اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ

نعمة الله ورعايته الفائقة

غالبًا ما كان شعب الله يتغنى بهذه التسبحة في أحد الأعياد. يرى البعض أنه مزمور شكر لله بعد أن أنقذهم من مجاعة حلَّت بالبلاد.

يقدم شعب الله الشكر لله بكونه مخلص الإنسان من خطاياه، والخالق العجيب المهتم بخليقته، ومن أجل عمله معهم في بيته المقدس، كما يلمسون عنايته الفائقة وعطاياه الإلهية، خاصة عطية روحه القدوس، الذي يُحَوِّل برية حياتهم القفرة إلى جنة مبهجة.

يقول القديس أثناسيوس إن هذا المزمور يحتوي على نبوة عن الذين آمنوا بالمسيح، وشكرهم لله على هدايته لهم، وطلب الغفران منه عما مضى منهم من عبادة الأوثان.

أقسامه

1. لك التسبيح أيها المخلص            1-4.

2. لك التسبيح أيها الخالق              5-8.

3. لك التسبيح أيها المعتني بنا          9-13.

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّين. مَزْمُورٌ لِدَاوُد. تَسْبِيحَةٌ

1. لك التسبيح أيها المخلص

يقف شعب الله كما كل عضو منهم في دهشة أمام حب الله الفائق، الذي يقبلنا شعبه الخاص، ويقيمنا أعضاء في كنيسته ننعم بفيض خيراته، إذ يجعلها مخزن كنوز نعمه العجيبة.

في ليتورجية عيد تجديد كنيسة القيامة في أورشليم وفي عيد الصليب ومزمور إنجيل أحد الشعانين، ترنم الكنيسة بالعددين 1، 2 من هذا المزمور للأسباب التالية:

أ. الكنيسة هي جماعة التسبيح والفرح الداخلي؛ وصليب السيد المسيح هو مصدر الفرح والينبوع الذي يفيض علينا بروح التسبيح لله محب البشر.

ب. أبواب كنيسة العهد الجديد مفتوحة لكل إنسان، أيًا كانت جنسيته، ومهما كانت خطاياه، فهي تدعو الجميع للتمتع بالصليب، حيث بذل كلمة الله المتجسد نفسه من أجل العالم كله.

ج. جاءت كلمة "الصلاة" في العبرية هنا تعني أيضًا "النذر"، فإذ أعلن الله محبته العملية للبشرية، يتقبل بمسرة نذر المؤمنين بالتجاوب بالحب مقابل الحب.

لَكَ يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ يَا اللهُ فِي صِهْيَوْنَ،

وَلَكَ يُوفَى النَّذْرُ [1].

جاءت كلمة "التسبيح" هنا في الأصل تعني الوقوف في دهشة وصمت رهيب، حيث يتأمل الشعب كما المؤمن عطايا الله التي تفوق الفكر. وإذ يندهش المؤمن من عطايا الله، يقف في صمت ينتظر أن يتعرَّف على إرادة سيده الذي أفاض عليه بالعطايا.

في شيء من الإطالة تحدث القديس أغسطينوس في تفسيره لهذا المزمور، بأنه يخص الشعب الذي نُقل إلى بابل أسيرًا، وينتظر تحقيق وعود الله كما جاء في إرميا بالعودة بعد 70 سنة من السبي (إر 25: 11؛ 29: 10). أمام الإنسان أحد اختيارين: إما أن يسكن في أورشليم التي تعني رؤية السلام أو في بابل ومعناها ارتباك. يقول القديس أغسطينوس: [محبتان تقيمان هاتين المدينتين، محبة الله تقيم أورشليم، ومحبة العالم تقيم بابل... الآن لنسمع يا إخوة، ونُسَبِّح، ونشتاق إلى تلك المدينة التي نحن مواطنون فيها].

v     وطننا هو صهيون. أورشليم هي بعينها صهيون؛ يليق بنا أن نعرف تفسير هذا الاسم. فكما أن "أورشليم" تُفسَّر برؤية السلام، هكذا تُفسَّر "صهيون" بالمشهد أو رؤية beholding، أي رؤيا vision أو تأمل contemplation. لقد وُعدنا برؤية عظيمة يصعب تفسيرها، هذه المدينة يبنيها الله نفسه.

