الأصحاح السابع عشر

حزم مع عابدي الأوثان

والقضاة والملك

يعالج الأصحاحان (17-18) السمات التي يلتزم بها قادة الشعب الرئيسيِّين في ذلك الحين وهم: الملك والكاهن والنبي. اتَّسمت العبادة الوثنيَّة باللهو والرجاسات بينما تتَّسم العبادة لله الحقيقي بالجدِّيَّة مع التوبة. الأولى تولِّد فرحًا مؤقَّتًا لن يشبع النفس، أمَّا الثانية فتهب فرحًا داخليًا. الله في محبَّته لشعبه قدَّم لهم الأعياد لكي تتحوَّل حياتهم إلى فرحٍ دائمٍ في الرب، لن يتحقَّق خلال التهاون أو التراخي في ممارسة وصيَّة الرب. لهذا يتحدَّث في حزمٍ عن أمورٍ ثلاثة: عقوبة العبادة الوثنيَّة؛ وخضوع القضاة بروح الطاعة للنظام الجماعي المقدَّس، التزام الملك بالوصيَّة الإلهيَّة.

1. عقوبة عابدي الأوثان             [1-7].

2. خضوع القضاة للنظام              [8-13].

3. التزامات الملك                      [14-20].

1. عقوبة عابدي الأوثان:

"لا تذبح للرب إلهك ثورًا أو شاة فيه عيب شيء ما رديء،

لأن ذلك رجس لدى الرب إلهك" [1].

إذ سبق فأعلن أن الفرح الحقيقي والدائم هو في الالتصاق بالله القدُّوس والدخول معه في عهدٍ دائمٍ، لهذا يليق بالمؤمنين ليس فقط أن يكونوا قدِّيسين كما هو قدُّوس (لا 10: 44)، وإنَّما ألاَّ يقدِّموا ذبيحة بها عيب. الله قدُّوس وذبيحة المصالحة يلزم أن تكون مقدَّسة بلا عيب بكونها ظل للسيِّد المسيح الذي بلا عيب، فينعم على شعبه بالحياة المقدَّسة.

كل ثورٍ أو شاه به عيب يٌقدِّم للرب ليس فقط لا يكون مقبولاً لديه، وإنَّما يحسبه رجس وخطيَّة، لأن في ذلك إهانة للذبيح الحقيقي الذي بلا عيب.

على لسان آخر نبي في العهد القديم يحذِّر الله شعبه من تقديم ذبيحة بها عيب، قائلاً: "وإن قرَّبتم الأعمى ذبيحة أفليس ذلك شرًا؟! وإن قربَّتم الأعرج والسقيم أفليس ذلك شرًا؟!" (ملا 1: 8).

"إذا وجد في وسطك في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك رجل أو امرأة يفعل شرًا في

عينيّ الرب إلهك بتجاوز عهده،

ويذهب ويعبد آلهة أخرى،

ويسجد لها أو للشمس أو للقمر أو لكل من جند السماء الشيء الذي لم أوصِ به،

وأخبرت وسمعت وفحصت جيدًا،

وإذا الأمر صحيح أكيد قد عمل ذلك الرجس في إسرائيل،

فاخرج ذلك الرجل أو تلك المرأة الذي فعل ذلك الأمر الشرِّير إلى أبوابك، الرجل أو المرأة،

وأرجمه بالحجارة حتى يموت" [2-5].

يُنظر إلى عبادة الأوثان كجريمة عظمى، بكونها خيانة ضدّ الله وضدّ الجماعة المقدَّسة وضدّ الإنسان نفسه، لهذا فإن عقوبتها هي الإعدام رجمًا.

كانت الأوثان منذ القديم تتركَّز بالأكثر في عبادة الشمس والقمر والكواكب، ثم اتَّجهت نحو التماثيل التي تصور بطريقة أو أخرى بشرًا أو حيوانات أو طيورًا أو زحَّافات. أمَّا خطورة هذه الخطيَّة فهي أن من يمارسها لا يهدأ حتى يغوي الآخرين ليمارسوا نفس العبادة. إنَّها أشبه بوباء يحل بالنفس لينتشر في نفوس الآخرين. يظن البعض أن ذكر عبادة  الشمس يشير إلى أن السفر قد كتب في عصر آشور، لكن هذه العبادة  قديمة ترجع إلى ما قبل عصر موسى النبي، إلى أيَّام Sumerian times[197].

