اَلأَصْحَاحُ الثَّامِنُ وَالثَّلاَثُونَ

الخليقة الجامدة

إذ انتهى أليهو من حديثه، إذا بالعاصفة التي رآها تقترب فوقهم تحل، وصوت الرب يُسمع مخاطبًا أيوب. لكن هل سمع الحاضرون الصوت ففي يوحنا ١٢: ٢٩ وأع ٢٢: ٩ سمع الحاضرون الصوت لكن لم يدركوا فهمه.

صدى الحديث الإلهي على أيوب، أنه عاجز عن تفسير أعمال الله في الخلقة، لذا يليق به أن يسلم حياته لله ليدبرها حتى وإن كان لا يدرك ما هو وراء ذلك.

عند الخلقة التي ترجع إلى ما قبل خلقة الإنسان نفسه ترنمت الملائكة متهللة [٤-٧؛ إش ١٤: ١٢]. تحدث أيضًا عن وضع حدود للبحار، وتعاقب الليل والنهار، والفجر يجعل اللصوص هاربين من بيوتهم.

طلب أيوب من الله أن يسأل وهو يجيب، أو يتكلم أيوب والله يجيبه (أي 22:13). كان يتوقع أيوب أن الله يسأله خطايا معينة ارتكبها، ولم يكن يتوقع أن يسأله عن أمور خاصة بعجائب الخليقة التي صنعها الله لأجل كل إنسان.

أعد أليهو أيوب للقاء مع الله، والحديث معه، لا بروح التذمر أو الشكوى، وإنما بروح الخضوع له.

1. الله يتحدى أيوب ليجيب على أسئلته        1-3.

2. جهل أيوب لكيفية خلقة الأرض             4-7.

3. جهله لوضع حدود للبحار                   8-11.

4. جهله كيف يبرز نور الفجر                 12-15.

5. جهله لإدراك ظل الموت والظلمة           16-21.

6. جهله للسحب والبَرَدْ والرعد...            22-30.

7. جهله للكواكب وأثرها على الأرض         31-33.

8. جهله قوة الله في الجو والظواهر الطبيعية 34-38.

9. عناية الله بالحيوانات غير العاقلة           39-41.

1. الله يتحدى أيوب ليجيب على أسئلته

فَقَالَ الرَّبُّ لأَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَةِ: [1]

يرى البعض أن الكلمة العبرية المترجمة هنا "عاصفة" تختلف عن تلك الواردة بخصوص العاصفة فى الأصحاح السابق. في الأصحاح السابق تُشير إلى حالة اضطرابٍ وهياجٍ وصخب وثورة عنيفة، أما هنا فتُشير مجرد عاصفة تملأ ذهن أيوب بالشعور بالمهابة والوقار لعظمة الله[1333]. كما تكلم الله مع موسى على جبل سيناء وسط الرعود والبرق (خر 19: 16-19) هكذا تكلم مع أيوب كعلامة على عظمة جلاله (مز 18: 9-13؛ حب 3: 3-6؛ مز 50: 3-4).

إن كان الله قد ظهر لأيوب كي يزكيه ويبرره أمام الحاضرين، لكن في غير محاباة كشف له عن ضعفاته، وأراد أن ينزع عنه تذمره وشكواه. ففي حنو الله بالإنسان يقدم له بركات لا حصر لها بعد أن يوجهه ليُنزع عنه أخطاءه وضعفاته.

v     عندما فقد أيوب كل ثروته، عندما فقد أولاده، بدأ كل شيء يعمل ضده. لكنه إذ أحب الرب عملت كل الشرور التي حلت به لصالحه (أي 42: 9-17). ما حل بجسمه هيأه لإكليل السماء (أي 7: 5). قبل وقت التجربة لم يتـحدث الله معه قط كصديقٍ مع صديقه (38: 1؛ 42: 9). إذن لتحل الكارثة، لتسقط المحن، مادام المسيح يأتي بعد الفاجعة![1334]

القديس جيروم

v     ماذا إذن عن ذاك الذي أجاب أيوب من العاصفة والسحاب، البطيء في التأديب، والسريع في المعونة، الذي لا يسمح لعصا الخطاة أن تستقر على نصيب الأشرار (مز3:25) لئلا يتعلم الصديقون الشر؟[1335]

 القديس غريغوريوس النزينزي

قد يتساءل أحد: لماذا تحدث الله مع أيوب خلال العاصفة؟

أولاً: خشي على أيوب من السقوط في الكبرياء بسبب ما سيقدمه من مديح له علانية، حيث يطلب من أصدقائه ليس فقط أن يعتذروا له، بل ويسألوه الصلاة عنهم، لذا أراد الله أن يحفظ حياة أيوب ونصراته بروح التواضع.

ثانيًا: حديث الله مع أيوب خلال العاصفة وليس خلال ملائكة، كما حدث مع بعض القديسين مثل دانيال النبي، أو خلال رؤى كما حدث مع حزقيال النبي، أو أحلام كما حدث مع يوسف الصديق، إنما ليوبخ أصدقاء أيوب، معلنًا كرامة هذا البار أن ينزل إليه الرب نفسه ليدخل معه في حوارٍ، الأمر الذي لم يتأهلوا هم له.

ثالثا": يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله غطى أيوب بالسحب والعواصف كمن قد جاء ليتحدث معه من كرسي الرحمة الذي على غطاء تابوت العهد (عد 7: 89).

v     في رأيي أن (الله) دبَّر في تلك اللحظة أن تغطي البار سحابة حتى ترفع أفكاره، وتقنعه أن هذا الصوت قادم من الأعالي كما في حالة عرش الرحمة الذي كان على تابوت الشهادة (عد 7: 89). فكما أن السحابة هي رمز للسماء، هكذا كأن الله أراد أن يضع السماء عينها علي أيوب، وجاء بعرشه يقترب إليه. يبدو لي أن هذا نفسه حدث على الجبل عندما حلت سحابه كثيفة هناك (خر 19: 16) لكي ندرك أن الصوت جاء من الأعالي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ربما يتساءل البعض لماذا بدأ الرب بتوبيخ أيوب وتقديم تساؤلات له تكشف عن ضعفه عن إدراك أسرار الله وحكمته وخطته، مع أنه امتدحه قدام الشيطان وأيضًا دافع عنه أمام أصدقائه. هذا هو حب الله الفائق لمؤمنيه فإنه وإن كان يقف حازمًا معهم أحيانًا حتى في وسط ضيقاتهم وتجاربهم، لكنه يدافع عنهم أمام الغير ويُعد لهم أمجادًا فائقة. إنه يخشى عليهم من السقوط بسيف الكبرياء، لكن عينيه عليهم، يحفظهم ويقدسهم ويمجدهم أمام ملائكته والناس وحتى أمام الشيطان.

v     بعد فقدان ممتلكاته، وموت أبنائه، وجراحات جسده، وكلمات زوجته لدفعه نحو الشر، ولغة السَّب الموجهة من معزيه، وسهام الأحزان الكثيرة التي تقبلها بشجاعة، كان يليق بالطوباوي أيوب أن يمدحه الديان من أجل مثل هذه القوة العظيمة للجلد، إذ قد اقترب الوقت لاستدعائه من هذا العالم الحاضر.

الآن قد حان الوقت لقبول ضعفين، ويسترد صحته السابقة حتى يمكنه أن يتمتع بممتلكاته المستردة له إلى وقت طويل. لهذا فإن الله يوبخ بعدالة حازمة، ذاك الذي حفظه حيًّا، لئلا بنصرته ذاتها يهلك بسيف الكبرياء.

البابا غريغوريوس (الكبير)

مَنْ هَذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ [2]

كان يليق بأيوب أن يلقي ضوءً على حكمة الله، فيتعرف الغير عليها، لكنه عوض ذلك تحدث عن الظلم الساقط تحته. هكذا يصحح الله موقف أيوب الذي وإن كان بارًا، لكنه نطق ببعض كلمات العتاب فشوّه صورة خطة الله أمام الحاضرين.

يعاتبه الله قائلاً له: من أنت يا من تود أن تتحدث عن أسرار الله العميقة وعدله وعنايته، فإنك إذ لا تدركها تقدم تفسيرًا مظلمًا لها.