جميلة ورائعة هي المدينة، فكم يكون الذي يبنيها أبرع جمالاً؟

"لك ينبغي التسبيح يا الله" [1] ولكن أين؟ "في صهيون". أما في بابل فلا يليق ذلك.

فعندما يبدأ الإنسان يتجدد فعلاً بالقلب في أورشليم يرنم مع الرسول، قائلاً: "فإن سيرتنا (محادثتنا) هي في السماوات" (في 3: 20). يقول: "لأننا وإن كنا نسلك في الجسد لسنا حسب الجسد نُحَارَب" (2 كو 10: 3). بالفعل نحن نشتاق إلى هناك، بالفعل نترجى تلك البلد (السماء)، بكونها مرساة نذهب إليها، لئلا نصاب بالغرق في أمواج هذا البحر.

بنفس الطريقة نقول بحقٍ إنها (السفينة) ترسي على الأرض، فإنها لا تزال تتموج، إما إذا بلغت الأرض تصير في أمان من متاعب الرياح والعواصف. لهذا فإنه في مواجهة تجارب هذه الرحلة، يقوم أساس رجائنا على مدينة أورشليم هذه، فلا نتحطم على صخور!

من له هذا الرجاء فليغني ويقول: "لك ينبغي التسبيح يا الله في صهيون" [1].

القديس أغسطينوس

ماذا يعني الوفاء بالنذر هنا سوى تقديم ذبيحة التسبيح والشكر مع الطاعة بفرح لوصية الله المحبوبة!

v     "ولك يوفى النذر" [1]، في أورشليم. فإننا سنكون هناك كاملين، أي نكون في قيامة الصديقين كاملين.

هناك يوفى كل نذرنا، ليس من جهة النفس وحدها، بل والجسد أيضًا، لا يعود بعد قابلاً للفساد، لأنه لا يعود بعد ليكون في بابل، بل يصير الآن جسدًا سماويًا ويتغير...

سيغلب السلام، وستنتهي الحرب. وعندما يغلب السلام، فستغلب تلك المدينة التي تُدعى رؤية السلام (أورشليم). لا يعود يوجد بعد كفاح مع الموت. الآن يا لخطورة الموت الذي نكافحه!

القديس أغسطينوس

يكشف هذا القول عن شوق بعض المسبيين إلى العودة إلى وطنهم، حتى يقدموا التسبيح لله في صهيون، ويوفوا النذور في أورشليم، في هيكل الرب.

يرى القديس أثناسيوس أن هذا القول كان من قبل الذين آمنوا من الأمم، قائلين: كنا قبلاً نقدم التسابيح للحجارة والأخشاب والشياطين، لكن الآن تحققنا بالإيمان أنه لك وحدك يا الله ينبغي التسبيح في كنيستك الشريفة.

إن لم يرتفع قلب المؤمن إلى صهيون السماوية، ويختبر عربون الحياة في أورشليم، لا يقدر أن يقدم تسبيح لله، وأن يوفي نذور الشكر له.

يَا سَامِعَ الصَّلاَة،ِ

إِلَيْكَ يَأْتِي كُلُّ بَشَر (جسد)ٍ [2].

كثيرًا ما يستخدم الكتاب المقدس كلمة "جسد" أو كلمة "نفس" ليقصد بها الإنسان ككل. فعندما يُقال "الكلمة صار جسدًا" يعني تأنس، صار إنسانًا له جسده ونفسه وعقله، شابهنا في كل شيء ماعدا الخطية.

وعندما قيل عن يوسف "في الحديد دخلت نفسه" (مز 105: 18)، يقصد الإنسان كله حيث يُسجن الجسد وتئن النفس من الضيق.

ويرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن كل خاطئ هو بشر، إذ يأتي إلى الله، ويتمتع بالشركة معه يصير أشبه بالروح.

v     لا يحتاج ذوو المعرفة أن نخبرهم أن في الكتاب المقدس كله يُسمَّى المسيح "الإنسان" و"ابن الإنسان" ومع ذلك، فإذا أصروا على النص "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا" (يو 1: 14) وجعلوا هذا سببًا لإلغاء أنبل سمة للإنسان (العقل) بحيث يستطيعون أن يلصقوا الله بالجسد، فقد حان الوقت لأخبرهم أن الله لابد أنه إله الأجساد فقط وليس إله النفوس أيضًا بسبب النصوص الكتابية التالية: "إذ أعطيته سلطانًا على كل جسد" (يو 17: 2)، "إليك يأتي كل جسدٍ" (مز 65: 2)، و"ليبارك كل جسدٍ اسمه القدوس" (مز 145: 21)، ويقصد بكل جسدٍ كل إنسان. ولابد أن آباءنا قد ذهبوا إلى مصر في شكل غير جسدي وغير مرئي، وأن نفس يوسف فقط هي التي وضعها فرعون في السجن والقيود، حيث إننا نقرأ أن الذين اُستدعوا إلى مصر كانوا "خمسة وسبعين نفسًا" (أع 7: 14) وأيضًا "في الحديد دخلت نفسه" (مز 105: 18) بينما النفس لا يمكن أن تُكبَّل بالأغلال. إن من يقولون هذا الكلام، ويتمسكون بالحرف، يجهلون أن الكلمات يمكن استخدامها كصور بلاغية بحيث يدل الجزء على الكل (النفس على النفس والجسد والعقل على سبيل المثال). نقرأ "فراخ الغربان" في (مز 147: 9) وهي تعني جنس الطيور كله، و"الثريا" (أي 38: 33 وما يليها)، ونجم المساء والدب القطبي مذكورة أيضًا، ويقصد بها كل النجوم وترتيبها[35].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     أيضًا "يبصر كل جسد flesh  خلاص الله" ،( لو 3: 6 "يبصر كل بشر")، "إليك يأتي كل جسد" (مز 65: 2) ماذا تعني كلمة "كل جسد flesh " إلا "كل بشر

وأيضًا "لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسدٍ لا يتبرر" (رو 3: 20) ماذا تعني إلا "كل إنسان لا يتبرر"؟ 

وهذا كشفه الرسول نفسه بصورة أوضح في موضع آخر إذ يقول: "ألستم جسديين، وتسلكون بحسب البشر؟" (1 كو 3: 3) فعندما دعاهم جسديين لم يقل: "وتسلكون حسب الجسد"، بل "حسب البشر" لأنه بالحق لو كان من يسلك "حسب الجسد" يستحق اللوم، ومن يسلك "حسب البشر" يستحق المديح، لما قال لهم موبخًا "وتسلكون حسب البشر‍".

أنصت يا إنسان. لا تسلك حسب البشر، بل حسب (الله) الذي خلقك[36]

القديس أغسطينوس

v     كيف نفهم: "إليك يأتي كل جسد"؟ يُقصد بكل جسد "كل نوع من الجسد".

هل يأتي أناس فقراء، ولا يأتي أغنياء؟ هل يأتي وضيعون، ولا يأتي عظماء؟ هل يأتي أميون، ولا يأتي متعلمون؟ هل يأتي رجال، ولا تأتي نساء؟ هل يأتي سادة، ولا يأتي عبيد؟ هل يأتي شيوخ، ولا يأتي صغار؟ أو يأتي صغار، ولا يأتي شباب؟ أو يأتي شباب، ولا يأتي صبيان؟ أو يأتي صبيان، ولا يأتي أطفال؟

في اختصار هل يأتي يهود ولا يأتي يونانيون؟ أو يأتي يونانيون ولا يأتي رومانيون؟ أو يأتي رومانيون ولا يأتي برابرة.

كيف تأتي أعداد من كل الأمم إليه، ذاك الذي قيل عنه: "إليك يأتي كل بشرٍ"؟

القديس أغسطينوس

يرى الأب غريغوريوس الكبير في هذه العبارة نبوة عن قبول كل الأمم للإيمان، حيث تصير الأرض وملؤها للرب ومسيحه. تبقى الكنيسة تصلي من أجل كل البشر لا للتكتل، وإنما للتمتع بالشركة مع الله. هذه الصلاة مقبولة لدى الله، يسمع لها ويستجيب.

v     ستمتلئ هذه الشبكة تمامًا عندما تكشف كل عدد الجنس البشري في نهاية الزمن. سيحضرها الصياد ويجلس على الشاطئ، لأنه كما أن البحر يشير إلى الزمن الحاضر، فإن الشاطئ يشير إلى نهايته[37].