يرى البعض أن عبادة الشمس بدأت في أيَّام برج بابل حيث خشي الناس لئلاَّ يرسل الله عليهم فيضانًا آخر، فالتجأوا إلى الشمس ظانين إنَّها لن ترسل فيضانًا. هؤلاء لم يدركوا أن للشمس دور في سقوط الأمطار وحدوث الفيضانات، خلال تبخير المياه وارتفاعها كسحب في السماء ثم سقوطها على شكل أمطار[198]. لقد عبدوا الشمس والقمر والكواكب حاسبين إنَّها صديقة للإنسان، عبدوها وجحدوا خالقها.

لماذا يُنظر إلى عبادة الأوثان كجريمة عظمى؟

أولاً: إنَّها تمثل عصيانًا مباشرًا لله الذي لم يأمر بالعبادة الوثنيَّة، بل حرمها. عبادة الأوثان هي حركة تمرُّد ضدّ الله. إن كان التمرُّد ضدّ الملك الزمني يُحسب جريمة عظمى، كم بالأكثر التمرُّد ضدّ ملك الملوك؟!

ثانيًا: إنَّها شرّ في عينيّ الرب: "يفعل شرًا في عينيّ الرب إلهك بتجاوز عهده" [2]، يبغضها ولا يطيقها، لأنَّها تعني إحلال الخليقة الجامدة في موضعه.

ثالثًا: تحمل خيانة للعهد المُبرم مع الله، فهي نوع من الخيانة للعهد الزوجي، تكسر الرباط الزوجي الروحي بين الله ومؤمنيه.

رابعًا: رجس في إسرائيل [4]؛ فإن كان الله قد اختار شعبه ليكون خاصًا به، مقدَّسًا ومكرَّسًا له، يتمِّم إرادته الإلهيَّة، يقدِّم له معرفته لأسراره الإلهيَّة. فإنَّه إن انحرف إلى العبادة الوثنيَّة تكون خطيَّته أعظم من الشعوب الأخرى. إنَّها رجس!

ما هي شريعة السقوط في العبادة الوثنيَّة؟

أولاً: الفحص الدقيق، فمع جسامة هذه الخطيَّة لا يمكن معاقبة شخصٍ ما لمجرَّد الاشتباه في تصرُّفاته، بل يلزم الفحص الدقيق للأمر.

"وأخبرت وسمعت وفحصت جيِّدًا،

وإذا الأمر صحيح أكيد، قد عمل ذلك الرجس في إسرائيل" [4].

مع اهتمام الشريعة بقداسة شعب الله القدُّوس، إلاَّ أنَّه يجب إلاَّ يُساء إلى سمعة أحد أو يُجازي ظلمًا. لهذا فإن كل إنسان يعتبر بريئًا حتى تثبت إدانته بعد تدقيق شديد. وفي نفس الوقت من تثبت إدانته بعد الفحص الدقيق لا يجوز التهاون معه.

في الأصحاح السابق رأينا تأكيد الشريعة أن يُقام قضاة يتَّسمون بالعدالة وعدم المحاباة، وفي هذا الأصحاح يطلب أن يكونوا قادرين على الفحص الدقيق للقضايا حتى لا يسقط أحد تحت الظلم. إن كانت "أحكام الرب حق عادلة كلَّها" (مز 19: 9) فإن القاضي كوكيل الله يلتزم أن يلتحف بالعدالة في غير محاباة للوجوه.

قد لا يجد الإنسان الفقير من ينصفه في أي مكان، لذا لاق به أن يلجأ إلى بيت الله ليجد في "كراسي القضاء" العدالة. في بيت الرب يرى حمل الله الذي يقدِّم روح البرّ والعدل مع الرحمة والحنو. كثيرون يتعثَّرون في إيمانهم بسبب ما قد يجدوه من محاباة لدى رجل الدين.

ثانيًا: أن تتم المحاكمة بوجود شاهدين أو ثلاثة [6] كدليلٍ صادقٍ ضدّ المُشتكى عليه. إذ لا يجوز تحت التظاهر بالدفاع عن مجد الله يُساء إلى إنسان بريء.

"على فم شاهدين أو ثلاثة شهود يُقتل الذي يُقتل،

لا يقتل على فم شاهد واحد.

أيدي الشهود تكون عليه أولاً لقتله،

ثم أيدي جميع الشعب،

أخيرًا فتنزع الشرّ من وسطك" [6-7].

ثالثًا: عقوبة عبادة الأوثان الرجم، سواء كان العابد رجلاً أو امرأة، فإنَّه لا يُقدَّم ضعف المرأة عذرًا للتعبُّد للأوثان.

