الإصحاح الرابع

 

في تأملات سليمان في هذا الإصحاح نراه يصل للنتيجة التي يريد إثباتها وهي بطلان هذا العالم، بعدة طرق، فالفقراء مظلومون والأغنياء محسودون من الكسالى الذين لا يعملون ومن يجمع المال لا يشبع منه، وهو تعيس إذ لا يعرف لمن يترك ما قد جمعه. ومن يتسلط أي يملك لا يثبت في سلطته بل إذا ملك غيره ينفض عنه شعبه ويلتفوا حول الملك الجديد.

 

الآيات (1-3):- "1ثُمَّ رَجَعْتُ وَرَأَيْتُ كُلَّ الْمَظَالِمِ الَّتِي تُجْرَى تَحْتَ الشَّمْسِ: فَهُوَذَا دُمُوعُ الْمَظْلُومِينَ وَلاَ مُعَزّ لَهُمْ، وَمِنْ يَدِ ظَالِمِيهِمْ قَهْرٌ، أَمَّا هُمْ فَلاَ مُعَزّ لَهُمْ. 2فَغَبَطْتُ أَنَا الأَمْوَاتَ الَّذِينَ قَدْ مَاتُوا مُنْذُ زَمَانٍ أَكْثَرَ مِنَ الأَحْيَاءِ الَّذِينَ هُمْ عَائِشُونَ بَعْدُ. 3وَخَيْرٌ مِنْ كِلَيْهِمَا الَّذِي لَمْ يُولَدْ بَعْدُ، الَّذِي لَمْ يَرَ الْعَمَلَ الرَّدِيءَ الَّذِي عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ."

المظالم منتشرة تحت الشمس، لأن فوق الشمس بر وعدل. لا مُعزٍ لهم= خوفاً من الظالمين لا يُساند أحد المظلومين ولا يجرؤ أحد على الوقوف بجانبهم. ومن يد ظالميهم قهر= في يد ظالميهم قوة وسلطان. والجامعة يرى أن هذا الظلم دليل بطلان العالم. وهذه الآيات هنا تكشف رقة مشاعر الجامعة، فهو إذ رأى دموع المظلومين، اشتهى الموت عن رؤيته للظلم والسقط الذي لا يولد بل يموت كجنين في أحشاء أمه هو أكثر غبطة من الكل. لأنه لم ير العمل الردئ الذي عمل تحت الشمس أي الظلم المتفشي والأثام التي ترتكب.

 

آية (4):- "4وَرَأَيْتُ كُلَّ التَّعَبِ وَكُلَّ فَلاَحِ عَمَل أَنَّهُ حَسَدُ الإِنْسَانِ مِنْ قَرِيبِهِ. وَهذَا أَيْضًا بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ. "

نرى هنا حالة إنسان ينجح ويفلح ولكن دوافعه للعمل والجد هي حسده الآخرين على نجاحهم فإذ يراهم ناجحين ويمتلكون يحسدهم ويعمل ليمتلك مثلهم، وهذا يعيش بلا سلام داخلي بل هو بحسده للآخرين يمرر حياته بل ربما يمرض ويتألّم وهذا باطل وقبض الريح، فهو لم ينتفع بما امتلك. وهذا نجده في الكتاب المقدس في حسد قايين لهابيل وشاول لداود. لذلك فعلى كل من يصيبه الفلاح= النجاح أن لا يندهش من حسد الآخرين وضيقهم منه فهذا هو طبع الإنسان الخاطئ. وعوضاً عن أن ننظر لنجاح الآخرين فنحسدهم ، ننظر لله فنشكره على ما أعطانا.

 

آية (5):- "5اَلْكَسْلاَنُ يَأْكُلُ لَحْمَهُ وَهُوَ طَاوٍ يَدَيْهِ. "

نرى هنا صورة مثيرة للحزن، الكسلان الذي بسبب كسله لا يعمل ولا يملك شئ ولكنه يحسد من يملك وحسده يكون كسوسة تنخر في أعماق قلبه، وتعمل فيه كما يعمل الصدأ بالحديد= الكسلان يأكل لحمه. وهو طاوٍ يديه= أي لا يعمل.

 

آية (6):- "6حُفْنَةُ رَاحَةٍ خَيْرٌ مِنْ حُفْنَتَيْ تَعَبٍ وَقَبْضِ الرِّيحِ."

هنا دعوة للاعتدال في كل شئ، أن نعمل بلا كسل ونعمل بلا طمع ولا حسد فنحيا في راحة وفي سلام. فمن يندفع للعمل مدفوعاً بجنون الحسد ليملك كغيره يفقد سلامه، وهذا أفضل له أن يعمل باعتدال ويعطي لنفسه راحة ولقلبه سلام، عوضاً أن يعمل بجنون وبلا راحة فيجني قبض الريح.