جاء النص في الترجمة السبعينية: "من الذي يخفي مشورة عني، ومن الذي يغلق على كلمات في قلبه ويظن أنه يخبئها عني". وجاء في الترجمة اليسوعية: "من هذا الذي يُسوِّد تبريري بأقوالٍ ليست من العلم بشيء؟" استخدم القديس كيرلس الكبير هذه العبارة في تفسيره لإنجيل لوقا 22: 64 "وغطوه (عصبوا عينيه) وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين: تنبأ، من هو الذي ضربك؟"

v     يقول في موضع ما خلال أحد أنبيائه القديسين: "من هذا الذي يخفي مشورة عني، ومن الذي يغلق على كلمات في قلبه؟" (2:38) ذاك الذي يفحص القلوب والأذهان وواهب كل نبوة كيف يمكن ألا يعرف من ضربه (لو 64:22)؟ كما يقول المسيح: "الظلمة أعمت عيونهم؛ وأذهانهم قد أميت (راجع يو 40:12)[1336].

القديس كيرلس الكبير

v     يشير الله إلى المسافة الشاسعة التي تفصلنا عنه. "أخبرني: من الذي يحاول أن يخفي نفسه عني أنا العارف بالأسرار بدقة؟!"

القديس يوحنا الذهبي الفم

اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ،

فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي [3].

بينما ظهر الله في العاصفة حيث لا يقدر إنسان أن يقف أمامها، إذا به يطلب من أيوب أن يتمنطق كمن يُعد نفسه لعملٍ غاية في الخطورة ( خر 11:12، 1 مل 46:18).

جاءت كلمة "رجل" هنا في العبرية Kageber لتعني بطلاً. كأن الله يقول له: لتنزع من فكرك كل المخاوف، ولتقف في شجاعة كبطل أمامي، أقدم لك سلسلة من الأسئلة، إذ تجاوبني عليها تجاوب على نفسك بنفسك بخصوص الأسئلة التي كنت تستعرضها على أصدقائك من نحوي.

أما قوله "أشدد حقويك" أو تمنطق، فإذ كانت الثياب واسعة في القديم، كان الإنسان يلتزم بالتمنطق للجري أو العمل أو الدخول في معركة. إلى يومنا هذا يتمنطق أغلب الجند والقادة أثناء المعارك الحربية.

v     إذ سقط أيوب في حالة تثبط، رده الله بهذه الكلمات عما فيه.

v     التمنطق هو جزء من سير النفس، اسمع ما يقوله الله لذاك البار: "أشدد الآن حقويك كرجلٍ، فإني أسألك فتعلمني" (أي 3:38). هذا يقوله أيضًا لكل الأنبياء. يقول لموسي أن يتمنطق. وهو نفسه ظهر لحزقيال (11:9 LXX). متمنطقًا. لا، بل والملائكة أيضًا يظهرون لنا متمنطقين (رؤ 6:15) بكونهم جنودًا. إذ تتمنطق نقف أيضًا بشجاعة، وبوقوفنا تتمنطق[1337].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     أيوب أيضًا أمره الرب أن يمنطق نفسه، كما لو كان نوع من العلامة على النضوج (الرجولية) والاستعداد للعمل. قال لأيوب: "منطق حقويك كرجلٍ" (أي 38: 3)[1338].

القديس باسيليوس الكبير

v     بهذا أيضًا يفتخر القديس داود أنه يتمنطق بقوة الله (مز 32:18)، ويتحدث عن الله نفسه أنه ملتحف بالقوة (مز 1:93)، ويتمنطق بقوته - ضد الأشرار - وإن كان البعض يفضلون أن يروا في هذا إعلانًا عن فيض قوته، كما لو كانت تبدو مقيدة، إذ هو ملتحف بالنور كثوبٍ (مز 2:104). فإنه من يحتمل قوته غير المحدودة ونوره؟[1339]

 القديس غريغوريوس النزينزي

2. جهل أيوب لكيفية خلقة الأرض

أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟

أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ [4].

أول سؤال يقدمه له الله يمس وجود ذاته، إذ يسأله أين كان حين وضع الله أساسات الأرض من أجله؟ فمن جانب لم يكن بعد أيوب ولا آدم نفسه قد خُلق، ومن جانب آخر فإن الله خلق الأرض له ولإخوته قبل أن يكون لهم وجود.

لم يكن أيوب في الوجود حين أسس الله الأرض، وبالتالي لم تكن له قدرة على العمل مع الله في الخلقة أو تقديم استشارة أو حتى إدراك وفهم ما يفعله الله من أجله. كيف إذن يجسر أن يشكو من خطة الله نحوه. غن كان أيوب عاجزًا عن فهم وضع أساسات الأرض، فهل يقدر أن يدرك خطة الله وحكمته؟

v     يقول الله: ماذا تقول؟ من أجلك أسست الأرض بعناية هكذا، فهل أهمل مَنْ مِنْ أجله خلقتها؟... ينطق بهذا للذين يطلبون منه أن يقدم حسابًا وتفسيرًا للأحداث دون التطلع إلى سمو حكمته. من الذي دفعني لهذا؟ من الذي أشار عليَّ؟ من الذي جاء ليعاونني؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا؟ لأَنَّكَ تَعْلَمُ!

أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَارًا؟ [5]

يسأله: إن كنت تعرف، من الذي وضع مقاييس الأرض وحدَّد أبعاد خط الاستواء؟ من هو المهندس المعماري الذي صمم أبعاد الأرض؟ من الذي أمسك بالمطمار[1340] لقياسها، محددًا مناطقها وأبعادها؟

يبرز الحديث الإلهي أن الأرض التي يعيش عليها الإنسان لم تُوجد مصادفة بلا تخطيط، وإنما وراءها المهندس الأعظم الذي وضع خطة دقيقة لإنشائها، خُلقت بحكمة الخالق وقدرته الفائقة.

v     إنها ليست بدون إبداع أُخذت المقاييس، ولا جاءت مصادفة أو بطريقة عشوائية، ولكن الله صممها بهدف متناسق، عمل كمعماري بارع.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لهذة العبارة، فيرى أن هذه الأرض هي حياة الإنسان، وأن الأساس الذي تقوم عليه حياتنا هو الإيمان الثابت في مخافة الرب. هذا الإيمان بكل مقاييسه هو من عمل الله فينا، ليس لنا أن ننسبه لأنفسنا.

v     أساس هذه الأرض هو الإيمان. يوضع أساس هذه الأرض عندما تتسم أماكن القلب الخفية بخوف الله بكونه العلة الأولى للثبات... يُقال لأيوب: لا تنسب لنفسك الفضائل التي أخذتها مني... فلكي لا أحطم فيك ما قد بنيته يليق بك ألا تكف عن التأمل في الحال الذي أوجدتك عليه... فإنه يمكننا أن نحفظ حسنًا ما نحن عليه إن كنا لا نتجاهل قط ما كنا عليه...

من الذي يضع أساسات هذه الأرض إلا خالقنا؟ هذا الذي بالتدبير الخفي لخطته الداخلية يهب لواحٍد كلمة حكمة، ولآخر كلمة معرفة، ولآخر إيمانًا كاملاً، ولآخر نعمة الشفاء، ولآخر عمل معجزات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع ألسنة، ولآخر تفسير عظات... هكذا يفعل خالقنا وواضع النظام لكل الأشياء ليحفظنا من الزهو بالعطية التي ينالها الشخص ويتواضع بالفضائل التي لم ينلها... الله يدبر كل الأمور هكذا، فينال الكل مواهب خاصة، وتُحسب كلها ملكًا لكل شخص بمفرده وذلك خلال رباط المحبة. كل واحد يملك في الآخر ما ينقصه هو، وبتواضع يقدم للآخر ما يتقبله كملكية خاصة به. وكما يقول بطرس: "ليكن كل واحدٍ بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعضًا كوكلاء صالحين علي نعمة الله المتنوعة" (1 بط 4: 10)... ويقول بولس: "بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا" (غل 5: 13)... وأيضًا: "كما قسم الله لكل واحدٍ مقدارًا من الإيمان (رو 12: 3).

البابا غريغوريوس (الكبير)

"من مدّ عليها مطمارًا؟" يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الذين يمدون المطمار على الأرض لبث روح الإيمان هم الكارزون، هؤلاء الذين لا يقدرون أن يعملوا إلا بالله نفسه. ضرب مثالاً بذلك الرسول بولس الذي أهمل الكرازة في مكدونية فظهر له رجل مكدوني في رؤيا أن يذهب ليعينهم (أع 16: 9). وعندما حاول الرسول أن يذهب إلى بيثينية منعه (أع 16: 7).

عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا،

أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا [6].

الحديث هنا رمزي، حيث يتحدث عن خلقة الأرض كقصر أقامه الله للإنسان الملك، حفر أساساته، ووضع حجر زاوية لإقامة مبنى متكامل قوي ومتسع للغاية.

