علمنا الكتاب المقدس أن المحبة تبني، وأن انعدام المحبة، الذي هو الكراهية والعداوة ينتج عنه الانقسام والخراب. إن المحبة لها أشكال متعددة، نذكر منها الحب الأبوي، الذي يدفع الأب للتضحية بنفسه في سبيل العناية بابنه وتربيته وحب الصديق لصديقه، والذي يتميز بمشاركته لصديقه أفراحه وأحزانه وهكذا.... أما حب العريس لعروسه فهو من أسمى أنواع الحب. إن حب الله للنفس البشرية يشمل كل أنواع الحب لأنه هو الأب، وهو أيضًا الصديق الألصق من الأخ، وهو العريس لكل نفس. فيما يلي نشرح أسباب تشبيه علاقة الله بالنفس البشرية بعلاقة العريس بعروسه.

أولًا: الحب الزيجي:

أعلن الوحي الإلهي أن محبة الله للنفس واتحاده بها هي على مثال حب العريس لعروسه. وقد أكد الوحي من خلال هذا النمط المعروف لكل البشر إرادة الله المقدسة في الاتحاد والاقتران بنا في حب عجيب. وُصِف الرب في مواضع كثيرة في الكتاب المقدس بالعريس، ووُصِفت النفس أو الكنيسة أيضًا بالعروس.

لقد رفض يوحنا المعمدان بحزم ظن البعض أنه المسيح الآتي للعالم، وأعلن المعمدان أن الرب يسوع هو المسيح، لأنه هو العريس قائلًا عنه: "مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ" (يو٣: ٢٩). وقد أكد الرسول العظيم بولس أن الرب يسوع أيضًا هو العريس الحقيقي لكل نفس بقوله: "فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ" (٢كو١١: ٢).

  • لماذا الحب الزيجي بالذات:

الحب الزيجي هو نوع فريد من الحب، وهو يختلف عن كل أنواع الحب الأخرى، ففي الحب الأبوي يبذل الأب ويضحي، والابن يتلقى، ويظل الأب يبذل دون انتظار لمقابل. أما الحب الزيجي ففيه ارتباط المصائر بعضها ببعض. يترك كل من العريس وعروسه أهلهما ليلتصقا ببعضهما، يدخلان معًا في علاقة سرية لا يشترك فيها ثالث، ولا تنحل إلا بالموت. هو حب باذل من العريس، وخضوع وإخلاص من العروس. كل من الاثنين يُملّك الآخر نفسه بفرح، ويكرس قلبه واهتمامه للآخر. أما إن حدث، واهتم أحد الطرفين بطرف آخر غريب فيحسب ذلك خيانة.

ثانيًا: العريس السماوي:

  • عطش لا يرويه أحد، إلا العريس السماوي:

لقد خلق الله النفس البشرية في ظمأ داخلي دائم لشيء قد لا تعرفه، وقد تحاول النفس أن تروي ذلك العطش بالحصول على أمور مادية ظنًا منها أن ذلك يسعدها، ولكن النفس يخيب رجاءها عندما تكتشف أن كل ما في العالم لا يروي عطشها. لقد شهد سليمان الحكيم بذلك قائلًا: "ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ، وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ" (جا٢: ١١). وقد أكد الرب للسامرية أن الأمور المادية لا تروي نفسها العطشى، وأن سعادتها ليست في الشهوات، والطموحات المادية، التي يتخذ منها الناس هدفًا لحياتهم قائلًا لها: "أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: "كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا" (يو٤: ١٣).

  • معرفة العريس ماء حي يروي النفس، ويسعدها:

إن راحة كل نفس بشرية… فرحتها... سعادتها، بل، واستقرارها وسلامها لا يمكن أن يتحقق بعيدًا عن العريس السماوي الرب يسوع، وهذا ما أكده الرب بقوله: "وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (يو٤: ١٤). لقد أراد الرب يسوع أن يعطي السامرية ماء حي من بئر معرفة عظمته ومحبته الفائقة، التي تروي كل نفس، وتريحها، وبذلك تتحقق سعادتها، وتمتلئ نفسها سلامًا لا يمكن أن ينزعه منها شيئًا من هموم أو تقلبات هذا العالم.

  • عظمة الحب الإلهي:

الحب الإلهي متى تمكن من النفس يغنيها فلا تحتاج معه شيء كقول الكتاب: "مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ" (مز٧٣: ٢٥). لقد اغتنى الكثيرون بهذا الحب فهانت عليهم آلام ومتاعب وجهاد هذه الحياة، وقد ترك البعض منهم الأهل والأصحاب، وسكنوا في البراري والكهوف لينعموا برفقة مستمرة بالعريس السمائي في خلوة لا يعكر صفوها أحد.

