عن نصب الشباك لبني البشر، وهدفه الأوحد هو إهلاكهم أبديًّا ذلك كما علمنا معلمنا يعقوب الرسول بقوله: "وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا"(يع١: ١٤- ١٥). وكم من ضحايا قد انخدعوا بغشه، ولكن الويل لذلك الغاش الشرير، ولكل من ينقاد له كقول الكتاب: "وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ!"(لو١٧: 1).

ثانيًا: المفهوم الكتابي للضيقات التي يسمح بها الله للمؤمنين:

يصف الكتاب المقدس الشدائد، والضيقات، التي قد يسمح الله بها لأولاده المحبوبين بلقب امتحان، أو اختبار، وأحيانًا أخرى بكلمة تأديب.. وهذه الكلمات لها مدلول كتابي مغاير تمامًا للمدلول الكتابي لكلمة تجربة. وفيما يلي نشرح معنى كل كلمة:

  • الضيق هو امتحان:

إن كلمة امتحان لها علاقة بكلمة محنة (ضيقة أو معاناة)، والضيقات تأتي على البشر جميعهم دون تفرقة كقول الحكيم: "الْكُلُّ عَلَى مَا لِلْكُلِّ. حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصِّدِّيقِ وَلِلشِّرِّيرِ، لِلصَّالِحِ وَلِلطَّاهِرِ وَلِلنَّجِسِ، لِلذَّابحِ وَلِلَّذِي لاَ يَذْبَحُ، كَالصَّالِحِ الْخَاطِئُ. الْحَالِفُ كَالَّذِي يَخَافُ الْحَلْفَ"(جا٩: 2). ولكن كلمة "امتحن" أو "امتحان" تستخدم للدلالة على أن هذه المحنة، أو الضيقة يراد من ورائها إظهار، ومعرفة قيمة أمر ما، ومثال ذلك قول الكتاب: "لاَ تَحْتَقِرُوا النُّبُوَّاتِ. امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ. امْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرّ"(١تس٥: 20 - ٢٢). المقصود من استخدام لفظ "امتحنوا" في النص السابق هو الفحص لمعرفة قيمة الأشياء، ومن ثم التمسك والاستفادة بما له قيمة ثمينة.

أما الضيقة، التي تأتي على الأشرار فهي لضررهم.. وكما أن العاصفة، التي تأتي على البيت المبني على الصخر تشهد لمتانته، بينما هي بذاتها عندما تأتي على البيت المبني على الرمل تكون سببًا لسقوطه، هكذا تأتي الضيقات على الجميع لتظهر معدن كل إنسان.

  • المدلول الروحي لكلمة "امتحان"، أو "اختبار":

بعض النقاط المهمة التي لابد أن نضعها في الاعتبار لنفهم لماذا يمتحن الله أحباءه:

 ١. بغرض الفحص والمعرفة:

الله لا يمتحن الإنسان بغرض فحصه ومعرفته؛ لأن الله يعرف قلب الإنسان، وكل أموره، إنما يمتحنه ليكشف له ضعفه، فيتضع ويطلب معونة الله؛ فيتنقى بنعمته كقول الكتاب: "كَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِالنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَجْدِ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ"(١بط١: 7).  

 ٢. بغرض التزكية:

يمتحن الله أحباءه بغرض إظهار أمانتهم، وإخلاصهم، ولكي يقيم منهم قدوة، ومثالًا للآخرين، كما حدث مع إبراهيم أب الآباء كقول الكتاب: "وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ:"يَا إِبْرَاهِيمُ!". فَقَالَ:"هأَنَذَا"(تك٢٢: 1).  

لقد صار امتحان الله لأبينا إبراهيم سبب كرامة، ورفعة عظيمة له كوعد الله الصادق القائل: "لِذلِكَ يَقُولُ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: ...أُكْرِمُ الَّذِينَ يُكْرِمُونَنِي، وَالَّذِينَ يَحْتَقِرُونَنِي يَصْغُرُونَ"(1صم2: 30).

٣. بغرض التأديب والتدريب والتقويم:  

إن طالب الدكتوراة في أحد فروع العلم يستعد قبل امتحانه بتحصيل المعرفة بطريقة أعمق، ولا يمكن أن يكتفي بالاستذكار فقط، بل يبحث ويدقق ويختبر في المعمل، وبالطبع يكتسب من خلال بذله، وتعبه الكثير من الخبرات القيمة النافعة له ولغيره، والضيقات أيضًا هي فرصة للتدريب على اكتساب الفضائل بنعمة الله.. لقد قيل عن الرب الله الظاهر في الجسد، والذي شابهنا في إنسانيتنا: "مَعَ كَوْنِهِ ابْنًا تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ"(عب٥: 8). حقًّا ما أعظم قول الكتاب عن منفعة التعب: "فِي كُلِّ تَعَبٍ مَنْفَعَةٌ، وَكَلاَمُ الشَّفَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى الْفَقْرِ"(أم١٤: 23).  

لقد أكد الوحي الإلهي ضرورة التغلب على الكثير من الضيقات للفوز بملكوت السماوات قائلًا: "يُشَدِّدَانِ أَنْفُسَ التَّلاَمِيذِ وَيَعِظَانِهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا فِي الإِيمَانِ، وَأَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ"(أع 14: ٢٢). إن مجموع ما يجتازه أولاد الله من المحن والضيقات، التي يسمح بها الله (الامتحانات أوالاختبارات) يحسبها الكتاب المقدس تدريبات، أو تأديبات محبة من الله لأبنائه المحبوبين، لأن غرضها في النهاية هو الفرح كقول الكتاب: "وَلكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ"(عب١٢: 11). وتأديب الله لأولاده ضرورة، لأنه واجب كل أب محب نحو أولاده كقول الكتاب: "إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟"(عب١٢: 7).

  • تطبيق عملي:

كان داود مدققًا في حياته الروحية، مجتهدًا في عمل ما يرضي الله، ولكن بالرغم من ذلك كان يخشى أن يكون في قلبه شر خفيٌ لا يعرفه؛ لذلك صلى لله قائلًا: "اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا"(مز١٣٩: 23 - ٢٤).

 الخلاصة:

الشيطان هو المُجَرِّب، الذي يضمر الشر للبشر، لأنه عدو الخير. أما الله فهو كلي الصلاح صانع الخيرات الرحوم، الذي لا يجرب أحدًا، ولكنه يسمح أحيانًا باختبار، أو امتحان أحبائه لتنقيتهم؛ حتى يتدربوا على الفضائل، وأحيانًا أخرى يكون ذلك بغرض إظهاره فضائلهم ليكونوا قدوة لغيرهم، وفي النهاية حتى يتأهلوا للمجد الأبدي.