إن كان السيد المسيح، كلمة الله المتجسد، أو الإيمان به هو الأساس الذي قامت عليه الأرض الجديدة، كنيسة الله، فإن قواعدها أو الأعمدة التي قامت على هذا الأساس هي الحياة المقدسة في الرب أو الفضائل التي نمارسها ببرّ المسيح ونعمته، حيث تتقدس قلوبنا وإرادتنا وكل طاقاتنا الداخلية.

إذ يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الأرض المقدسة التي أسسها الرب هي الإيمان، فما هي قواعد هذه الأرض؟

v     بماذا نفهم القواعد التي لهذه الأرض سوى معلمي الكنيسة المقدسة؟...

يمكن أيضًا أن تشير القواعد إلى الأنبياء، فعندما تحدثوا أولاً بصراحة عن تجسد الرب رأيناهم كقواعد تقوم على الأساس (ربما يقصد السيد المسيح أساس الإيمان) ويحملون المبنى القائم عليهم...

"أو من وضع حجر زاويتها؟"... واضح للكل من هو هذا الذي يدعوه الكتاب المقدس حجر الزاوية. بالحق هو ذاك الذي أخذ في نفسه اليهود في جانب والشعب الأممي في جانب آخر، ووحدهما معًا كحائطين في مبنى الكنيسة. كُتب "جعل الاثنين واحدًا" (أف 2: 14). أظهر نفسه كحجر الزاوية ليس فقط في الأمور السفلية، بل وفي العلوية، إذ وحّد شعوب الأمم مع شعب إسرائيل على الأرض، ووحّد كليهما معًا مع الملائكة في السماء. فقد أعلنت الملائكة عند ميلاده: "على الأرض السلام" (لو 2: 14).

البابا غريغوريوس (الكبير)

"من أنت أيها الجبل العظيم، أمام زربابل تصير سهلاً، فيخرج حجر الزاوية بين الهاتفين كرامة كرامة له" (زك 4: 7).

"مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف 2: 20).

يرى القديس أغسطينوس[1341] أنه بدعوة السيد المسيح رأس الزاوية، وهو رأس الكنيسة، بهذا تكون الكنيسة هي الزاوية التي ضمت اليهود من جانب والأمم من الجانب الآخر.

v     حدث في ذلك اليوم الذي هو يُدعى ميلاده رآه الرعاة اليهود، بينما في هذا اليوم يليق أن يُدعى "الظهور الإلهي" أي "الإعلان" سجد له المجوس الأمميون... حقًا لقد وُلد كحجر زاوية للاثنين، وكما يقول الرسول: "لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ" ]١٥-١٦[. ما هو حجر الزاوية إلاَّ ربط حائطين ذوي اتجاهين مختلفين، وكأنهما يتبادلان القبلة! المختونون مع غير المختونين، أي اليهود مع الأمم، اللذان كانا يحملان عداوة مشتركة، ولهما أمور أساسية تعزلهما عن بعضهما البعض، فاليهود كانوا يعبدون الله الواحد الحق، والأمم كانوا يعبدون آلهة كثيرة باطلة. الأولون كانوا قريبين والآخرون كانوا بعيدين. لقد قاد الفريقين إلي نفسه، ذاك الذي صالحهما مع الله في الجسد الواحد، وكما قال نفس الرسول: وذلك بالصليب قاتلاً العداوة[1342].

القديس أغسطينوس

عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا،

وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟ [7]

عند بناء بيت ما أو كنيسة أو مشروع ما يحتفل الإنسان مع أصدقائه بالبدء في حفر الأساسات والبدء في وضعها.

في بدء إعادة بناء الهيكل "أقاموا الكهنة بملابسهم بأبواقٍ، واللاويين بني آساف بالصنوج لتسبيح الرب، وغنوا بالتسبيح والحمد للرب، لأنه صالح لأن إلى الأبد رحمته على إسرائيل، وكل الشعب هتفوا هتافًا عظيمًا للرب لأجل تأسيس بيت الرب" (عو 3: 10-11). وإذ يقيم الرب كنيسته، قيل: "فيخرج حجر الزاوية بين الهاتفين كرامة كرامة له: (زك 4: 7). عند ولادة السيد المسيح حجر الزاوية لكنيسة العهد الجديد "ظهر بغته مع الملاك جمهور من الجند السماوي، مسبحين الله" (لو 2: 13).

يا لها من صورة رائعة حيث انطلقت الطغمات السمائية المنيرة "كواكب الصبح" تهتف وتسبح الله عندما رأوا أساسات الأرض قد وُضعت. فمع أنها لم توضع لأجلهم، وإنما لأجل الإنسان القادم، وليس لأجلهم. بالحب حسبوا سعادة الإنسان سعادتهم، وما يُقدم لهم كأنه لهم.

يشبّه الله نفسه بمهندس أنشأ بيتًا عجيبًا، حين خلق العالم، فتهللت الطغمات السماوية لهذا العمل الفائق. أين كان أيوب في ذلك الحين؟

في الفصل السابع من مناظرة الأب سيرينوس أوضح أن الله خلق السمائيين قبل خلقه العالم. "عندما صُنعت الكواكب معًا سبحتني الملائكة بصوٍت عالٍ" (أي 7:38 LXX). فقد كانت الملائكة موجودة في بدء خلقة العالم تسبحه على أعمال خلقته للعالم المنظور لنا[1343].

في تعليق للقديس يوحنا الذهبي الفم على علامات المنتهى الواردة في متى 29:24، يقول بأن الملائكة سبحت الرب بصوتٍ عالٍ حين خلق الكواكب (راجع أي 38: 7 LXX). بالأكثر يسبحونه حين يتم التغير النهائي حيث تتساقط النجوم، إذ لا يعود لها حاجة حيث لا يوجد ليل في الأبدية[1344].

v     كل التناسق المجيد غير المنطوق به الذي للسمائيين العلويين سواء في خدمة الله أو في الاتفاق المشترك بين القوات السماوية يمكن أن يُحفظ بتوجيه الروح[1345].

القديس باسيليوس الكبير

v     من يتجاسر فيظن أن الملائكة قد خُلقت بعد ستة أيام الخليقة؟ إن كان غبيًا هكذا، فإن غباوته تُزال بالكتاب المقدس الذي له سلطان مشابه، حيث يقول الله: "عندما خلقت الكواكب هتفت الملائكة لي بصوتٍ عالٍ (أي 38: 7). إذا وًجدت الملائكة قبل الكواكب، الكواكب خلقت في اليوم الرابع. فهل نقول إن الملائكة خُلقت في اليوم الثالث؟ حاشا! فإننا نعلم ما الذي خلق في ذلك اليوم. اليابسة انفصلت عن المياه، وكل عنصر أخذ شكله المميز، وأنتجت الأرض كل ما عليها[1346].

القديس أغسطينوس

3. جهله لوضع حدود للبحار

وَمَنْ حَجَزَ الْبَحْرَ بِمَصَارِيعَ حِينَ انْدَفَقَ،

فَخَرَجَ مِنَ الرَّحِمِ [8].

ربما يشير هنا إلى اليوم الثالث من الخلقة عندما قال الله: "لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد" (تك 1: 9).

كانت الأرض والغمر مختلطين معًا، وإذ أمر الله بفصلهما اندفعت المياه كما من رحم الأرض وتكونت البحار.

تكونت البحار الضخمة وصارت كما لو كانت محبوسة بمصاريع أو أبوابٍ لا تخرج منها.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن البحر هنا يرمز للقلب الذي لا يمكن للإنسان أن يحفظه أو يقدسه بدون النعمة الإلهية.

v     ما هو هذا البحر إلا قلبنا الثائر بصراعٍ عنيفٍ مرّ، يزهو بتشامخ الكبرياء، ويظلَّم بخداع الشر؟ يا لقدرة أمواجه الثائرة، الأمر الذي يدركه من يفهم في نفسه سرّ تجارب الأفكار.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لماذا يقول: "عندما وُلد (خرج من الرحم)"؟ ليظهر أن هذا تم على مراحل، وأن الخلقة لم تتم كما بضربة واحدة. إنها تعكس على السامع ما قاله موسى. كما لو كان قد وُلد، حيث تدفق البحر أولاً، وبعد ذلك أخذ شكله، واجتمع معًا في موضع واحد (تك 1: 9). فلا تظن أنه أمر طبيعي للبحر أن تحده شواطئه، إنما سمح الله له في البداية بالعكس أن يوجد الماء وينتشر على كل سطح الأرض.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لقد وضع الله حدودًا للبحر البدائي.

