المزمور الثاني والأربعون

 

يتفق كثير من الدارسين أن داود هو كاتب المزمور حين كان منفياً عن الهيكل في فترة شاول أو إبشالوم، وكان يعبر في المزمور عن اشتياقاته للعودة. وبعد عودته سلَّم المزمور إلى بني قورح لتلحينه وإنشاده. وأصحاب هذا الرأي يدللون بأن المتكلم هنا بصيغة المفرد ولو كان بنو قورح هم الذين الفوه لاستخدموا صيغة الجمع. والمزمور أتخذ كنبوة عن حال المسبيين في بابل واشتياقهم للرجوع. والأهم هو نبوة عن اشتياق البشرية المسبية تحت عبودية إبليس للخلاص والرجوع للوطن الجديد (الكنيسة) مجتازة مياه المعمودية= جداول المياه. مشتاقة أيضاً للإمتلاء من الروح القدس المعزي (يو38:7،39) وأيضاً المزمور هو صرخة من شعب العهد القديم فيها تعبير عن عطشهم لرؤية المخلص. عموماً كل نفس مازالت مستعبدة للخطية تقول مع المرنم "نفسي منحنية فيّ" فإن قدمت توبة بدموع صارت لي دموعي خبزاً= يعود لها الاشتياق إلى الله. وتقول عطشت نفسي إلى الله. والمسيح يجيب "إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب" (يو37:7) ويقول طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون (مت6:5)

هذا المزمور بكلماته الرقيقة يشعل اشتياقات المؤمن إلى الله، نجد فيه رجاءً ونجد فيه مخاوف، نجد فيه نغمة فرح ونغمة حزن وأسى. هنا صراع بين نوعين من المشاعر، مشاعر الإيمان والرجاء والاشتياق إلى الله، والمشاعر الإنسانية المتألمة من واقعها الخاطئ الذي دنسته شهواتها وتقصيراتها. وكأن كلمات المزمور نجد فيها حواراً بين النوعين من المشاعر.

 

الآيات (1-2):- "1كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. 2عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ ؟"

هنا صوت الرجاء والإيمان والاشتياق لله. فكما تشتاق الأيل في براري فلسطين الجافة الحارة لموسم امتلاء الجداول بالماء في فصول المطر، هكذا يشتاق المؤمن في برية هذا العالم لعطايا وتعزيات الروح القدس (كلمة الله والأسرار المقدسة). ولاحظ أن الأيل سريعة العدو وهكذا ينبغي أن يسرع المؤمن في طريق الله. ومن طبيعة الأيل أنها تجتذب الحيات لتخرج من جحورها عن طريق أنفاسها الخارجة من منخارها، وإذا خرجت تقتلها وتمزقها إرباً ومع ذلك فإذا ما سرى السم الخارج من الحيات في الأيائل يلهب جوفها فإنه وأن لم يقتلها لكنه يجعلها في حالة ظمأ محرق فتشتاق إلى جداول مياه صافية لتطفئ نيران السم الذي سبب لها عطشاً. (الحيات رمز للشياطين) وعلينا أن ندمر وندوس خطايانا لنرتوي من أبار مياه الروح القدس بعد أن نشعر بالعطش (أر13:2). عطشت نفسي إلى الله. النفس التائبة تدرك أنه لا حياة لها ولا تعزية إلا بان تتقابل مع الله الحي فتشتاق لهذا اللقاء. وهو اشتياق النفوس الآن لمجيء المسيح الثاني لنراه وجهاً لوجه.

 

الآيات (3-4):- "3صَارَتْ لِي دُمُوعِي خُبْزًا نَهَارًا وَلَيْلاً إِذْ قِيلَ لِي كُلَّ يَوْمٍ: «أَيْنَ إِلهُكَ؟ ». 4هذِهِ أَذْكُرُهَا فَأَسْكُبُ نَفْسِي عَلَيَّ: لأَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ مَعَ الْجُمَّاعِ، أَتَدَرَّجُ مَعَهُمْ إِلَى بَيْتِ اللهِ بِصَوْتِ تَرَنُّمٍ وَحَمْدٍ، جُمْهُورٌ مُعَيِّدٌ."

هنا صوت الألم من الوضع الحالي، وبالذات حين تقارن النفس حالتها وهي في العبودية وحالتها السابقة حينما كانت تتمتع مع الله، تقف أمامه في الهيكل. فالآن بسبب خطاياها صارت دموعها خبز النهار والليل. ولماذا قال دُمُوعِي صَارَتْ لِي خُبْزًا ولم يقل صارت لي شراب. لأن الخبز بدون شراب يزيد من حالة العطش. ونجد المرنم يبكي الليل والنهار ليعود إلى الله. والنهار يشير لأيام الفرج والليل يشير لأيام التجارب. وما زاد من ألام المرنم سخرية الأعداء منه قائلين " أَيْنَ هو إِلهُكَ " فهم يحاولون تحطيم رجاؤه في الله كأن الله تركه وتخلي عنه . هذِهِ أَذْكُرُهَا فَأَسْكُبُ نَفْسِي عَلَيَّ = ما هذا الذي يذكره؟ بقية الآية تشرح أنه يتذكر أيام ظهوره وسط الجماعة في العبادة وإحسانات الله عليه فينسكب أمام الله طالباً أن يعيد عليه هذه الإحسانات، هو لا يشغل نفسه بإهانات العدو، بل ينشغل بذكريات وخبرات الله معه في أيامه السابقة ليجدد رجاؤه. ولاحظ قوله جُمْهُورٌ مُعَيِّدٌ = فما يجدد الرجاء أيام الأفراح (الأعياد) السابقة. أيام الفرح السابقة هي سند لنا في الوقت الحاضر المؤلم.