رابعًا: يتم الرجم عند باب المدينة، وفي مواضع أخرى نجد أن العقوبة كانت تنفَّذ خارج أسوار المدينة (نح 8: 1؛ أي 29: 7؛ أع 7: 58؛ عب 13: 12)، وفي أثناء التيه في البريَّة كانت تتم خارج المحلَّة (لا 24: 14؛ عد 15: 36). ويُلقي الشاهدان أو الأكثر أول الحجارة وذلك للأسباب التالية:

أ. مادامت الخطيَّة علنيَّة، أو يمكن أن تصير علانيَّة، يجب أن تكون العقوبة علنيَّة.

ب. لكي تتَّعظ المدينة كلَّها، فيكون ذلك درسًا للجميع.

ج. إذ يُلقي الشهود الحجارة الأولى لا يستطيعون أن يتبرَّروا أمام ضمائرهم إن كانوا شهود زورٍ، إذ يشعروا بأنَّهم قتلوا إنسانًا بأيديهم ظلمًا.

v     في ظل الشريعة القديمة من يعصى الكهنة يُطرد خارج المحلَّة ويُرجم بواسطة الشعب، أو تقطع رأسه، ويكفر عن استخفافه بدمه. أمَّا الآن فإن العاصي يُقطع بسيف الروح أو يُستبعد من الكنيسة ويُقطع إلى أجزاء بواسطة الشيَّاطين الثائرة[199].

القدِّيس جيروم

د. الترجمة الحرفيَّة للنص العبري هي: "الرجل الميِّت يموت"، أو "رجل الموت" (1 مل 2: 26)، أو "ابن الموت" (1 صم 20: 31). وكان ما يصدر عليه من حكم بالموت ليس بالأمر الغريب عنه لأنَّه بفعله الشرِّير صار بالفعل ابن الموت، وفي قبضته. كان رجمه إنَّما يظهر ما حلَّ بنفسه من موت.

2. خضوع القضاة للنظام:

العمل القضائي ليس كرامة يقتنيها القاضي لذاته، لكنَّه التزام ومسئوليَّة، لهذا وُضعت القواعد التالية:

أولاً: لا يحكم القاضي في أمرٍ يشك فيه أو يجد صعوبة في أخذ قرار من جهته. إنَّه يلتزم أمام ضميره أن يحوِّله إلى قضاءٍ أعلى، إلى أصحاب خبرة أكثر منه.

"إذا عسر عليك أمر في القضاء بين دمٍ ودمٍ،

أو بين دعوى ودعوى،

أو بين ضربة وضربة من أمور الخصومات في أبوابك،

فقم واصعد إلى المكان الذي يختاره الرب إلهك،

واذهب إلى الكهنة اللآويِّين،

وإلى القاضي الذي يكون في تلك الأيَّام،

واسأل فيخبروك بأمر القضاء،

فتعمل حسب الأمر الذي يخبرونك به من ذلك المكان الذي يختاره الرب،

وتحرص أن تعمل حسب كل ما يعلِّمونك" [8-10].

لقد نصح يثرون حمى موسى زوج ابنته أن يتفرَّغ للقضايا الكبرى والصعبة (خر 18: 13 الخ)، وبعد موت موسى وُجد بعض الأشخاص لهم تقديرهم العام كرجال الله يقومون بنفس الدور مثل نثنائيل ودبُّورة وجدعون. وأحيانًا كان يقوم بهذا الدور رئيس الكهنة، حين يكون ساميًا وقادرًا على تدبير هذه الأمور مثل عالي الكاهن، وأحيانًا يقوم بالدور مجمع من الكهنة واللآويِّين الذين يخدمون المقدَّس.

ثانيًا: يلتزم القاضي بالخضوع لمن هو أكثر منه خبرة وفي رتبة أعلى، إذ يليق به أن يكون متواضعًا، محبًا للتعلُّم.

"وتحرص أن تعمل حسب كل ما يعلِّمونك.

حسب الشريعة التي يعلِّمونك،

والقضاء الذي يقولونه لك تعمل.

لا تحد عن الأمر الذي يخبرونك به يمينًا أو شمالاً.

والرجل الذي يعمل بطغيانٍ، فلا يسمع للكاهن الواقف هناك ليخدم الرب إلهك أو للقاضي،

يُقتل ذلك الرجل،

فتنزع الشرّ من إسرائيل.

فيسمع جميع الشعب ويخافون ولا يطغون بعد" [10-13].

طالبت الشريعة بإقامة قضاة عادلين علامة ارتباط الشعب بالعهد مع الله العادل. لكن تبقى القضايا الصعبة التي يصعب على القضاة المحليِّين البت فيها، فإنَّها تُرفع إلى الكهنة اللآويِّين وإلى القاضي في هيكل، كما إلى القضاء العالي على أعلى مستوى، من لا يقبل حكمهم يُقتل (17: 8-13).