إِذْ جَعَلْتُ السَّحَابَ لِبَاسَهُ،

وَالضَّبَابَ قِمَاطَهُ [9].

إذ يتطلع إلى البحر كطفلٍ حديث الولادة يحتياج إلى ملابس وقماط، فقدم له الله السحب كرداء يغطيه، والضباب كقماط يضمه. هكذا يتعامل الله مع البحر الضخم كطفلٍ صغيرٍ يحتاج إلى مرضعة تقمطه وتهتم به، بالرغم من أمواجه الشديدة الهياج وتياراته الجارفة.

لم يقل جعل الجبال والصخور والتلال قماطه، إنما جعل الضباب هكذا، الأمر الذي لا يخطر على فكر إنسان.

v     لا تظن أن الضباب الذي فوق المياه أمرًا طبيعيًا. يقول إنه كائن بأمره (الإلهي).

القديس يوحنا الذهبي الفم

وَجَزَمْتُ عَلَيْهِ حَدِّي،

وَأَقَمْتُ لَهُ مَغَالِيقَ وَمَصَارِيعَ [10].

لئلا يثور البحر ويتمرد فيحطم حياة الإنسان على الأرض ألزمه الله بحدودٍ معينة، وأقام له مغاليق وأبواب لوضع حدود لحركته.

هذه الحدود والمغاليق والأبواب لم توضع لتُفقد البحر قيامه بدوره أو تحطم رسالته، إنما على العكس، هي لصالح البحر نفسه كما لنفع الأرض.

يضع الله لقلوبنا ناموسًا إلهيًا أو وصية، لا ليكتم أنفسنا، ولا ليحرمنا من السعادة والحرية، وإنما بهذه الوصية الإلهية نتشكل فنعود لنصير على صورة الله ونتشبه به. هذا لسعادتنا وسعادة الغير.

الوصية لا تحبسنا لنكون كما في سجن، إنما تعين قلوبنا لتتسع بالحب نحو الله والناس حتى المقاومين لنا، بل ونحب كل الخليقة، ونحب نفوسنا في الرب.

وَقُلْتُ: إِلَى هُنَا تَأْتِي وَلاَ تَتَعَدَّى،

وَهُنَا تُتْخَمُ كِبْرِيَاءُ لُجَجِكَ؟ [11]

لا نجد هنا شيئًا من الأساطير التي انتشرت قديمًا، مثل ظهور حيوانات بحرية مرعبة ضخمة. إنما في أسلوب أدبي روحي رائع، يصور البحر كما لو وُلد في جو من الهدوء، له دوره الحيوي بالتفاعل مع اليابسة لخدمة الإنسان. مع ضخامة المحيط وشدة اللجج وضع الله قوانين لا يتعداها.

v     من يستطيع أن يخبر عن أعماق البحار وسعتها وقوة أمواجها الهائلة؟! ومع هذا فهي تقف عند حدود مرسومة لها، إذ قيل: "إلى هنا تأتي ولا تتعدى، وهنا تدخل، وهنا تتخم كبرياء لُججك" فيُظهر البحر الطاعة بوضوح، إذ يجرى ليقف الشاطئ في خط واضح صنعته الأمواج، معلنًا لناظريه أنه لا يتعدى الحدود المرسومة له[1347].

القديس كيرلس الأورشليمي

يقول إرميا النبي: "أإياي لا تخشون يقول الرب أولا ترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر، فريضة أبدية لا يتعداها، فتتلاطم ولا تستطيع، وتعج أمواجه ولا تتجاوزها" (إر 5: 22). يقدم ثيؤدورت أسقف قورش البحر دليلاً على العناية الإلهية.

v     لكي أقنعك بهذا عُد ثانية إلي البحر، ولاحظ أعماقه وامتداده وأقسامه إلي خلجان وشواطئه وموانيه والجزائر التي في منتصفه، وأنواع السمك الذي فيه وأجناسه وأشكاله وتنوعه وولوعه نحو الشاطئ. لاحظ حدود أمواجه، ولجام العناية التي تضبطها، وتمنعها عن أن تفيض على البر. عندما تندفع الأمواج نحو الرمل تلتزم بالحدود، ملاحظين الناموس الإلهي منحوتًا هناك. إنها تشبه حصانًا روحيًا يكبحه مدربه، فتحني الأمواج رقبتها وتتراجع، كمن تقدم توبة متراجعة عند تلامسها مع الرمل[1348].

الأب ثيودورت أسقف قورش

v     بين أكثر الأمور ضعفًا هو الرمل، لا يقدر البحر أن يقاومه في عنفه، إذ يكون به مُلجمًا.

القديس باسيليوس الكبير

4. جهله كيف يبرز نور الفجر

هَلْ فِي أَيَّامِكَ أَمَرْتَ الصُّبْحَ؟

هَلْ عَرَّفْتَ الْفَجْرَ مَوْضِعَهُ [12]

يقدم الله لأيوب أسئلة مربكة حتى يكتشف عجزه التام عن إدراك حكمة الله، ويشعر أنه ليس من وجه للمقارنة بين تفكيره وتفكير الله. هذه الأسئلة، وإن كان العلم مع تقدم الأبحاث يقدم إجابات على بعضها، لكن تبقى أسرار الطبيعة تفوق كل فكر بشري. ما نعرفه علميًا لا يُقارن بما لم نعرفه بعد.

يتحدث هنا عن بدء ظهور النور في الفجر، كلنا متأكدون من وجود النور ونتمتع به مع الفجر حتى تشرق الشمس.

لم يسأله: هل في سلطانك أن تتعجل ظهور الفجر وبزوغ النور؟ وإنما سأله عن أمرين هما، إن كان الإنسان موجودًا عند أمر الرب بظهور النور، وهل يستطيع أن يحدد موضعًا للفجر. لم يكن الإنسان موجودًا عندما خلق الله النور، وليس في سلطانه أن يأمر النور ليشرق ولا أن يحدد الموضع الذي يشرق عليه. وكما يقول المرتل: "السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 19: 1-2).

v     السماوات (الأجرام السمائيّة) تطيعه، إذ تتحرّك بسلام في خضوع لقوانينه.

تقطع ليلاً ونهارًا الطريق المرسوم لها دون أن تعيق بعضها بعضًا.

الشمس والقمر مع النجوم تجتاز الطريق المرسوم لها، حسب أمره دون أي انحراف.

والأرض المخصبة، بحسب إرادته، تثمر في فصول مناسبة طعامًا وفيرًا للإنسان والوحوش، وكل الكائنات الحيّة التي على وجه الخليقة...

الأعماق (الهاويّة) التي لا يُسبر غورها، وتنظيمات العالم السفلى غير الموصوفة، تخضع لذات القوانين.

البحر الفائق الاتساع، بعمل (الله) يجتمع فلا يعبر الحدود التي وُضعت له، إنّما يمتثل لأوامر (الله).

إذ قال: "إلى هنا تأتي، وفي أعماقك تتحطّم أمواجك"( أي ٣٨ : ١١).

محيط لا يقدر الإنسان أن يجتازه، وعوالم قائمة وراءه[1349] توجّهها إرادة الرب.

فصول الربيع والصيف والخريف والشتاء تتتابع هادئة، الواحد وراء الآخر.

 تقوم الرياح[1350] بدورها في الوقت المعيّن بغير عائق، والينابيع التي لا تنضب تقدّم أثداءها بغير توقف حياة للبشر. أصغر الحيوانات تجتمع في وئام وألفة.

 كل هذه الأعمال نظّمها الخالق العظيم رب المسكونة، تتحرّك في ألفة ووئام، صانعًا خيرًا للجميع، خاصة لنا نحن، إذ نجد ملجأ في حنوه، بربنا يسوع المسيح.

 الذي له المجد والعظمة إلى أبد الأبد، آمين[1351].

القديس إكليمنضس الروماني

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في تفسيره الرمزي أن الكنيسة المقدسة تُدعى فجرًا حيث تتطلع إلى مكافأة الحياة السماوية المشرقة وتتخلى عن ظلمة الخطية، إنها تستنير بأشعة شمس البرّ.

لِيُمْسِكَ بِأَطْرَافِ الأَرْضِ،

فَيُنْفَضَ الأَشْرَارُ مِنْهَا؟ [13]

يصٌَور الفجر بظهوره وسط الظلام ليشرق بألوان جميلة فتتوقف أعمال الخطاة الذين يجدون في ظلمة الليل فرصة لممارسة شرورهم المظلمة.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أطراف الأرض هم المتواضعون الذين يمسك بهم السيد المسيح، أي صيادو السمك الذين يفحمون معلمي الناموس.