البابا غريغوريوس (الكبير)

أخيرًا، يمكننا أن نلمس من هذه العبارة أن رجال الله كانوا بروح النبوة يترقبون بشغف ويُصلُّون دومًا لأجل تمتع كل البشرية بالشركة مع الله. كان يصعب على اليهودي العادي أن يصرخ إلى الله لكي يأتي كل بشرٍ إليه، لكن رجال الله كانوا يجدون مسرتهم في تحقيق الوعود الإلهية بخلاص العالم كله.

آثَامٌ قَدْ قَوِيَتْ عَلَيَّ.

مَعَاصِينَا أَنْتَ تُكَفِّرُ عَنْهَا [3].

يترجمها البعض: "كلمات الخطاة تسحقنا". فغير المؤمنين لن يكفوا عن مقاومة الحق الإلهي واضطهاد المؤمنين بوسيلة أو أخرى. لكن إن كان الذين بلا ناموس يستخدمون كل وسيلة ليقضوا على المؤمنين، ويفسدون إيمانهم، إذ يتقدم المؤمنون  إلى الله فيغفر لهم ما سقطوا فيه بسبب الأشرار.

جاءت الترجمة السبعينية: "كلمات العصاة قد قويت عليَّ" وجاءت في نص القديس أغسطينوس "حوارت الظالمين قويت عليَّ". هنا يقف القديس أغسطينوس في مرارة من جهة الذين ينشأون في مناطق وثنية أو في بيئات شريرة، فيتربى الأطفال على الشر، لكن الله لا يتركهم في الفساد. إنه يفتح لنا باب الخلاص ويعلن لهم نفسه كغافرٍ للخطايا.

يقول القديس أغسطينوس: [الإنسان أينما وُلد، يتعلم من تلك البلد أو المنطقة أو المدينة اللغة والأخلاقيات وطريقة الحياة في ذلك الموضع. ماذا يفعل صبي يُولد بين وثنيين لكي يتجنب عبادة حجر، مادام والديه يوحون إليه بهذه العبادة؟ يتعلم منهما أول الكلمات التي يسمعها منهما، بل ويتعلم الخطأ مع اللبن الذي يرضعه... لذلك فإن الأمم التي تحولت إلى المسيح بعد ذلك، وقد حملوا في قلوبهم اللاتقوى التي لوالديهم، يقولون الآن ما قاله إرميا نفسه: "إنما ورث آباؤنا كذبًا وأباطيل، وما لا منفعة فيه" (إر 16: 19). عندما أقول إنهم الآن يقولون هذا، فإنهم يجحدون أفكار آبائهم الأشرار وتجديفاتهم.]

"مَعَاصِينَا أَنْتَ تُكَفِّرُ عَنْهَا". لا يبرر المؤمن خطاياه وسقوطه بمقاومة إبليس وقواته ضده، إنما يعترف بخطاياه أمام الله، واثقًا أنه غافر الخطايا والمعاصي. وكما يقول ميخا النبي: "من هو إله مثلك غافر الإثم، وصافح عن الذنب لبقية ميراثه" (مي 7: 18).

ليس من طريق للخلاص إلا الركوض إلى الله، والالتصاق به، والاعتراف بالخطايا والآثام من كل القلب. وقد تحقق هذا الخلاص بعمل السيد المسيح الكفاري على الصليب.

v     "معاصينا أنت تكفر عنها". أنت هو الكاهن، وأنت هو الذبيحة.

أنت مقدم (الذبيحة)، وأنت هو التقدمة.

القديس أغسطينوس

طُوبَى لِلَّذِي تَخْتَارُهُ وَتُقَرِّبُهُ لِيَسْكُنَ فِي دِيَارِكَ.

لَنَشْبَعَنَّ مِنْ خَيْرِ بَيْتِكَ قُدْسِ هَيْكَلِكَ [4].

إن كان العدو يريد أن يسلبنا كل شيءٍ، فإننا إذ ندخل بيت الرب، تنفتح أمامنا أبواب السماء، ونرى الهيكل الأبدي، وننعم بالخيرات السماوية.

بالدخول في بيت الرب، نختبر الحياة السماوية المطوَّبة، وندرك أن دخولنا ليس عن فضلٍ منا، وإنما خلال حب الله الذي اختارنا وقرَّبنا إليه، وجعلنا أهل بيته.