 

الآيات (7-8):- "7ثُمَّ عُدْتُ وَرَأَيْتُ بَاطِلاً تَحْتَ الشَّمْسِ: 8يُوجَدُ وَاحِدٌ وَلاَ ثَانِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ وَلاَ أَخٌ، وَلاَ نِهَايَةَ لِكُلِّ تَعَبِهِ، وَلاَ تَشْبَعُ عَيْنُهُ مِنَ الْغِنَى. فَلِمَنْ أَتْعَبُ أَنَا وَأُحَرِّمُ نَفْسِي الْخَيْرَ؟ هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ وَأَمْرٌ رَدِيءٌ هُوَ. "

نجد هنا صورة أخرى محزنة لإنسان لم يدرك أن العالم باطل، فإندفع في طمعه وإنعزل عن العالم في أنانية وترك أصحابه وإخوته ليجمع الكثير، بل لم يمتع نفسه بما يملك، بل هو يكنز ولا يشبع مما يكنزه ولا يريد أن يشرك أحد فيما يملك، بل هو يريد أن لا يرثه أحد. هو حرم نفسه وحرم من حوله من الحياة، مثل هذا هل يظن أنه يحيا للأبد، فليعلم أن العالم باطل أي سينتهي، هو وهم لن يستمر للأبد، بل هو سيترك كل شئ ويمضى. هنا الجامعة يحث كل أحد على حياة الشركة والمحبة والصداقة العملية الفعالة بدلاً من الحسد والظلم واكتناز المال.

 

الآيات (9-12):- "9اِثْنَانِ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدٍ، لأَنَّ لَهُمَا أُجْرَةً لِتَعَبِهِمَا صَالِحَةً. 10لأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا يُقِيمُهُ رَفِيقُهُ. وَوَيْلٌ لِمَنْ هُوَ وَحْدَهُ إِنْ وَقَعَ، إِذْ لَيْسَ ثَانٍ لِيُقِيمَهُ. 11أَيْضًا إِنِ اضْطَجَعَ اثْنَانِ يَكُونُ لَهُمَا دِفْءٌ، أَمَّا الْوَحْدُ فَكَيْفَ يَدْفَأُ؟ 12وَإِنْ غَلَبَ أَحَدٌ عَلَى الْوَاحِدِ يَقِفُ مُقَابَلَهُ الاثْنَانِ، وَالْخَيْطُ الْمَثْلُوثُ لاَ يَنْقَطِعُ سَرِيعًا."

هي دعوة أخرى واضحة وصريحة لحياة الشركة والمحبة، والصداقة الحلوة مثل التي كانت بين داود ويوناثان، فمن أسنده اليوم يسندني غداً، ومن أدعوه اليوم للتوبة وأشدده سيدعوني غداً ويشددني فالطريق صعب ويحتاج تشجيع. لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة= فكل خدمة يتممانها لبعضهما تعود على كليهما بالنفع. فالصداقة مفيدة والحياة الاجتماعية مفيدة. ولكن لها كلفة، قد تكون مادية أو معنوية أو خدمات ولكنها سترد حتماً. وبنفس المفهوم نرى أن هذه الآيات هي دعوة للزواج كصورة من صور الحياة الاجتماعية وهذا ما قاله الله "ليس جيداً أن يكون الإنسان (آدم) وحده فأصنع له معيناً نظيره (تك18:2) فالحياة تعاون على مستوى البيت (زوج وزوجة وأولاد) وعلى مستوى الأسرة (الأخوة والأقارب) وعلى مستوى الأصدقاء وعلى مستوى كل المجتمع. وويل لمن هو وحده إن وقع إذ ليس ثانٍ ليقيمه= فمن هو وحده في الطريق يتعرض لأخطار يستطيع أصدقاؤه إن وُجِدوا أن ينقذوه منها. فالمسافران في طريق خيرٌ من مسافر واحد، لأنه إن وقع واحد يقيمه الآخر. وهكذا في رحلة حياتنا الروحية، إن عثر أحدنا روحياً يسنده رفيقه ويصلي لأجله، وإن قابله أحزان يقف بجانبه يسانده ويعزيه. إن اضطجع أثنان يكون لهما دفء= ربما يقصد بالاثنان المسافران في مناطق صحراوية باردة، أو يقصد الحياة الزوجية أو يشير عموماً لدفئ المشاعر بين الأصدقاء وهذه مطلوبة في ضيقة الحياة، ودفئ المشاعر الأسرية والزوجية التي تعطي شبعاً للنفس وفي آية (12) إن هاجم عدو شخصاً= وإن غلب احدٌ على الواحد= يقف مقابله الإثنان= أي يساند الصديق صديقه وقت هذه المحنة، حتى وإن كان بالمساندة المعنوية. والخيط المثلوث لا ينقطع سريعاً= يتكلم هنا عن الخيوط المجدولة، فالخيط المجدول من ثلاثة خيوط أمتن من المجدول من اثنين، وتكون شدة احتماله أكثر. ولكن لنلاحظ أن سليمان في كل ما سبق يتكلم عن اثنين، وهنا يتكلم عن ثلاثة، فمن هو الثالث. يقول السيد المسيح "إذا اجتمع اثنين.. باسمي أكون في وسطهم" أي يكون ثالثهم. هذه هي وحدة الكنيسة حيث يحل المسيح في وسطها كوعده ويكون هو قوتها (مت20:28) ها أنا معكم كل الأيام.