تَتَحَوَّلُ كَطِينِ الْخَاتِم،

وَتَقِفُ كَأَنَّهَا لاَبِسَةٌ [14].

يحمل الطوب في مصر وبابل وأشور ختما يميز مصانع الطوب عن بعضها البعض. كانت جرار الخمر المصري والأماكن التي توضع فيها المومياء تختم بختم على طين. ووجد في أشور بعض مستندات عامة عليها طين مختوم بحروف معينة وتميز الختم الرسمي. أيضًا الحجرات التي توضع فيها الكنوز كانت تختم بختم على طين. وربما قبر السيد المسيح ختم هكذا ( مت 27: 66). وكان الطين يفضل عن الشمع، لأن الأول يزداد صلابة بالنار، أما الثاني فينصهر بها[1352].

مع كل صباح جديد تشرق الشمس على الأرض، فتبدو منيرة كأنها ترتدي ثوبًا جديدًا، هكذا يطبع شمس البرّ نوره على كنيسته، فيصيرها فجرًا جديدًا تتمتع مع كل صباح خبرة جديدة في التمتع بحب الله لها. هكذا تظهر صورة المسيح على كنيسته ومؤمنيه الحقيقيين كما يظهر الختم على الطين.

وَيُمْنَعُ عَنِ الأَشْرَارِ نُورُهُمْ،

وَتَنْكَسِرُ الذِّرَاعُ الْمُرْتَفِعَةُ [15].

سبق أن تحدث أيوب عن فزع اللصوص والمجرمين من نور الصباح لأنه يفضحهم (أي 24: 13). هنا يعلن الله عن أشعة نور الصباح، أي أشعة شمس البرّ التي تكسو الكنيسة الحقيقية بثوب برِّه البهي، وفي نفس الوقت يحرم الأشرار من نور بهجتهم، ويكسر ذراعهم التي يرفعونها ضد الله والناس.

نور السيد المسيح الذي يهب حياة أبدية لمؤمنيه، هو دينونة لمقاوميه. يقول السيد المسيح نفسه: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15: 22). ويقول الرسول بولس: "لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 16).

v      لمن إذن "رائحة موت لموتٍ" إلا للذين لا يؤمنون، والذين لا يخضعون لكلمة (لوغوس) الله؟... مرة أخرى، من هم أولئك الذين يخلصون وينالون الميراث؟ بلا شك إنهم الذين يؤمنون بالله ويستمرون في محبته كما فعل كالب بن يفنة ويشوع بن نون (عد ٣٠:١٤) والأطفال الأبرياء (يونان ١١:٤) الذين ليس لهم إحساس بالشر. لكن من هم أولئك الذين يخلصون الآن، ويتمتعون بالحياة الأبدية؟ أليس الذين يحبون الله، ويؤمنون بوعوده، ويصيرون أطفالاً في الخبث (١ كو ٢٠:١٤)؟[1353]

القديس إيريناؤس

5. جهله لإدراك ظل الموت والظلمة

هَلِ انْتَهَيْتَ إِلَى يَنَابِيعِ الْبَحْر،ِ

أَوْ فِي مَقْصُورَةِ الْغَمْرِ تَمَشَّيْتَ؟ [16]

يسأله إن كان يعرف ما هو كامن في قاع البحر وما يحمله من كنوز، وهل يقدر أن يصف ينابيع مياه البحر.

يعود إلى العالم البدائي، ويظهر المحيط وإن كان مدمرًا يتعاون مع الموت، فهل أدرك أيوب أسرار المياه وسٌر الموت؟

v     إنه يشير إلى ارتباك أيوب: "وفي دروب الفجر (العمق) تمشيت". أقول لك ليس فقط هل يمكنك أن تنجز أحد هذه الأعمال التي أنا صنعتها، وإنما لا تستطيع حتى أن تعرف كيف تحققت، ولا أن تعرفها أو تتخيلها كما هي حقيقة. بهذه الكلمات كان يعلم أيوب عن المسافة التي تفصل بين أيوب وبنيه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

هَلِ انْكَشَفَتْ لَكَ أَبْوَابُ الْمَوْتِ،

أَوْ عَايَنْتَ أَبْوَابَ ظِلِّ الْمَوْتِ؟ [17]

الآن بعد أن سأله عن أمور تخص الطبيعة نفسها كظهور الفجر، ينابيع البحر، وما يحويه قاع البحار، يسأله عن أمر أكيد يمس حياة الإنسان، ألا وهو الموت، الذي كما قيل عنه أنه يصاحب الإنسان منذ لحظة ميلاده ولا يعرف متى يحل به. يبقى الموت لغزًا في حياة الإنسان، لا يعرف متى يحل به، وبأية وسيلة، ولا يقدر أن يصفه، ولا أن يصف الموضع الذي ترحل إليه نفسه، وكيف يمارس حياته بعد الموت. أمور يقدمها لنا الإيمان، ويكشفها لنا الخالق محب البشر، مع أنه حقيقة تمس حياة كل إنسان!

يرى البعض أنه يقصد بالموت الموضع الذي تجتمع فيه النفوس بعد انتقالها، أي مملكة الموتى، أو الجحيم ، أما ظل الموت فيشير إلى نفس حركة خروج النفوس وانطلاقها. هذه أمور غامضة بالنسبة للإنسان، لكنها مكشوفة لله.

v     حقًا كيف نعجب إن كان البشر قد فشلوا بحكمتهم الأرضية أن يدركوا سر الله الآب وربنا يسوع المسيح الذي فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة المختفية (كو 3:2)، هذا السرّ الذي ما كان للملائكة أن تعرفه بغير إعلان لهم!

لأنه من يقدر من ذاته - وليس بالإيمان - أن يتصور متتبعًا الرب يسوع، إذ نزل (الكلمة) من أعالي السماوات إلى أسافل الجحيم، وها هو يصعد من الجحيم إلى السماوات، وفى نفس الوقت يسكن بيننا دون أن ينقص شيئًا عما كان عليه...

لقد وقفت الملائكة أيضًا في دهش عجيب أمام السر السماوي، هكذا عندما قام الرب لم تحتمل أعالي السماوات مجد القيامة من الأموات، هذا الذي قد حبس أخيرًا في رباطات القبر الضيقة، حتى صارت الملائكة في حيرة...!

فقد جاء "الغالب" متزينًا بغنائم مدهشة. جاء الرب في هيكله المقدس بينما تتقدمه الملائكة ورؤساء الملائكة متعجبين إزاء تلك الغنائم التي انعتقت من الموت... وبنصرة الصليب - حيث كان الحكم على كتفيه - حُملت الغنائم إلى نصرة أبدية.

جاء وكأن الأبواب قد ضاقت به... إذ لا تقدر أن تدخل عظمته، لذلك بحثوا عن طرق أوسع وممرات أسهل للرب في عودته، وهكذا لم ينقص الرب شيئًا بسبب إخلاء نفسه (إذ عاد إلى مجده السماوي ومعه غنائمه).

على أي الأحوال، لقد وجدوا أنه يلزم أن يُعد أمام وجه هذا "المنتصر" الجديد طريق جديد، لأنه هو دائمًا كما كان أعظم من غيره. ولكن لأن أبواب البر التي هي أبواب العهد القديم والجديد، التي فيها تنفتح السماوات، هي أبواب أبدية، لذلك فهي بالحق لا تتغير، لكنها ارتفعت لأن الداخل ليس إنسانًا بل العالم كله يدخل في شخص مخلص الكل.

القديس أمبروسيوس

هَلْ أَدْرَكْتَ عَرْضَ الأَرْضِ؟

أَخْبِرْ إِنْ عَرَفْتَهُ كُلَّهُ! [18]

لم يكن بعد قد دار أحد حول الكرة الأرضية، وما كان يمكن لإنسان حتى ذلك الحين أن يعرف أبعادها، مع أن الأرض ذاتها تحسب نقطة وسط عظمة الكون كله الذي أبدعه الله.

أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَيْثُ يَسْكُنُ النُّورُ،

وَالظُّلْمَةُ أَيْنَ مَقَامُهَا [19].

يتعاقب النور الظلمة، والظلمة النور هذا ما يلاحظه الإنسان كل يوم، لكن هل يعرف سٌر النور وسٌر الظلمة، أين يسكنان.

يستحيل على الإنسان أن يحدد موضعًا خاصًا بالنور الملموس والظلمة، فكيف يمكنه أن يدرك ذاك الذي خلق النور وفصله عن الظلمة. وماذا يمكن للإنسان أن يعرف عن نور البرّ الإلهي وظلمة الشر.

