الإصحاح العاشر

 

 فى هذا الإصحاح نجد أيوب يشكو ويشكو. ويقول أنا لا أستطيع أن أكتم الثورة التي فى داخلي، وهو يشكو من الله. وينهي كلامه بأنه يتمني الموت الذي فيه راحته.

 

الأيات (1-7):-"  1«قَدْ كَرِهَتْ نَفْسِي حَيَاتِي. أُسَيِّبُ شَكْوَايَ. أَتَكَلَّمُ فِي مَرَارَةِ نَفْسِي 2قَائِلاً ِللهِ: لاَ تَسْتَذْنِبْنِي. فَهِّمْنِي لِمَاذَا تُخَاصِمُنِي! 3أَحَسَنٌ عِنْدَكَ أَنْ تَظْلِمَ، أَنْ تُرْذِلَ عَمَلَ يَدَيْكَ، وَتُشْرِقَ عَلَى مَشُورَةِ الأَشْرَارِ؟ 4أَلَكَ عَيْنَا بَشَرٍ، أَمْ كَنَظَرِ الإِنْسَانِ تَنْظُرُ؟ 5أَأَيَّامُكَ كَأَيَّامِ الإِنْسَانِ، أَمْ سِنُوكَ كَأَيَّامِ الرَّجُلِ، 6حَتَّى تَبْحَثَ عَنْ إِثْمِي وَتُفَتِّشَ عَلَى خَطِيَّتِي؟ 7فِي عِلْمِكَ أَنِّي لَسْتُ مُذْنِبًا، وَلاَ مُنْقِذَ مِنْ يَدِكَ."

 قد كرهت نفسى حياتي= مللت من هذا الجسد، وعجزت عن أن أتخلص منه ولقد سئمت وكرهت حياتي وتمنيت الموت. أسيب شكواي= يخطئ المتألم حين يظن أن الشكوي تريحه، بل هي تثير بالأكثر عواطفه الثائرة. ولكن من الحكمة في ساعة التجربة أن نصمت ونستسلم ونطلب العزاء والصبر من الله، حينئذ فقط سنهدأ. لا تستذنبني= لا تحكم بأنني مدان. وتوسل إلي الله لكى يعرفه السبب الحقيقي لنكباته= فهمني لماذا تخاصمني. ولنلاحظ أن الشكوي تقود الإنسان للتذمر علي الله وعلي أحكامه، وإذا تمادي الإنسان فيها تكون هناك غوآية لأن يخطئ في حق الله ونجد هنا كلمة صعبة من أيوب في حق الله، أقل ما يقال عنها أنها وقحة. حقاً هو يتكلم بمرارة نفس، لكنه لأنه سمح لنفسه بأن يتمادي في الشكوي نزل إلي هذا المستوي فقال أحسن عندك أن تظلم= أي هل تنتفع من ظلمي. وتشرق علي مشورة الأشرار= أي توافق وتبارك طرق الأشرار بينما تظلمني أنا البرئ الكامل. وسيأتي اليوم الذي نفهم فيه حكمة الله ولماذا سمح بكل ما كان يؤلمنا يوماً ما.

ألك عينا بشر= أيوب تصور أن الله يزيد أيام عذابه حتي يفتش عن إثمه. هذا قد يحدث مع البشر، فإذا كان هناك شك في مجرم يوضع في السجن ويعذبونه حتي يعترف فالبشر لا يعرفون أعماق الإنسان المجرم ويكونون مضطرين لإستخراج ما في داخله بالتعذيب ولمدة طويلة حتي يعترف. وعلي العكس فالله فاحص القلوب والكلي ولا يحتاج لهذا. وأيوب يتساءل هل لك عينا إنسان حتي تعذبني كسجين عندك.

أأيامك كأيام الإنسان= هل أيامك محدودة كالناس لذلك تسرع وتعاقب عن كل ذنب إكتشفته فيَ، قبل أن يكون لك وقت لتتحقق وتمتحن القضية بالتمام.