يروي لنا سفر أخبار الأيَّام الثاني ما فعله يهوشفاط، إذ بعدما أقام قضاة في الأرض في كل مدن يهوذا، أقام هيئة قضاء عليا في أورشليم: "وكذا في أورشليم أقام يهوشافاط من اللآويِّين والكهنة ومن رؤوس آباء إسرائيل لقضاء الرب والدعاوي" (2 أي 19: 8). إذ أقام يهوشفاط ملك يهوذا قضاة في كل المدن قال لهم: "انظروا ما أنتم فاعلون، لأنَّكم لا تقضون للإنسان بل للرب وهو معكم في أمر القضاء. والآن لتكن هيبة الرب عليكم" (2 أي 19: 6-7).

v     يليق بالبشر أن يحفظوا الطريق بعناية أثناء سيرهم بين النار والماء، حتى لا يحترقون ولا يغرقون. هكذا يليق بنا أن ننظم خطواتنا بين قمَّة الكبرياء ودوَّامات الخمول، كما هو مكتوب: "لا تنحرف يمينًا ولا يسارًا"[200].

القدِّيس أغسطينوس

يليق بالقاضي أن يطيع القاضي الأكبر منه، وإلاَّ فيُرجم ليكون عبرة للشعب كلُّه. يبدو أن الخطأ بسيط لا يستحق الرجم. لكن وإن بدا الخطأ بسيط غير أن مرتكبه في مركز قيادي، لذا تُحسب أخطاؤه جسيمة من أجل مركزه. فكما يليق بالآخرين أن يطيعوه يلتزم هو بطاعة رؤسائه. الله لا يطيق في القائد أن يكون متعجرفًا وعنيدًا!

3. التزامات الملك:

أولاً: أن يكون الملك مؤمنًا.

"متى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك وامتلكتها وسكنت فيها،

فإن قلت اجعل عليَّ ملكًا كجميع الأمم الذين حولي.

فإنَّك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك.

من وسط اخوتك تجعل عليك ملكًا.

لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيًا ليس هو أخاك" [14-15].

بالنسبة للشعب، فإنَّهم إذ يلتقون مع شعوب كثيرة لهم ملوك عظماء وأقوياء يشتهون أن يكون لهم ملك مثل سائر الأمم المحيطة بهم.

لقد أدرك موسى النبي خلال خبرته بشعبه، وأيضًا بروح النبوَّة أنَّهم إذ يستقرُّون في أرض الموعد، عِوض اعتزازهم بقيادة الله ملكهم يطلبون ملكًا أرضيًا. عِوض افتخارهم بالله ملكهم يشتهون ما للأمم. هذه مشاعر الإنسان الطبيعي لا الروحي، يطلب المجد الظاهر، ولا يختبر جمال المجد الداخلي. حتى بعد خبرتهم المُرَّة مع ملوكٍ أشرارٍ حين جاء السيِّد المسيح رفضوه، أرادوا أن يكون لهم ملكًا أرضيًا يحرِّرهم ويهبهم سلطانًا زمنيًا.

تحدَّث موسى عن الملك الذي يقود الشعب، الأمر الذي اشتهاه الشعب بعد حوالي 400 عامًا من نياحة موسى النبي. لقد اشتهوا أن يُقيموا ملوكًا حسب شهوة قلبهم لا حسب فكر الله. وكما جاء في هوشع النبي: "أقاموا رؤساء وأنا لم أعرف" (هو 8: 4). لهذا يؤكِّد هنا: "فإنَّك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك" [15].

واضح من أسلوب الكتابة أنَّه لم يكن بعد قد ظهر النظام الملكي في إسرائيل، بل وأن ظهوره يبدو إنَّه احتمال بعيد وغير مقبول.

لم يكن موسى النبي في تخوُّفه من إقامة ملوك على الشعب بأقل ممَّا كان لصموئيل النبي الذي طلب من الشعب: "فالآن اجعل لنا ملكًا يقضي لنا كسائر الشعوب" (1 صم 8: 5)، فساء الأمر في عينيّ صموئيل. حذَّرهم صموئيل النبي: "تصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم" (1 صم 8: 18)، "فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل وقالوا: لا، بل يكون لنا ملك" (1 صم 8: 19).

بروح النبوَّة علم موسى النبي أن الشعب سيُصر على إقامة ملك لهم مثل سائر الشعوب، وجاء الحديث هنا يضع الخطوط العريضة لما يلتزم به الملك.