 

آية (5):- "5لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ ارْتَجِي اللهَ، لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، لأَجْلِ خَلاَصِ وَجْهِهِ."

حين ذكر إحسانات الله، عادت نغمة الرجاء والإيمان فتساءل لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ

يَا نَفْسِي ؟

 

الآيات (6-7):- "6يَا إِلهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ، لِذلِكَ أَذْكُرُكَ مِنْ أَرْضِ الأُرْدُنِّ وَجِبَالِ حَرْمُونَ، مِنْ جَبَلِ مِصْعَرَ. 7غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا عِنْدَ صَوْتِ مَيَازِيبِكَ. كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ."

يعود هنا للشكوى من آلامه الحاضرة والتجارب المحيطة به. فهو قد طرد من أورشليم واضطهدوه فهرب إلى الأردن الأُرْدُنِّ (وادي الأردن المنخفض) ومنطقة جِبَالِ حَرْمُونَ= مِنْ جَبَلِ مِصْعَرَ = وهذه تعني التل المنخفض. ومن أماكن تغربه كانت عينيه دائماً تنظران لأورشليم العالية = أَذْكُرُكَ مِنْ أَرْضِ الأُرْدُنِّ. ونحن يمكننا من أي مكان وفي كل زمان أن تتجه عيوننا إلى الله، إلى أورشليم السماوية. في كل ذلنا وتواضعنا وانخفاض مستوانا (وادي الأردن وجبل مصعر) يمكننا أن ننظر للسماء (أورشليم السماوية) وشكواه هنا من ان نفسه منحنية راجع لتغربه بعيداً عن الله. وفي بعده عن الله تعرَّض لآلام وتجارب فاضت عليه غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا = أي تجربة تفيض علىّ لتغرقني وراءها تجربة أخرى وهكذا. وعموماً فمن حكمة الله يسمح لنا بأن نجتاز هذه التجارب فتنخفض كبرياؤنا ونصير كمن هم في وادي منخفض (الأردن) أو تل منخفض (يصعر). وإذا تواضعنا نرفع عيوننا لأورشليم السماوية إلى الله فنجد الاستجابة. جِبَلِ حَرْمُونَ جبل عالٍ جداً وجَبَلِ مِصْعَرَ جبل منخفض. فجبل حرمون جبل عالٍ، فهو في آلامه تنخفض كبرياؤه، ولكن ما يعزيه أنه يعود ويذكر علاقته الحلوة السابقة مع الله التي جعلته يتذوق السماويات التي يشير لها علو جبل حرمون، وقمة هذا الجبل ثلجية تشير لبره السابق. وهذا هو مفهوم التواضع الصحيح إنسحاق مع رجاء في مراحم الله أن يعيده لهذه العشرة السماوية. ولكن لاحظ أنه يذكر جبل حرمون أولاً ويعود ويذكر جبل مصعر المنخفض في تواضع والمعنى أنه يقول لقد إنخفض مستواي.

 

آية (8):- "8بِالنَّهَارِ يُوصِي الرَّبُّ رَحْمَتَهُ، وَبِاللَّيْلِ تَسْبِيحُهُ عِنْدِي صَلاَةٌ لإِلهِ حَيَاتِي."

صوت الإيمان والرجاء نتيجة رفع القلب لله. فنجد هنا رجاء ينير قلبه بأن نهار الخلاص لابد وسيشرق ويأتي معه ليل الراحة والتسبيح

 

الآيات (9-10):- "9أَقُولُ ِللهِ صَخْرَتِي: «لِمَاذَا نَسِيتَنِي؟ لِمَاذَا أَذْهَبُ حَزِينًا مِنْ مُضَايَقَةِ الْعَدُوِّ؟ ». 10بِسَحْق فِي عِظَامِي عَيَّرَنِي مُضَايِقِيَّ، بِقَوْلِهِمْ لِي كُلَّ يَوْمٍ: «أَيْنَ إِلهُكَ؟ »."

طالما الإنسان على الأرض، فالآلام لن تنتهي، والصراخ لن يبطل. والإنسان في حزنه يتصور أن الله قد نسيه. وهنا نعود لصوت الشكوى. أَيْنَ إِلهُكَ = هذا هو صوت اليأس الذي يضعه إبليس في أذاننا أن الله تخلى عنا، وهنا فداود يسمع هذا الصوت من الذين يستخدمهم ابليس  = مُضَايِقِيَّ . وهذا سبب لداود سحق في عظامه.

 

آية (11):- "11لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ تَرَجَّيِ اللهَ، لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، خَلاَصَ وَجْهِي وَإِلهِي."

المزمور ينتهي بالرجاء ونغمة الرجاء تعود ثانية.

ملحوظة: مز(43) يعتبر تكملة لهذا المزمور لذلك ينتهي بنفس الشكوى "لماذا أنت منحنية يا نفسي".