حتي تبحث عن إثمي= أيوب يعتقد أنه غريب علي الله أن يطيل تعذيبه ويبقيه رازحاً تحت نكبته، ليبحث عن إثمه. بينما أن الله يعرف أنه برئ= في علمك أني لست مذنباً. ومع هذا يعذبه ولا فائدة ترجى من تدخل إنسان أو ملاك= ولا منقذ من يدك

 

الأيات (8-13):-" 8«يَدَاكَ كَوَّنَتَانِي وَصَنَعَتَانِي كُلِّي جَمِيعًا، أَفَتَبْتَلِعُنِي؟ 9اُذْكُرْ أَنَّكَ جَبَلْتَنِي كَالطِّينِ، أَفَتُعِيدُنِي إِلَى التُّرَابِ؟ 10أَلَمْ تَصُبَّنِي كَاللَّبَنِ، وَخَثَّرْتَنِي كَالْجُبْنِ؟ 11كَسَوْتَنِي جِلْدًا وَلَحْمًا، فَنَسَجْتَنِي بِعِظَامٍ وَعَصَبٍ. 12مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً، وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي. 13لكِنَّكَ كَتَمْتَ هذِهِ فِي قَلْبِكَ. عَلِمْتُ أَنَّ هذَا عِنْدَكَ: "

 هنا أيوب يتأمل فى محبة الله وعنايته ورعايته له والتى ظهرت فى خلقته على أكمل صورة، فهو خلق بصورة إنسان رائع. ثم يتساءل أيوب هل بعد ما صنعت كل هذا الجمال تعود وتحطمه. يداك كونتانى= أنت يارب خلقتنى كلى أى كل عضو فى جسدى وخلقت روحى ونفسى. وقد جبلتنى كالطين. ثم يصف تشكيله ألم تصبنى كاللبن وخثرتنى كالجبن= فى صناعة الجبن يبدأ الجبن يتخثر أى يأخذ شكل الجبن الصلب من وسط اللبن السائل. والطفل أولاً يكون مجموعة من السوائل وتبدأ تأخذ شكلاً واضحاً. والله يحفظ الطفل الصغير ويعتنى به حتى لا يهلك حفظت عنايتك روحى= أى حفظتنى حياً من كل الأخطار. أذكر أنك جبلتنى هنا أيوب يستدر شفقه الله ويذكره بعمله السابق ومراحمه التى جبلته ثم حفظته ويتساءل أبعد هذا. اتعيدنى للتراب= أى تميتنى.

ولم يستطع أيوب أن يوفق بين إحسانات الله السابقة ومتاعبه الحاليه فتصور أن الله كان يعد له هذه المصائب وخبأها عليه ثم فاجأه بها= لكنك كتمت هذه فى قلبك. علمت أن هذا عندك= علمت أن هذا كان قصدك منذ البدآية.

 

الأيات (14-17):-" 14إِنْ أَخْطَأْتُ تُلاَحِظُنِي وَلاَ تُبْرِئُنِي مِنْ إِثْمِي. 15إِنْ أَذْنَبْتُ فَوَيْلٌ لِي، وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أَرْفَعُ رَأْسِي. إِنِّي شَبْعَانُ هَوَانًا وَنَاظِرٌ مَذَلَّتِي. 16وَإِنِ ارْتَفَعَ تَصْطَادُنِي كَأَسَدٍ، ثُمَّ تَعُودُ وَتَتَجَبَّرُ عَلَيَّ. 17تُجَدِّدُ شُهُودَكَ تُجَاهِي، وَتَزِيدُ غَضَبَكَ عَلَيَّ. نُوبٌ وَجَيْشٌ ضِدِّي."