تُقدَّم الطوبى لا للشعب ككلٍ فقط، بكونه جسد المسيح، وإنما لكل مؤمنٍ حقيقي أيضًا، بكونه عضوًا في هذا الجسد المطوَّب.

"طُوبَى لِلَّذِي تَخْتَارُهُ". يرى القديس أغسطينوس أن كلمة الله إذ تجسد لأجلنا اختاره الآب، لكي نتمتع نحن أعضاءه المتحدين معًا فيه دون انشقاق بهذا المركز. باتحادنا فيه نتمتع باختياره كاختيار لنا. "إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح" (أف 4: 13).

v     الذي تقرَّب إليه؛ وهو ليس بدوننا، نحن أعضاؤه تحت رأسٍ واحدٍ يحكمنا، وبروحٍ واحدٍ نحيا جميعنا، وأبوة واحدة كلنا نشتاق إليها... فماذا يعطينا؟

"يسكن في ديارك"، أي في أورشليم، الذين يسبحون لكي يبدأوا في الخروج من بابل.

"ليسكن في ديارك. لنشبعن من خير بيتك".

ما هي خيرات بيت الله؟

ليتنا يا إخوة نضع أمامنا بعضًا من غنى البيت.

يا لكثرة الخيرات التي تملأ البيت. يا لفيض الأثاثات التي يُجهز بها، وضخامة عدد الأواني الذهبية والفضية أيضًا. كم من خيول وحيوانات، وباختصار يا لكثرة ما يبهجنا به البيت من لوحات ومرمر وأسقف وأعمدة ودواليب وحجرات... مثل هذه بالحقيقة أمور مطلوبة، لكنها لا تزال موضوع ارتباك بابل.

لتقطع كل هذه المشتهيات يا مواطن أورشليم، اقطعها، إن أردت أن ترجع، لا تدع السبي يبهجك.

لكن ألست بالفعل أردت أن تخرج منه؟ لا تنظر إلى الوراء، لا  تتلكأ في الطريق.

هناك (في بيت الله) لا يوجد أعداء يزكونك في السبي والرحيل. ليس بعد من يقفون ضدك بأحاديث الأشرار.

فإن بيت الله يشتاق إليك. لا تشتهِ مثل هذه الأمور التي اعتدت أن تطلبها سواء في بيتك أو في بيت قريبك أو في بيت نصيرك.

القديس أغسطينوس

2. لك التسبيح أيها الخالق

باسم الكنيسة كلها، ينطلق المرتل إلى الطبيعة، ليلتمس قدرة الخالق العجيبة. القدرة التي تُعلن عن سلطانه الإلهي غير المنفصل عن حبه ورعايته. إنه الإله السماوي الذي ينشغل دومًا بالإنسان الذي أعطاه الأرض ليعيش عليها، ويتدرب على الحياة السماوية، فينطلق إلى السماويات، ينعم بالأمجاد الأبدية.

بِمَخَاوِفَ فِي الْعَدْلِ تَسْتَجِيبُنَا يَا إِلَهَ خَلاَصِنَا،

يَا مُتَّكَلَ جَمِيعِ أَقَاصِي الأَرْضِ وَالْبَحْرِ الْبَعِيدَةِ [5].

"مَخَاوِفَ فِي الْعَدْلِ تَسْتَجِيبُنَا يَا إِلَهَ خَلاَصِنَا" حقًا إن أحكام الله مرعبة للخطاة والأشرار والعصاة، كما هي مهوبة حتى بالنسبة للقديسين.

يرتعب الخطاة كعبيدٍ أخذوا موقف العداوة والمقاومة ضد الله سيد البشرية، ويهاب القديسون الله كأبناء يوقرون أباهم السماوي.

إن كان الله مخوف للجميع، لكنه يستجيب لطلبات مؤمنيه الذين يطلبون عن خلاص العالم، فيفتح الرب أبواب الرجاء أمام كل الأمم. إنه يُسَرُ كمخلص العالم أن يسمع صوت كنيسته المملوءة حبًا لجميع البشرية تطلب منه عنهم.

عظيمة هي نعمته المجانية التي تدعو الكل للتمتع بها.