  • مشاعر الحب الفياضة:

إن من يتذوق فيض نعمة معرفة الله الحلوة يستريح، ويسعد بالعريس السماوي، ويشتاق له أكثر فأكثر، وبالتالي يترك كل ما يعطله من اهتمامات باطلة، كما تركت المرأة السامرية جرتها. يصير المسيح العريس حياته كقول معلمنا بولس الرسول: "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ" (في١: ٢١)، بل يعيش باقي عمره لحساب الرب ومجده، ويوظف كل أمور حياته الزمنية لحساب مجد الله، وفقًا لمشيئته المقدسة. إن مثل هذه النفس تمتلئ بمشاعر الحب، وتفيض تسبيحًا وتمجيدًا لأسم الرب، فتغني بمشاعر الحب المقدس، كما تغنت عروس النشيد قائلًة: "لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ، لِذلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى" (نش١: ٣).

ثالثًا: هو سفر الحب:

  • السفر يعبر عن حب روحاني مقدس:

كتب القس أنطونيوس فكري عن قدسية الحب الزيجي قائلًا "إذ نتحدث عن "العرس" أو "الزواج" يليق بنا ألا نحبس أفكارنا في نطاق الجسد، فالزواج هو اتحاد سري داخلي عميق يحمل حبًا فوق حدود الجسديات... إن هذا عن الحياة الزوجية بين بني البشر، فماذا نقول عن الزوجية الروحية، التي فيها تقبل النفس ربها كعريس لها، يضمها إليه لتكون واحدًا معه.! ويكون لها معه خصوصية، لا يمكن أن يدركها أحد غير النفس والله."

  • العروس لها الطبيعة الروحانية:

مواصفات العروس بحسب ما جاء بالسفر مواصفات روحية، لا تنطبق على فتاة بعينها تتبادل مع حبيبها كلمات الغرام. فيما يلي ما يثبت ذلك:

١. ‌ من غير المنطقي أن تفتخر فتاة بأن العذارى يحبون عريسها، بينما كل عروس تريد أن تستأثر بحب عريسها (١: ٣).

٢ . ‌إن افترضنا جدلًا أن عروس النشيد تفتخر لأن العذارى يحبون عريسها، وهي قد أخذته منهن، لكن أليس من العجيب أن تقول "اجذبني وراءك فنجري" (١: ٤)، هل هي تريد الأخريات معه؟

٣. هل تطلب عروس من عريسها أن يقبلها شخص آخر؟ (١: ٢).

٤. هل تطلب عروس من صاحباتها يدخلن على عريسها ليوقظوه، وأحيانًا أخرى تطلب منهن ألا يوقظوه (٢: ٧)؟

  • الكثير من مواصفات العروس لا يصلح استخدامها لملاطفة فتاة:

السفر يحتوي على تعبيرات كثيرة لا تصلح إطلاقًا لوصف فتاة رقيقة، لكن هذه المواصفات تنطبق على الكنيسة أو النفس البشرية، لأنها لها مدلولات روحية معروفة، ومتفق عليها من دارسي الكتاب المقدس. فيما يلي نذكر بعض هذه التعبيرات على سبيل المثال:

  1. "شعرك كقطيع ماعز" (٤: ١)

الوصف غريب، ولا يليق بامرأة رقيقة، لكن الشعر في الكتاب المقدس يشير لشعب الله المترابط والملتصق بالرأس (الذي هو الله) في وحدة واحدة كما كما ذكر حزقيال النبي، الذي أمره الرب بحلق شعر لحيته ورأسه، وتقسيمه ثلاثة أجزاء، ثم حرقه للثلث الأول، وضرب الثلث الثاني بالسيف، وبعد ذلك يذري الثلث الأخير إلى الريح، ثم عاد النبي وفسر المثل قائلًا: "لأَجْلِ ذلِكَ تَأْكُلُ الآبَاءُ الأَبْنَاءَ فِي وَسْطِكِ، وَالأَبْنَاءُ يَأْكُلُونَ آبَاءَهُمْ. وَأُجْرِي فِيكِ أَحْكَامًا، وَأُذَرِّي بَقِيَّتَكِ كُلَّهَا فِي كُلِّ رِيحٍ" (حز٥: ١٠).

  1. أسنانك كقطيع جزائز (٤: ٢)؟!