ما يعرفه الإنسان أن الله قادر أن يحول قلب الإنسان من ظلمة الشر إلى نور البرّ، أما كيف يتحقق هذا، فهذا ما لا يستطيع أن يصفه بدقه. في كل يوم نلمس عمل الله هذا حيث يشرق بنور برّه على الخطاة ليحول خطاة إلى قديسين.

حَتَّى تَأْخُذَهَا إِلَى تُخُومِهَا،

وَتَعْرِفَ سُبُلَ بَيْتِهَا؟ [20]

كثيرًا ما يشتاق الإنسان إلى بزوغ نور النهار ليتمم عملاً ما، كما يشتاق إلى ظلمة الليل ليستريح من تعب العمل في النهار، لكنه لا يعرف إلى أين يذهب نور النهار أو ظلمة الليل.

تَعْلَمُ لأَنَّكَ حِينَئِذٍ كُنْتَ قَدْ وُلِدْتَ وَعَدَدُ أَيَّامِكَ كَثِيرٌ! [21]

أراد الله أن يظهر حقيقة الإنسان خارج دائرة نعمته، فيسأل أيوب إن كان يعلم هذه الأمور، إن كان عمره يرجع إلى بدء الخليقة، وكان ذلك الحين مولودًا.

لا يليق بالإنسان أن يناقش الله فيما يفوق قدرته مثل خلقة النور، إنما بإيمان ينصت إلى قوله الإلهي: "أنا مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر (التأديبات). أنا الرب صانع هذه كلها" (إش 45: 7).

6. جهله للسحب والبَرَدْ والرعد...

أَدَخَلْتَ إِلَى خَزَائِنِ الثَّلْج؟

أَمْ أَبْصَرْتَ مَخَازِنَ الْبَرَد؟ِ [22]

بعد أن ناقش الله موضوع الخليقة أشار إلى الظواهر الطبيعية القائمة مثل نزول الثلج وهبوب الرياح وسقوط الأمطار. هذه كلها التي أوجدها الله من أجل كل إنسانٍ. كان يليق بأيوب أن يتأمل هذه الأعمال العجيبة التي لا يمكن للفكر البشري أن يحدها تمامًا، ومع أنها موجودة من أجله، عوض الانشغال بالتجارب التي تحل به. ليس وجه للمقارنة بين ما يسمح به الله للإنسان من ضيق وبين عنايته الإلهية بكل العالم من اجل الإنسان. يليق بالمؤمن أن يتسع قلبه وفكره ليمجد الخالق المدبر كل شيءٍ لأجله.

حينما يسقط الثلج في البلاد الباردة يدهش من الكميات التي لا حصر لها التي تسقط على بلاد بأكملها، فيبدو كأن السماء قد امتلأت مخازنها بالثلج والبَرَدْ.

يلمس سكان المناطق التي تتعرض للثلوج عناية الله بهم، ويرون في الثلوج كنوزًا ثمينة. فهي تحفظ للأرض دفئها فلا تنزل حرارتها إلى ما قبل الصفر بدرجات كثيرة، كما يعطي الثلج خصوبة للأرض. لهذا بعد فترة الثلج مباشرةً نجد النباتات في المنطقة التي كانت مغطاة بالثلج تنمو بسرعة عجيبة.

يستخدم الرب الثلج والبَرَدْ لتحقيق أغراضه كحفظ مؤمنيه من غارات الأشرار، فيُسقط عليهما الثلج والبَرَدْ في يوم القتال كما حدث وقت الطوفان وانصبت المياه من هذه المخازن لتغرق العالم الشرير، وكما رمى على الكنعانيين حجارة عظيمة من السماء (يش 10: 11).

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في الثلج والبرد إشارة إلى القلوب الباردة من جهة محبة الله، كما قيل: "تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12). هذه القلوب يتطلع إليها الرب لا باستخفاف ولا بروح الغضب، وإنما كنوز تحتاج إلى من يحركها. لقد حرك بنفسه قلب شاول الطرسوسي الذي اعترف بأنه كان مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا، وأقام منه الرسول العظيم الملتهب بالغيرة المقدسة.

الَّتِي أَبْقَيْتَهَا لِوَقْتِ الضَّرِّ لِيَوْمِ الْقِتَالِ وَالْحَرْبِ؟ [23]

استخدم الرب هذه المخازن لتأديب الأشرار (خر 9: 18؛ يش 10: 11؛ رؤ 16: 21؛ إش 28: 17؛ مز 18: 12- 13؛ حج 2: 17).

فِي أَيِّ طَرِيقٍ يَتَوَزَّعُ النُّورُ،

وَتَتَفَرَّقُ الرِّيحُ الشَّرْقِيَّةُ عَلَى الأَرْضِ؟ [24]

في ظاهرة السحب الرعدية يظهر نور البرق إلى لحظات؛ لكن من يقدر أن يصف بدقة كيف يصدر النور، وما هي سرعته، وما هو جوهره، وكيف يتبدد بسرعة الخ.

يرى البعض أنه يتحدث عن النور المنبعث مع الفجر لينتشر على الأرض. مثل هذه الظاهرة بسيطة يلمسها البشر في حياتهم اليومية ومع هذا لا يدركون أسرارها.

يسأل أيضًا أيوب إن كان يدرك كيف تتوزع الريح الشرقية على المناطق. ولعله ربط بين النور والريح الشرقية بكون مصدرهما هو من الشرق، وينتشران على المناطق والبلاد ولا يستطع أن يتتبع انتشارهما.

مَنْ فَرَّعَ قَنَوَاتٍ لِلْهَطْلِ وَطَرِيقًا لِلصَّوَاعِقِ [25].

يبدو للإنسان كأن لا ضابط للأمطار ولا لتجمع المياه في قنوات متفرعة، ولا عندما تغمر المياه الكثير من الأراضي حتى كأنها قد خرجت عن طاعة الله الذي حدد مسارها.

 كل الأمور تسلك بسماحٍ إلهي، وقد قيل عن قلب الملك إنه في يد الله كجداول مياه حيثما شاء يميلها (أم 21: 1).

وكما يوجه الله جداول المياه، هكذا له سلطان على مسار الصواعق.

لِيَمْطُرَ عَلَى أَرْضٍ حَيْثُ لاَ إِنْسَان،َ

عَلَى قَفْرٍ لاَ أَحَدَ فِيه [26].

إن كان الله يحدد حتى أماكن المطر، ففي عنايته بخليقته يسمح بالمطر حتى في الأماكن غير الآهلة بالسكان، لكي تجد وحوش البرية ماءً، أو إن عبر بها مسافر.

لِيُرْوِيَ الْبَلْقَعَ وَالْخَلاَءَ وَيُنْبِتَ مَخْرَجَ الْعُشْبِ؟ [27]

إن كان الله يهتم بالإنسان بصفة خاصة، إلا أنه لا يتغافل المخلوقات الدنيئة التي في البراري، والحيوانات المفترسة. وكما يقول المرتل: "المفجِّر عيونًا في الأودية، بين الجبال تجري. تسقى كل حيوان البر تكسر الفراء (الحمار الوحشي) ظمأها" (مز 104: 10-11).

هَلْ لِلْمَطَرِ أَبٌ، وَمَنْ وَلَدَ مَآجِلَ الطَّلِّ؟ [28]

سبق فتحدث عن البحر العظيم كطفلٍ خرج من الرحم بأمر الله، قمَّطه بالضباب، وكساه بالسحاب، وكأن الله أشبه بمربية حتى للبحر الجماد. الآن يتحدث عن الطل، القطرات غير المحصاة فيصورها كمولود حديث يهتم الله حتى بقطرة الطل! إنه عامل في كل الطبيعة بطبيعته الصالحة الفائقة.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله كثيرًا ما يستخدم تعبير الولادة حتى بالنسبة للخلائق الجمادات، ليؤكد ليس من خليقة جاءت مصادفة، إنما كل الأمور هي في ذهن الله الكلي الحب والرعاية.

v     "من هو أب للمطر؟! ومن ولد قطرات الطل؟!" (أي 38: 28)

من كثّف الهواء في السحب، وربطها ليحمل مياه الأمطار فتأتي ذهبية اللون (أي 37: 22) من الجنوب، بنظام واحد تارة، وفي شكل دوائر متعددة وأشكال متباينة تارة أخرى؟!