يترجم القديس أغسطينوس كلمة "العدل"، بالبرّ، ويرى "البرّ" هو خيرات ذاك البيت. فإن هيكل الله عجيب، لا بأعمدته ولا بمرمره ولا بأسقفه المطلية بالذهب، وإنما عجيب في البرّ.

هذا البرّ الذي لا يحمل جمالاً أمام الأعين الجسدية بل أعين القلب.

v     يوجد نوع من الجمال في البرّ، الذي نراه بعين القلب، ونحبه ونلهبه بالوجدان...

هذه هي خيرات بيت الله، التي بها تُعَد نفسك لكي تشبع...

"طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ لأنهم يشبعون" (مت 5: 6).

"هيكلك المقدس عجيب بالبرّ". ذاك الهيكل نفسه يا إخوة، لا تظنوا أنه كلا شيء، بل هو أنفسكم.

أحبوا البرّ، فتكونوا هيكل الله.

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أن البحر هنا يشير إلى العالم حيث يفترس الواحد الآخر، أما أولاد الله فإن المخلص هو رجاؤهم يحميهم من الأشرار وإن كان لا يعزلهم عنهم. حتى في الشباك يوجد صالحون وأشرار (مت 13: 47-49). وعلى شاطئ الحياة الأبدية يُعزَل هؤلاء عن أولئك.

v     "تستجيبنا يا الله، مخلصنا" [5]. الآن يكشف لنا من هو الذي يُدعَى الله. إنه المخلص، الرب يسوع المسيح.

الآن ظهر  بالأكثر إلى من يأتي كل بشر... "استجبنا يا الله، مخلصنا، يا رجاء جميع أقاصي الأرض والبحر البعيدة"... يأتون من كل الأركان...

"من أقاصي البحر البعيدة"... لأن البحر هو رمز لهذا العالم، الملح المرّ، مع متاعب العواصف، فيه أناس منحرفون ولهم شهوات فاسدة، يصيرون كالسمك يفترس الواحد الآخر. لاحظوا البحر الشرير، البحر المُرّ، بأمواج عنيفة، لاحظوا بأي نوع من البشر ممتلئ.

من يشتهي الميراث إلا بموت آخر؟ من يطلب ربحًا إلا بخسارة الغير؟ كم من كثيرين يرغبون في المجد بسقوط الآخرين؟ كم من كثيرين لكي يشتروا يطلبون من الآخرين أن يبيعوا؟...

هيا يا مواطني أورشليم الذين في داخل الشباك، وأنتم سمك صالح، احتملوا الأشرار فإن شباككم لا تتمزق. أنتم معهم في البحر، لكنكم لن تكونوا معهم في ذات الأوعية. فإنه ذاك الذي هو "رجاء جميع أقاصي الأرض"، هو نفسه رجاء "البحر البعيد".

القديس أغسطينوس

v     هذا القول أظهر النبي بوضوح أن ربنا يسوع المسيح هو إله ومخلص، خلَّصنا من عبودية الشيطان...

"الذين في البحر بعيدًا"... هم الذين كانوا في بحر الكفر، الكثير الأمواج والشديد الملوحة، بعيدين عن الله، لكنهم بالإيمان خلصوا من ملاطمة أمواج الشرور، وصاروا قريبين إليه.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v     الذين في أقاصي الأرض هم الذين يمارسون الإثم بكماله، والذين في البحار البعيدة هم الذين في جهالة عظيمة. ومع ذلك فإن المسيح هو رجاء هؤلاء وأولئك[38].

الأب دورثيئوس من غزة

الْمُثْبِتُ الْجِبَالَِ بِقُوَّتِهِ،

الْمُتَنَطِّقُ بِالْقُدْرَةِ [6].

ما هذه الجبال التي تبدو ثابتة وراسخة إلى الأبد، سوى الممالك والإمبراطوريات، حيث ظن الملوك والأباطرة أن ممالكهم لن تزول. وكما قال الملك نبوخذ نصر: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي" (دا 4: 30). قيل عن هذه الجبال المتشامخة: "لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار؛ تعج وتجيش مياهها؛ تتزعزع الجبال بطموها" (مز 46: 2-3). كما قيل: "هأنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب المهلك كل الأرض، فأمد يدي عليك، وأدحرجك على الصخور، وأجعلك جبلاً محرقًا" (إر 51: 25).