لم يعدهم الله بملكٍ ولا أمرهم أن يختاروا لهم ملكًا، بل جاءت الشريعة تنظم وتكشف عن سمات من يكون ملكًا. لقد أراد الله أن يكون هذا الشعب هو خاصته، يميِّزهم عن سائر الشعوب، وينسبهم إليه بكونه ملكهم. فإن اشتهوا أن يكون لهم ملك، يسمح لهم بذلك بشرط أن يحقِّق إرادة الله، وأن يكون ظلاًّ ورمزًا للملك المسيَّا.

شرع الناموس القوانين الخاصة بالحكم الملكي، فإنَّهم إن طلبوا ملكًا يلزم أن يكون الملك باختيار الله نفسه، ومن شعب الله، وليس إنسانًا غريبًا بسبب قوَّته أو إمكانيَّاته الفائقة أو شخصيَّته القويَّة. يخشى لئلاَّ ينحرف بالشعب إلى العبادة الوثنيَّة والآلهة الغريبة، ويدفع الشعب إلى ممارسات دنسة غير لائقة. لذلك يليق بالملك أن يكون مؤمنًا، يحمل رمزًا للملك الحقيقي، المسيَّا المخلِّص، الذي هو عظم من عظامنا (عب 2: 14). إذ يكون الملك مؤمنًا يشتاق أن يحقِّق لا إرادته الذاتيَّة بل إرادة الملك السماوي، ملك الملوك.

إذ طلب منهم ألاَّ يختاروا رجلاً أجنبيًا كملك واضح أن الشريعة أعطت للشعب حق اختيار الملك. وواضح من الوصيَّة هنا تأكيد الله التزام الشعب بالعمل الإيجابي في اختيار الملك (وبالتالي كل القيادات). فمن حق كل إنسان، بل من واجبه أن يُساهم في اختيار القائد المؤمن الذي يسلك بروح الرب. لذلك ركَّز الرسول بولس على التدقيق الشديد في اختيار الشماس أو الكاهن أو الأسقف في رسائله (1، 2 تيموثاوس، تيطس).

في كتابه "عن الكهنوت" يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم:

[هؤلاء الذين ينتمون إلى المسيح يدمرون ملكوته أكثر من الأعداء والمقاومين له، وذلك باختيارهم غير المستحقِّين للخدمة[201]].

[لا يكفي أن يعتذروا عمَّن اختاروه بعدم معرفتهم له. لأن عذرهم هذا يزيد من مسئوليَّتهم، إذ ما حسبوه مبرَّرًا لهم يزيد مسئوليَّتهم.

أليسوا إن أرادوا شراء عبدٍ يقدِّمونه أولاً إلى الطبيب لكي يفحصه، ويطلبون من البائع ضمانات ويستعلمون عنه من جيرانه، وبعد هذا كلُّه لا يتجاسرون على شرائه بل يطلبون فرصة ليكون العبد تحت الاختبار؟! ومع هذا فإن من يقدِّم شخصًا إلى وظيفة عظيمة كهذه، يقدِّم شهادته وتذكيته باستهتار دون اعتناء أو تدقيق، إنَّما لمجرَّد تلبية رغبة البعض؟! من إذًا يتوسَّط لنا في ذلك اليوم، إن كان الذين يدافعون عنَّا هم أنفسهم في احتياج إلى من يدافع عنهم؟!

فمن يُختار، يلزمه أن يُفحص بتدقيق لأنَّه إن كان قد تحرَّى عنه وعرف عدم استحقاقه، ومع ذلك اختاره، فإن أي اتهام ضدّ المُختار يتحمَّل من اختاره العقوبة مع المختار، بل وتكون عقوبة الأول أشد[202]].

ويقول القدِّيس جيروم: [في هذه الأيَّام كثيرون يبنون كنائس، حوائطها وعمدها من رخام ثمين، أسقفها متألِّقة بالذهب، مذابحها محلاَّة بالجواهر، أمَّا بالنسبة لاختيار خدَّام الله فلا يعطون اهتمامًا[203]].

ثانيًا: أن يتجنب الملك كل ما يجعله بعيدًا عن الله.

يليق به أن يحمل روح التواضع على خلاف الملوك المحيطين به من الأمم [16-17]. فلا ينشغل بما يحرمه من الحياة التقويَّة المقدَّسة مثل حب المجد الباطل، والملذَّات الجسديَّة، ومحبَّة الغنى.

فمن جهة محبَّة المجد الباطل يقول:

"ولكن لا يكثر له الخيل،

ولا يرد الشعب إلى مصر لكي يكثر الخيل،

والرب قد قال لكم: لا تعودوا ترجعون في هذه الطريق أيضًا" [16].