من يحصي الغيوم بالحكمة (أي 38: 37)، إذ قيل في أيوب يعرف انفصال السحاب؟! (أي 33: 16 LXX)

 من هو "المخرج الريح من خزائنه" (أي 35: 7)، وكما قلنا قبل "من ولد قطرات الندى ومن بطن من خرج الثلج؟!" (مز 135: 7؛ أي 38: 28) فإن مادتها ماء وقوتها كالحجر!

في وقتٍ ما يصير الماء ثلجًا كالصوف (راجع مز 16:147)، وأخرى يذريه صقيعًا كالرماد، وثالثة تصير مادة حجرية. إنه يحكم الماء كما يريد.

v     طبيعة الماء واحدة لكن عمله متعدد في القوة، فيعمل في الكرمة خمرًا يفرح قلب الإنسان، وفي الزيتونة زيتًا يلمع وجهه، وفي الخبز يسند قلب الإنسان (مز 15:104)، ويوجد في كل أنواع الفاكهة التي خلقها الله[1354].

القديس كيرلس الأورشليمي

مِنْ بَطْنِ مَنْ خَرَجَ الْجَلِيدُ؟

صَقِيعُ السَّمَاءِ مَنْ وَلَدَهُ؟ [29]

تتجمد المياه لتصير جليدًا وثلجًا لفترة وجيزة للغاية وبكميات يصعب أو يستحيل حصرها تكشف عن عجز الإنسان عن إدراك ظواهر طبيعية تتم أمامه وبسرعة لا يتوقعها. أية قوة مخلوقة تقدر أن تتمم هذه الظواهر العجيبة؟

كَحَجَرٍ صَارَتِ الْمِيَاهُ. اخْتَبَأَتْ.

وَتَلَكَّدَ وَجْهُ الْغَمْرِ [30].

يتألم البابا غريغوريوس (الكبير) أن اليهود الذين كانوا يشبهون الأمطار التي تروي الأرض، بسبب عدم إيمانهم فقدوا كل حرارة روحية وصاروا أشبه بحجارة باردة ثلجية.

7. جهله للكواكب وأثرها على الأرض

هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا

أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟ [31]

إذ ربط كثير من الفلاسفة مصائر الناس بحركات الكواكب، لذلك تحدث عن مجموعات الكواكب، فإن الله قد خلق هذه جميعها بحكمة، ومهما درس الإنسان الفلك وتعرف على بعض أسرار الكواكب، فإنه لا سلطان له عليها، ولا سلطان للكواكب على مصائر الناس.

v     أتعرف من ذاك الذي يحصي عدد الكواكب، ويدعوها بأسمائها؟ هل تعرف فوارق المجد الذي لكل منها (1 كو 41:15)، ونظام تحركها، فأثق فيك عندما تنسج نسيج الشئون البشرية، وتسلح المخلوق ضد الخالق؟[1355]

 القديس غريغوريوس النزينزي

أَتُخْرِجُ الْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا،

وَتَهْدِي النَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ؟ [32]

يقصد بالمنازل الكواكب التي في الجنوب، وبالنعش الكواكب التي في الشمال. مَنْ من البشر له سلطان على تحريك الكواكب. لكن الله وحده يستخدمها، كما جاء في سفر القضاة: "من السماوات حاربوا. الكواكب من حُبكها حاربت سِيسرا" (قض 5: 20).

جاء تعبيرا "المنازل" و"النعش" في الترجمة السبعينية: Mazuroth وكواكب المساء؛ وجاء في نص البابا غريغوريوس (الكبير) كوكب الصباح وكوكب المساء. ويرى البابا أن كوكب الصباح هو السيد المسيح الذي أعلن لنا عن الصباح الأبدي، والذي قام في الصباح من الموت وأشرق ببهاء نوره علينا، محطمًا ظلمة فسادنا لاق أن يدعوه يوحنا "كوكب الصبح المنير" (رؤ 22: 16). أما كوكب المساء القادم فهو ضد المسيح هذا الذي يسمح له الرب أن يسود على أبناء الأرض، على القلوب غير المؤمنة والتي تتقبل سيادة ضد المسيح عليها.

v     جلب الآب كوكب الصباح في حينه، إذ مكتوب: "لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس" (غل 4: 4-5). إذ ولد من عذراء ظهر ككوكب الصباح وسط ظلمة ليلنا. فإنه إذ طرد قتام الخطية أعلن لنا الصباح الأبدي. لكنه أظهر نفسه ككوكب الصباح لأنه قام في الصباح من الموت، وغلب ببهاء نوره على بشاعة ظلمة موتنا. بلياقة دعاه يوحنا "كوكب الصبح المنير" (رؤ 22: 16)، إذ ظهر حيًا بعد الموت. صار لنا كوكب الصبح. أحيانًا في شخصه مثالاً للقيامة. كما أشار إلى النور القادم (المخادع). إنه يسمح لكوكب المساء أن يسيطر على بني الأرض إذ يسمح لضد المسيح أن يسيطر على قلوب اليهود غير المؤمنة... يقول الرب في الإنجيل: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه" (يو 5: 43). يقول أيضًا بولس: "لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا ولأجل هذا سيُرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب، لكي يُدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سرو بالإثم" (2 تس 2: 10-12). لذلك فإن كوكب المساء لن يسيطر على الذين أرادوا أن يكونوا أبناء السماء.

البابا غريغوريوس (الكبير)

هَلْ عَرَفْتَ سُنَنَ السَّمَاوَاتِ،

أَوْ جَعَلْتَ تَسَلُّطَهَا عَلَى الأَرْضِ؟ [33]

ليس من يعرف سنن السماوات أو يدرك أسرارها، وأحكامها. أما السماء فتدرك ما على الأرض ويكتشف السمائيون الكثير من أسرار محبة الله وخطته نحو البشرية. كأن الله يقول لأيوب: "إن كنت قد سمحت لك بالتجارب، فأنت لا تدرك ما يدور في السماء، لكن السمائيين يدركون لماذا سمحت لك بالضيقات ويعلمون محبتي لك ودفاعي عنك ضد الشيطان.

 8. جهله قوة الله في الجو والظواهر الطبيعية

أَتَرْفَعُ صَوْتَكَ إِلَى السُّحُب،ِ

فَيُغَطِّيَكَ فَيْضُ الْمِيَاهِ؟ [34]

سبق فرأينا أن السحب تشير إلى أنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد، فالله يتكلم خلال رجاله القديسين كما من السحب، وهو وحده يغطي الإنسان بمياه نعمته وعطية روحه القدوس.

لقد جاء الرب يتكلم بين السحب حيث شهد له الأنبياء ويكرز به الرسل، وقد قبلت الشعوب كمياه كثيرة الإيمان به، وكأنه قد غطاه فيض المياه. لم يكن ممكنًا لأيوب البار ولا لغيره من رجال العهد القديم إدراك هذا السرّ بوضوح كما تحقق بمجيء السيد المسيح.

أَتُرْسِلُ الْبُرُوقَ فَتَذْهَب،َ

وَتَقُولَ لَكَ: هَا نَحْنُ؟ [35]

تشير السحب إلى الرسل الذين جالوا يكرزون بالإنجيل، أما البروق التي تصدر عن السحب فهي الآيات والعجائب التي وهبها الله للرسل للشهادة عن الحق الإلهي. إحدى هذه البروق الصادرة عن السحب، ما قاله بطرس الرسول للأعرج: "ليس لي فضة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإياه أعطيك. باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشِ" (أع 3: 6-7).

كما أن السحب تخضع لله هكذا البرق يشهد له في طاعة.

مَنْ وَضَعَ فِي الطَّخَاءِ حِكْمَة،ً

أَوْ مَنْ أَظْهَرَ فِي الشُّهُبِ فِطْنَةً؟ [36]

41. يترجم البعض الطخاء بالإعصار. أما الشُهب فهي شعلة نار ساطعة.

جاءت الترجمة السبعينية: "من يعطي النساء مهارة الغزل (النسيج) ومعرفة التطريز؟"

v     لاحظوا هذا: إنه يتحدث عن الجانب العملي. إنه يخلط الأمور الصغيرة بالكبيرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس أمبروسيوس في هذه العبارة إشارة إلى نسج الصدرية السماوية التي للسيد المسيح بكونه رئيس الكهنة الأعظم، هذه التي تُنسج من قوة الله وحكمته وبرِّه، ومزينة بالحجارة الكريمة. أو هو ثوب العرس السماوي المزين بحجارة متنوعة، ومنسوج بالذهب، إنه نسيج الإيمان العامل[1356].