الأسنان تشير لخدام الكنيسة، الذين يتغذون على الطعام الروحي الدسم، لأن الأسنان مسؤولة عن تغذية الإنسان، ومن ليس له أسنان فهو ضعيف يشرب اللبن. أما الأقوياء البالغين فيمكنهم التغذية على الأطعمة المغذية، التي تعطيهم قوة. قطيع الجزائر هو القطيع الذي جز صوفه وغسل، وهذا يشير لنقاوة وتوبة هؤلاء الخدام، التي هي سبب قوتهم ونموهم، وهذا يتفق مع قول الكتاب: "وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً ..." (عب٥: ١٤).

  1. عنقك كبرج داود المبني للأسلحة" (٤: ٤)؟!

لا يمكننا أن نتخيل كيف ينطبق هذا الوصف على فتاة، لكنه ينطبق على الكنيسة، التي عنقها هو إيمانها المستقيم، والتي هي مستعدة للتمسك به، والدفاع عنه حتى الدم ضد قوات الجحيم.

  1. "أنت مرهبة كجيش بألوية" (٦: ٤)؟!

وصف فتاة بأنها مرهبة إهانة لها، لكن هذا الوصف ينطبق على الكنيسة التي قيل عنها: "وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا" (مت١٦: ١٨).

  1. "أنفك كبرج لبنان" (٧: ٤)؟!

لو أخذ الوصف بطريقة حرفية يحسب نوع من الاستهزاء على من توصف به، لكن الوصف ينطبق على الكنيسة، لأنها تمتلك حاسة التمييز بين المسيح الذي له الرائحة الزكية وبين العالم الذي له رائحة الخطية النتنة. لقد أكد الكتاب ذلك المفهوم الروحي بقوله: "... الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ" (عب٥: ١٤). أما انتمائها لبرج لبنان فهو يشير إلى اعتزازها بالله، الذي تنتمي إليه، وهو برج عظيم للنفس كقول الكتاب: "لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي، بُرْجَ قُوَّةٍ مِنْ وَجْهِ الْعَدُوِّ" (مز٦١: ٣).01

 

رابعًا: أهمية دراسة السفر:

يمكننا العبور إلى الأبدية من خلال التمتع بمشاعر الحب السماوي الذي يذخر به السفر، إذ أن السفر يحوي حوارًا بين المسيا العريس وكنيسته الجامعة الرسولية العروس. يكشف هذا الحوار الروحي عن الحب المشترك من الجانبين: الله والإنسان، ويكشف أيضًا عن البحث المشترك من جانب كل منهما نحو الآخر، وينتهي بالراحة الحقيقية خلال الملكية المشتركة، التي يقدمها كل منهما للآخر. إنه من الأهمية أن ندرك عن هذا السفر ما يلي:

  • نشيد الأنشاد هو أغنية كل نفس:

ما قدمه العريس لعروسه (شولميت) يقدمه المسيح العريس السماوي لكل نفس من النفوس المحبوبة له، إن النفس، التي تعرفت أو تنسمت حب المسيح الرب، وجوده تغني، وترتل، وتسبح فرحًة مع عروس النشيد؛ فيصبح هذا السفر أغنيتها الخاصة بها، لا أغنية شولميت وحدها. لقد علمتنا الكنيسة أن ما تتغنى به هنا في أرض غربتنا، لن نكف عن التغني به في السما أيضًا، وعلى سبيل المثال يذكر سفر الرؤيا أننا لن نتوقف عن التغني بتسبحة موسى النبي في الأبدية قائلًا: "وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ: "عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَق هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ!" (رؤ١٥: ٣).

  • التغني بحب المسيح هو سند للنفس:

إن التغني بمحبة العريس الفائقة المعرفة بحسب وصف معلمنا بولس الرسول: "وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ" (أف٣: ١٩). يعني قبول حبه، وتكريس القلب له، وهو سبب فرح النفس وسعادتها. إنه الماء، الذي يروي النفس كما روى السامرية سلامًا وفرحًا وسعادة. لقد صدقت عروس النشيد في قولها: "لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ، لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ، لِذلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى. (نش١: ٢- ٣). إن هذا السفر الغني بمشاعر الحب لازم للنفس، لأنها فيما هي تتغنى به تتذكر محبة المسيح فترتوي، وتُصير حبه لها سندا يُمكِّنها من النصرة والغلبة، فتصل إلى السماء ظافرة كقوله:"مَنْ هذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا؟" (نش٨: ٥).