يليق بالملك أن يدرك أن الأمة لم توجد من أجله، بل هو من أجلها، فلا يعمل ما لترفه ومجده الذاتي، بل ما هو لصالح الجماعة.

يليق بالملك ألاَّ يرد الشعب إلى العبوديَّة التي خرجوا منها، أي من مصر. فإن هذا الطريق يجب أن يُغلق تمامًا، فيعيش الشعب بروح الحرِّيَّة وليس بروح العبوديَّة. فإن رد الشعب إلى مصر لا يعني مجرَّد إرسال البعض لشراء خيل له، وإنَّما أن تتحوَّل حياة الملك نفسه إلى بلد مستعمر يُسخَّر طاقات الشعب لحسابه، من أجل غناه ومجده الشخصي.

كثيرًا ما يميل الإنسان إلى أرض العبوديَّة القديمة، كما اشتهى الشعب العبراني في البريَّة العودة إلى مصر ليأكل الكُرَّات والبصل ويشتم رائحة قدور اللحم. هكذا كثيرًا ما يرتد قلب الإنسان إلى أعمال الإنسان القديم الفاسد عِوض تمتُّعه بأعمال الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. يليق بالمؤمن ألاَّ يرتد قلبه مع قلب امرأة لوط إلى الوراء لئلاَّ يصير عمود ملح، بل ينفتح أمامه الرجاء في الحياة العتيدة. يقول مع الرسول بولس: "أفعل شيئًا واحدًا إذ أنسى ما هو وراء واَمتد إلى ما هذا قدَّام؛ أسعى نحو الغرض لأجل جُعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في 3: 13-14).

بهذه النظرة المستقبليَّة المفرحة لا يرتد قلبنا إلى الماضي، فنشتهي أن تعود بنا عقارب الساعة إلى ما مرّ وانتهى، بل نسر بالأيَّام التي عبرت وبنهاية كل عام، متهلِّلين بالحاضر، ومنطلقين نحو المستقبل بروح الفرح المجيد.

v     يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأيَّة ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتَّكل عليها في كبرياء، حاسبين خطأ أنَّكم كلَّما ارتفعتم يزداد آمانكم وعلوّكم. ألا تُدركون بأيّ عنفٍ سوف تلقون؟! كلَّما ارتفعتم إلى أعلي يكون سقوطكم بأكثر ثقل... فكيف إذن يتحقَّق الأمان؟ فإنَّه لا يتحقَّق بالقوَّة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس[204].

القدِّيس أغسطينوس

يري العلامة أوريجانوس أن الخيل تشير إلي الشيَّاطين التي سقطت من السماء بسبب كبريائها، هؤلاء الذين تبعوا القائل: "أصعد فوق مرتفعات الرب وأصير مثل العليّ" (إش 14: 14).

v     امتطي فرعون خيله، فسقط في نوم وهلك. كان للمصريِّين أيضًا خيولهم وهلكوا. لهذا السبب فإن الشريعة قد قدَّمت دواء ألاَّ يملك عبراني خيلاً. تذكَّر أن سليمان لم يكن له حصان من أورشليم أو من اليهوديَّة، إنَّما اِتشترى بعض الخيل من مصر (2 مل 10: 28). كانت الخيول تباع في مصر. "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أمَّا نحن فباسم الرب إلهنا نذكر" (مز 19: 8). هؤلاء بالحق الذين يمتطون خيولاً ينامون ويهلكون. ربَّنا له خيول أيضًا، لكن له بجانب ذلك جبال مشرقة، أمَّا جبال الشيطان فمملوءة ظلامًا[205].

القدِّيس جيروم

v     كُتب في سفر المزامير: "باطل هو الفرس لأجل الخلاص" (مز 33: 17)؛ وجاء في موضع آخر في الكتاب المقدَّس: "الفرس والمركبة طرحهما في البحر" (خر 15: 1). كانت الوصيَّة الصادرة لملك إسرائيل ألاَّ يمتطي خيلاً (تث 17: 16)... أظن أن الخيول هي البشر الخطاة وراكبيها هم الشيَّاطين التي تمتطي الأشرار، الذي تحوَّل إلي مُضطهد هو فرس، والشيطان هو قائده الذي يرشقنا برمح. الخيل يجري والشيطان يرشق بالرماح. الخيل مسُوق في حالة هياج بمن يثيره ويهيِّجه بجنون بغير إرادته[206].