 فى آية13 قال علمت أن هذا عندك= بمعنى أن قصدك منذ البدآية أن تضعنى تحت المراقبة، وتنتظر حتى أخطئ ويبدأ عقابك، ولا تبرئنى من إثمى وهذا ما شرحه هنا إذ صوَر نفسه كعصفور مسكين وقع فى يد أسد فأى رعب يصيب هذه الفريسة المسكينة. إن أخطأت تلاحظنى= الله يضعه تحت المراقبة بدقة وقسوة ويراقب كل أخطائه ثم يجازيه عليها. ولا تبرئنى من إثمى= طالما أن الآلام والمتاعب لم تنتهى فهو يفهم هذا بأن الله لم يبرئه من إثمه. إن أذنبت فويل لى وإن تبررت لا أرفع رأسى= أى أنا مؤمن بأننى إن أذنبت لابد أن أعاقب فالشرير لابد له من عقاب، والأن بعد ما حدث لى فأنا أقول أنه حتى ولو كنت باراً، وأنا أرى أننى بار، فهذا لا يعفينى من غضب الله علىَ، لأنه هاهو يصب غضبه علىَ حتى أصبحت غير قادر أن أرفع رأسى وها إنى شبعان هواناً.

 وإن إرتفع رأسي، أي حاولتأك أن أهرب من ألامي فأنت تصطادني كأسد. هنا يصور الله كأسد مفترس يصطاد فريسته ليعذبها ثم يلتهمها. ثم تعود وتتجبر علي= فهو يري أن آلامه غير عادية. تجدد شهودك تجاهي= ربما الشهود هي آلامه ومصائبه فهي علامات غضب الله عليه وهكذا فهم أصحابه، وقوله تجدد = أي آلام وراء آلام تأتي عليَ كموجات البحر المتلاحقة. لذلك قال عنها نُوَب وجيش ضدي نوب أي نوبات والمعني جيوشك التي أرسلتها لتعذبني تتناوب ضدي. كأن الله في معركة ضده.

 

الأيات (18-22):-" 18«فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنِي مِنَ الرَّحِمِ؟ كُنْتُ قَدْ أَسْلَمْتُ الرُّوحَ وَلَمْ تَرَنِي عَيْنٌ! 19فَكُنْتُ كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ، فَأُقَادَ مِنَ الرَّحِمِ إِلَى الْقَبْرِ. 20أَلَيْسَتْ أَيَّامِي قَلِيلَةً؟ اتْرُكْ! كُفَّ عَنِّي فَأَتَبَلَّجَ قَلِيلاً، 21قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ وَلاَ أَعُودَ. إِلَى أَرْضِ ظُلْمَةٍ وَظِلِّ الْمَوْتِ، 22أَرْضِ ظَلاَمٍ مِثْلِ دُجَى ظِلِّ الْمَوْتِ وَبِلاَ تَرْتِيبٍ، وَإِشْرَاقُهَا كَالدُّجَى»."

 عاد هنا أيوب لما قاله سابقاً أنه يفضل الموت أو أنه من الأفضل لو لم يولد أصلاً= فلماذا أخرجتني من الرحم. ثم يطلب من الله أن يريحه قليلاً من أتعابه ولكن يقولها بأسلوب صعب كف عني فأتبلج= أي أرتاح. [ونحن في أيام راحتنا علينا أن نشكر الله كثيراً أننا لا نتألم مثل غيرنا]. وهو يتضرع إلي الله أن يعطيه بعض الراحة قبل أن يموت خصوصاً أن ما بقي له من أيام قليل قبل الموت. ونري هنا ان فكرة القدماء عن الموت كلها غموض، فهو مكان ظلام. أرض ظلام مثل دجي ظل الموت. ولكنهم كانوا يعلمون أن هناك مكان للأبرار ومكان أخر للأشرار ولكن كلاهما ظلام. وبلا ترتيب وإشراقها كالدجي= أي حتي نورها ظلام لذلك كان القدماء يخافون الموت. وبعد ذلك إرتقي فكر اليهود وكان الفريسيين يؤمنون بأن هناك قيامة، أما الصدوقيين فأنكروا القيامة. وقوله بلا ترتيب يعني أن هناك لا إعتبار لملك أو رئيس بل هو كالعبد، لا تمييز بين درجات الناس. وكانوا يعتقدون أن في وادي ظل الموت لا يوجد تسبيح لله (مز 9:30) وهو بلا ترتيب فهو ليل دائم وبلا أشراق، وحيث الظلام المستمر فهناك تخبط.