 مَنْ يُحْصِي الْغُيُومَ بِالْحِكْمَةِ،

وَمَنْ يَسْكُبُ أَزْقَاقَ السَّمَاوَاتِ [37].

"أزقاق" جمع كلمة "زق" أي زجاجة. هل يستطيع إنسان مهما بلغت حكمته أن يحصي الغيوم التي في السماء، ويضعها بدقة، ويحدد حجمها ووزنها؟ ومن يستطيع أن يتحدث عن الأمطار التي تنسكب من السماء كما من زجاجات ضخمة؟

إِذْ يَنْسَبِكُ التُّرَابُ سَبْكًا،

وَيَتَلاَصَقُ الطِّينُ؟ [38]

إن كان الأشرار كالعصافة في مهب الريح (مز 1: 4) أو كالتراب أو الغبار الطائر في الجو، لأنهم بلا محبة تجمعهم معًا بالروح؛ فإن الله في محبته يهبهم روح الحب ليتلاصقوا معًا ككتل الطين النافعة.

9. عناية الله بالحيوانات غير العاقلة

أَتَصْطَادُ لِلَّبْوَةِ فَرِيسَة،ً

أَمْ تُشْبِعُ نَفْسَ الأَشْبَالِ [39].

اختيار هذه الحيوانات والطيور (39:38-30:40) لم يكن اختيارًا بلا هدف، لكن يمكن القول إنها تمثل موكب الحيوانات والطيور المقاومة للمجتمع الإنساني في نظر الإنسان في ذلك الحين. لذلك كثيرًا ما صورت الشياطين بأشكال هذه الحيوانات والطيور. عناية الله فائقة حتى بالوحوش المفترسة والطيور التي تهاجم المجتمع البشري. هذه جميعها ليس فقط يعرف الله طرقها، وإنما تخضع له وهو الذي يعولها. فإن كان الله اهتم بالخليقة الجامدة التي أوجدها من العدم، واهتم بقوانين الجو من نزول ثليج أو هبوب رياح أو نزول أمطار، ويهتم بالاعتناء بحيوانات البرية والطيور الجارحة، فكيف لا يهتم بشئون الإنسان الذي من أجله خلق هذه كلها؟

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن اللبوة هنا تشير إلى اليهودية المتكبرة، إذ تقبل الإيمان بالسيد المسيح خلال كرازة الكنيسة، فإن السيد المسيح نفسه يقوم بإشباع نفوس أبنائها.

حِينَ تَرْبِضُ فِي عَرِينِهَا،

وَتَكْمُنُ فِي غَابَتِهَا لِلْكُمُونِ؟ [40]

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أنه يتحدث هنا عن الفترة ما بين آلام السيد المسيح وحلول الروح القدس في عيد العنصرة حيث توقف الرسل والتلاميذ عن الخدمة فكانوا كاللبوة التي تربض في عرينها وتكمن في الغابة في حالة كمون. كانوا منتظرين وهم في خوف من المقاومين حتى يلبسوا قوة من الأعالي للبدء في الكرازة.

إنهم يشبهون اللبوة التي تبقى في عرينها مع الأشبال الصغار حتى يأتي الأسد بالفريسة لهم.

 مَنْ يُهَيِّئُ لِلْغُرَابِ صَيْدَهُ،

إِذْ تَنْعَبُ فِرَاخُهُ إِلَى اللهِ،

وَتَتَرَدَّدُ لِعَدَمِ الْقُوتِ؟ [41]

عجيب هو الله في رعايته وعنايته بخليقته، إذ يهتم حتى بفراخ الغربان، فيعطيها قوتها (مز 147: 9). يهتم الإنسان بالمخلوقات النافعة له أما الله فيهتم بكل الخليقة. إنه ينصت حتى صياح (نعيب) فراخ الغربان.

يُقال إن الغربان لا تهتم بصغارها، فتنعب الصغار كما إلى الله، والله يعطيها قوتها. إنها تعلمنا أن نصرخ "يا أبا الآب" (رؤ 8: 15)، فهو يسمع لنا حتى إن لم يسمع لنا والدينا. وكما يقول المرتل: "أبي وأمي تركاني وأما الرب فضمني".

إن كان قد شبه اليهود القادمين للإيمان باللبوة التي يشبع الله احتياجات أشبالها، فإنه يشبه الأمم بالغربان، والله يهتم بهؤلاء وأولئك: "المعطي البهائم طعامها لفراخ الغربان التي تصرخ" (مز 147: 9).

v     تتقبل الحيوانات طعامها عندما تقتات الأذهان البهيمية على الكتاب المقدس. لكن يُعطي الطعام لفراخ الغربان، أي لأبناء الأمميين عندما تنتعش اشتياقاتهم بمحادثاتنا معهم... صغار الغربان، أي الكارزون القديسون القادمون من كنيسة الأمم، بالحق لا يتكلون على أنفسهم بل على قوة مخلصهم لذلك حسنًا قيل: "عندما يصرخ صغاره لله"، إذ يدركون أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا بقوتهم الذاتية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

من وحي أيوب 38

هب لي أن أدرك عظمة عنايتك

v     من أجلي وضعت للأرض أساساتها، وأقمتها كما على أعمدة.

ليس من يعرف أسرارها الخفية سواك.

تطلع السمائيون إلى أعمالك من أجلي، فتقدموا كخورس متناغم،

ترنموا وسبحوا بروح التهليل، وهتف الكل من أجل حبك ورعايتك!

وضعت للبحر حدودًا.

أغلقت عليه كما بمتاريس ومصاريع.

كسرت تشامخه وكبرياء لججه!

لأنزل إلى أعماق البحر،

وأتمشى فأُبهر من كنوزه الخفية.

v     مع كل فجرٍ أقف في دهشة، أرى قبسات النور تبدأ لتشرق.

من يقدر أن يحدد موضعها؟ من يقدر أن يقيس أبعادها؟

يا لك من خالق قدير وعجيب!

v     تشرق الشمس لتهب بهجة للأرض، مع كل صباح أراها كأنها جديدة!

أتلمس في أشعة الشمس بهاء نعمتك.

تتهلل نفسي بأعمالك اليومية!

v     أتطلع إلى السحب، من يقدر أن يدرك حجمها!

من يعرف بدقة أوزانها؟

حتى العواصف والثلوج والجليد، كلها لا تفلت من يدك.

إنها تعمل بسماح منك!

v     كل الطبيعة تسخرها لي،

تهتم حتى بالأمطار لتروي لي الأرض.

يا للعجب! لا تتجاهل حتى حيوانات البرية المتوحشة!

تعتني بي كملكٍ أقمتني على الأرض،

وتعتني بالحيوانات والطيور،

حتى الخليقة الجامدة هي موضع عنايتك!

تقدم للوحوش المفترسة طعامَا في البرية أو في الغابة.

وتسمع نعيب صغار الغربان، وتقوتها!

لك المجد يا راعي الكل بحبك!

[1333] Cf. Adam Clarke’s Commentary.

[1334] Homilies on the Psalms, 5.

[1335] On the Great Athanasius, 18.

[1336] Commentary on Luke, Homily 150.

[1337] Homilies on Ephesians, 23.

[1338] The Long Rules, Question 23.

[1339] Oration 41 on Easter, 18.

[1340] المطمار هو خيط البناء الذي يضمن به استواء الحائط ووضعه الرأسي.

[1341] Sermons on  N.T. 39: 4.

[1342] Hom for Epiphany, Ser. 204, PL 38: 1037.

[1343] Cassian: Conferences, 8:7:2.

[1344] Cf. Homilies on Matt., Homily 76:3.

[1345] On the Spirit, 16: 38.

[1346] City of God, 11:9.

[1347] Catechetical Lectures, 9:11.

[1348] On Divine Providence, Discourse 2: 18.

[1349] يعلّق Lightfoot (ص ٨٤) على هذه العبارة بأنه من المحتمل أن يكون اكليمندس متوقعًا أرضًا في أقصى الغرب وراء المحيط متل جزيرة اتلنتس الخرافيّة التي ظن أفلاطون وجودها في المحيط الأطلسي، أي ربّما قصد أمريكا الحقيقية التي لم تكن مكتشفة بعد.

[1350] أوزان الرياح (أي ٢٨ : ٢٥).

[1351] 1 Epistle, 20.

[1352] James M. Freeman: Manners and Customs of the Bible, Logos International Plainfield. N J, 1972, p. 214-5.

[1353] Adv. Haer. 4:28:3

[1354] Catechetical Lectures, 9:9.

[1355] Second Theological Oration, 30.

[1356] cf. St Ambrose: Of the Christian Faith, Book 2: 10.