القدِّيس جيروم

لم يُمنع الملك من أن يركب خيلاً، وإن كان ملك الملوك في تواضعه دخل أورشليم راكبًا على أتان وجحش ابن أتان. لقد مُنع من المبالغة في استخدام الخيول كنوعٍ من المجد الباطل، أو لأنَّه مع كثرة الخيل يعطي أناسًا غير مستحقِّين للكرامة أن يستغلُّوا موقعهم في القصر الملكي، قيل: "قد رأيت عبيدًا على الخيل، ورؤساء ماشين على الأرض كالعبيد" (جا 10: 7).

يخشى الله على الملك من أن يعتز بقوَّته الذاتيَّة وإمكانيَّاته العسكريَّة، إذ قيل: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أمَّا نحن فباسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 7). كما قيل: "لن يخلص الملك بكثرة الجيش. الجبَّار لا يُنقذ بعظم القوَّة. باطل هو الفرس لأجل الخلاص وبشدَّة قوَّته لا ينجى" (مز 33: 17). "لا يخلِّصنا أشور، لا نركب على الخيل" (هو 14: 3).

كانت مصر هي مصدر التصدير للخيول إلى كنعان (1 مل 10: 28-29)، فلم يرد لهم اقتناء خيول كثيرة حتى لا يدخلوا في معاملات تجاريَّة مع مصر بطريقة مبالغ فيها ممَّا يدفعهم إلى الحنين إلى آلهة المصريِّين مثل عجل أبيس، كما فعلوا في البريَّة حيث صبُّوا عجلاً ذهبيًا وتعبَّدوا له.

يلتزم الملك أن يثق في الرب ويسلك حسب وصايا العهد [18-20]. يليق به أن يُدرك أنَّه بدوره خاضع للملك السماوي. لا يظن الملك أنَّه فوق القانون أو الشريعة الإلهيَّة، ولا في عينيّ الله أعظم من الخاضعين له.

أمَّا من جهة الشهوات الجسديَّة فقيل عن الملك: "ولا يكثر له نساء لئلاَّ يزيغ قلبه" [17]. هذا ما سقط فيه سليمان الحكيم: "وأحبَّ الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون، موآبيات وعمونيَّات وأدوميَّات وصيدونيَّات وحثِّيَّات... فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبَّة... فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه" (1 مل 11: 1-6).

حذَّر الملك من محبَّة الغني: "وفضَّة وذهبًا لا يكثر له كثيرًا" [17]. فإن محبَّة المال تدفع الملك إلى الضغط على الشعب لأجل نفعه الخاص. يبدو أن سليمان الحكيم سقط في هذا الضعف (1 مل 12: 4). محبَّة المال تجعل الملك يثق في إمكانيَّاته وقدراته لا على ذراع الرب، قيل: "لا تتَّكلوا على الظلم، ولا تصيروا باطلاً في الخطف؛ إن زاد الغني فلا تضعوا عليه قلبًا" (مز 62: 10). لقد جمع داود النبي ذهبًا وفضَّة (1 أي 29: 4)، لكن لم يجمعهما لنفسه بل لخدمة الله، ولخدمة شعب الله وليس لخدمة أسرته الخاصة.

ثالثًا: يلتزم بالوصيَّة الإلهيَّة.

"وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب من

عند الكهنة اللاويِّين.

فتكون معه، ويقرأ فيها كل أيَّام حياته،

لكي يتعلَّم أن يتَّقي الرب إلهه،

ويحفظ جميع كلمات هذه الشريعة وهذه الفرائض ليعمل بها،

لئلاَّ يرتفع قلبه على اخوته،

ولئلاَّ يحيد عن الوصيَّة يمينًا أو شمالاً.

لكي يطيل الأيَّام على مملكته،

هو وبنوه في وسط إسرائيل" [18-20].

يليق بالملك أن يكون أولاً وقبل كل شيء رجل الكتاب المقدَّس، رجل كلمة الله، يعشق الكلمة الإلهيَّة. يليق به أن يكون طالبًا مجتهدًا في دراسته لكلمة الله، فيسلك بروح الطاعة للوصيَّة الإلهيَّة، وينحني قلبه بروح الحب نحو الله الذي أقامه ملكًا، ونحو شعبه، بهذا يهبه نجاحًا في كل شيء.

أ. يرى البعض النسخة من الشريعة التي يكتبها الملك بنفسه هي "سفر التثنيَّة"، حيث تقدَّم وصايا وشرائع تمس حياة الملك والقادة، ليس مثل سفري اللآويِّين والعدد حيث أغلب الشرائع تمس الطقوس والخدمة والكهنوت. ويرى البعض أن الشريعة هنا تعني أسفار موسى الخمسة التي كانت تحفظ معًا في وحدة واحدة كأساس لكل ما يمس الجانب الديني.