 

الآيات (13-16):- "13وَلَدٌ فَقِيرٌ وَحَكِيمٌ خَيْرٌ مِنْ مَلِكٍ شَيْخٍ جَاهِل، الَّذِي لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُحَذَّرَ بَعْدُ. 14لأَنَّهُ مِنَ السِّجْنِ خَرَجَ إِلَى الْمُلْكِ، وَالْمَوْلُودُ مَلِكًا قَدْ يَفْتَقِرُ. 15رَأَيْتُ كُلَّ الأَحْيَاءِ السَّائِرِينَ تَحْتَ الشَّمْسِ مَعَ الْوَلَدِ الثَّانِي الَّذِي يَقُومُ عِوَضًا عَنْهُ. 16لاَ نِهَايَةَ لِكُلِّ الشَّعْبِ، لِكُلِّ الَّذِينَ كَانَ أَمَامَهُمْ. أَيْضًا الْمُتَأَخِّرُونَ لاَ يَفْرَحُونَ بِهِ. فَهذَا أَيْضًا بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ "

هنا يشير سليمان لشئ آخر رآه محزن وباطل في هذا العالم. وهو هنا ربما كان يشير لقصة كانت معروفة أيام سليمان، أو قصة يرويها هو ليشرح بطلان هذا العالم وربما نسجها على منوال قصة يوسف وصعوده من السجن إلى الحكم. أو لسقوط شاول الملك وصعود داود عوضاً عنه للعرش ثم انفضاض الناس عنه أيام ثورة إبشالوم. والقصة هي قصة ولد صغير حكيم كان في السجن، وخرج ليملك، فأزاح الناس الملك السابق العجوز وإلتفوا حول الملك الشاب الجديد الذي رأوا فيه حكمة، ولكنهم سرعان ما أنفضوا من حوله وتركوه. وحدث شئ مثل هذا مع المسيح الذي إلتف اليهود حوله ثم أنفضوا عنه. ونرى عدة أمور هي حِكَم في هذه القصة:-

1-   الملك والسلطان ليسا بدائمين وهكذا الغني والمال (أم24:27). ولا حتى محبة الناس.

2-   عظمة الإنسان الحقيقية ليست في سنه ومركزه بل في حكمته الساكنة فيه فالولد هنا كان أحكم من الشيخ.

3- العالم يسوده الظلم فالولد الحكيم موضوع في السجن. والذي يملك يفتقر الحكمة ويفتقر إلى حياة الحذر. لا يعرف أن يحذَر بعد= كَفَّ عن قبول النصيحة، لا يقبل النصح والمشورة. وربما لأنه لا يجسر أحد أن يحذر الملك، وربما لعدم حكمته أصبح متكبراً لا يقبل النصح. ولنعلم أن الصبي الصغير الذي يقبل المشورة خيرٌ من الشيخ الذي لا يقبل المشورة.

4-   الناس متقلبون ومحبتهم وولائهم ليسا بثابتين، فها هم يزيحون الملك ليأتوا بالملك الشاب الجديد، ثم بعد وقت لا يفرحون به= أيضاً المتأخرون لا يفرحون به. فلا شئ ثابت في العالم.

نرى صورة لبُطْل المجد العالمي= لا نهاية لكل الشعب لكل الذين كان أمامهم= فالملك الشاب كان له أتباع ومحبين كثيرين كان هو أمامهم قدوة ومثلاً يحبونه. ولكن المتأخرين أي الذين يكونون في أواخر أيام ملكه لا يفرحون به. باطل هذا المجد العالمي الذي نسعى وراءه.