ب. بلا شك كان الملك لديه أكثر من نسخة من الشريعة، لكنَّه يلتزم أن يكتب بخط يده نسخة له بعد جلوسه على العرش إن كان لم يكتب نسخة قبل توَلِّيه الحكم. يلزم أن يكتب نسخة جديدة لتكون أشبه بتجديد العهد بينه وبين الله. تُكتب النسخة عن تلك التي بين يديّ الكهنة المحفوظة في تابوت العهد أمام الرب لكي تطابق الأصل.

ج. غالبًا ما يكون لدى الملك نسَّاخ خطوطهم أجمل ممَّا للملك، لكنَّه يلتزم أن يكتب بخط يده، لأن الكتابة تثبت الأفكار، وتسند الشخص ليتأمَّل ما يكتبه أكثر من القراءة المجرَّدة. بهذا يود أن تُطبع الشريعة في ذهن الملك.

د. يتعلَّم الملك أنَّه ليس في شئون دولته ما هو أهم من أن يجلس وينشغل بوصيَّة الله، تحت كل ظروف المملكة وثقل المسئوليَّة. ليس له عذر أنَّه يحمل مسئوليَّات كثيرة، وأنَّه يمكن لغيره أن يقوم بهذا العمل.

هـ. لا يكفي أن يكتبها ويحفظها في خزانته، إنَّما يلتزم أن يقرأها لا مرة ولا مرَّتين، إنَّما يبقى يراجعها كل أيَّام حياته.

و. غاية القراءة أن تتحوَّل إلى حياة التقوى، فيخاف الرب إلهه. يُدرك أنَّه وإن نال سلطانًا ومهابة، لكنَّه يلتزم بالانحناء بمخافة أمام سلطان الله وعزَّته. الله فوق الكل، وملك الجميع.

ز. يلتزم بالأمانة في تنفيذ جميع الوصايا والفرائض، فيكون حافظًا للشريعة على الدوام.

ح. بالشريعة يتعلَّم التواضع فلا يرتفع قلبه على اخوته.

ط. تصير أيَّامه طويلة أي مثمرة ومباركة.

 

 

من وحيّ تثنيَّة 17

هب لي روح القداسة والعدل والسلطة

v     تشتاق أيُّها الآب القدُّوس أن تقيمني لك قدِّيسًا.

أرسلتَ لي ابنك القدُّوس لكي يحملني إليك.

وقدَّمت لي روحك القدُّوس لكي يقدِّسني إلى التمام!

هب لي ألاَّ أقدِّم لك ما لا يليق بك،

بل لتشتم في كل تقدماتي رائحة ابنك القدُّوس.

ليته لا يكون في أعماقي عيب ولا دنس،

فتخرج صلاتي وكل عبادتي مقدَّسة فيك!

v     في القديم كانت عبادة الأوثان جريمة كبرى عقوبتها الرجم.

ليعمل روحك الناري في قلبي فينزع كل آلهة غريبة عنِّي.

لا يكون للرجاسة موضع في أعماقي.

بل يسكن روحك في داخلي، يهبني روح القداسة.

v     هب لي مع القداسة روح العدالة.

أقمتني قاضيًا، فأحكم على نفسي بروح العدالة.

أنت قاضي القضاة، تدين كل البشر.

هب لي روح الحق مع التواضع!

لتكن وصيَّتك هي الحكم في داخلي.

v     مع القداسة والعدالة هب لي روح السلطة.

أنت ملك الملوك.

تقيم من شعبك ملوكًا لكن ليس كملوك الأمم.

اخترتني ملكًا أحمل سلطانًا روحيًا.

أقول لهذا الفكر اذهب فيذهب، ولذاك أدخل فيدخل!

هب لي سلطانًا فلا أخشى الخطيَّة،

ولا أهاب الشيطان أو الأحداث!

بك أصير ملكًا،

بك تغتني نفسي بكل البركات،

بل أدرك أسرار وصيَّتك.

شريعتك هي دستور مملكتي الداخليَّة.

لا أحيد عنها يمينًا ولا يسارًا.

هي تهيِّئ لي طريقي الملوكي!

[197] J.A. Thompson: Deuteronomy, 1973, p. 201,202.

[198] J. Vernon McGee: Deuteronomy, ch 17.

[199] St. Jerome: Letter 14:8.

[200] St. Augustine: Letter 48:2.

[201] للمؤلف: الحب الرعوي، 1965، ص230.

[202] المرجع السابق، ص230،231.

[203] المرجع السابق، ص233.

[204] On Ps. 33 (32).

[205] On Ps. hom. 9.

[206] On Ps. hom. 56.