كما أن الجبال تشير إلى الأباطرة المتشامخين وإمبراطورياتهم، فهي من جانب آخر تشير إلى جبابرة الإيمان الذين يتمتعون بالثبات والقوة بفضل القدرة الإلهية. ليس لهم فضل في ذواتهم، إنما فضل النعمة الغنية العاملة فيهم.

v     "مُعدًا الجبال بقوته" [6]، وليس بقوتهم. فإنه يُعِدُ كارزيه العظماء وأولئك الذين يدعوهم جبالاً هم متواضعون في أنفسهم، وأقوياء فيه...

ماذا يقول أحد هذه الجبال؟ "كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون مُتَكِّلين على أنفسنا، بل على الله الذي يُقيم من الأموات" (2 كو 1: 9)...

أولئك الذين يضعون المسيح في وسطهم، "المتنطق"، يجعلونه محاطًا من كل جانب. نحن جميعنا نقتنيه بصفة عامة، فهو في وسطنا. فنطوقه، إذ نؤمن به، لأن إيماننا ليس في قوتنا بل في قوته. لذلك فهو متمنطق بقوته، لا بقوتنا.

القديس أغسطينوس

الْمُهَدِّئُ عَجِيجَ الْبِحَارِ،

عَجِيجَ أَمْوَاجِهَا وَضَجِيجَ الأُمَمِ [7].

الله القدير الذي يهب جباله المقدسة، أي قديسيه الثبات، يهب البحار المقدسة أيضًا هدوءً وسلامًا داخليًا.

قيل: "رسم حدًا على وجه المياه" (أي 26: 10). والعجيب أن الحدود التي وضعها الله للبحار والمحيطات غالبًا ما تكون بواسطة الرمال الصغيرة الحجم جدًا. وكأن الله يؤكد أنه مهما حمل الإنسان من اضطرابات داخلية ومِحَن خارجية، فإنه يستخدم الأمور التافهة كحبات الرمل لكي تحفظه من الاضطرابات والمحن.

عندما جاء السيد المسيح إلى عالمنا أمر الرياح وأمواج البحر بالهدوء فأطاعته الطبيعة للحال.

يرى القديس أغسطينوس أن الله المخلص إذ يعمل في حياة الأمم، ويقوِّي الكارزين به كجبال شامخة، ويمنطق نفسه بالمؤمنين، إذ يهبهم قدرته، يثور الأشرار ويعجون من أعماق قلوبهم ضد الكنيسة. في هياجهم من يقدر أن يحتمل اضطهاداتهم وتهديداتهم؟ لا نقدر بأنفسنا على ذلك، إنما يهبنا المخلص القدرة على الاحتمال.

v     إنه يُعِد الجبال بقوته، ويُرسلهم للكرازة، ويتمنطق بالمؤمنين في قدرةٍ، عندئذٍ يتحرك البحر؛ يتحرك العالم ويبدأ يضطهد قديسيه.

"إذ يتمنطق بالقدرة، يضطرب في أعماق البحر". لم يقل: "يضطرب البحر"، إنما "عمق البحر". عمق البحر هو قلب الأشرار. فإنهم كما من العمق الدفين تثور كل الأمور، وتثبت كل الأمور من العمق. فما يحدث باللسان أو الأيادي والقوات المختلفة لاضطهاد الكنيسة يخرج من العمق. لو لم تكن جذور الشر في القلب ما كانت هذه الأمور كلها تحدث ضد المسيح. تضطرب الأعماق، وذلك ربما لا يفرِّغ أيضًا العمق. فإنه في حالة بعض الأشرار يفرِّغ (الله) البحر من عمقه، وجعل البحر برية قيل هذا في مزمور آخر: "حوَّل البحر إلى يابسٍ" (مز 66: 6). كل الأشرار والوثنيين الذين آمنوا كانوا بحرًا وصاروا أرضًا. كانوا في الأول عقيمين بأمواج مالحة، وصاروا بعد ذلك مثمرين ينتجون بِرًا.

من يقدر أن يحتمل عمق البحر، وضجيج أمواجه؟... أي إنسانٍ يحتمل صوت أمواج البحر وأوامر قوات العالم المتشامخة؟... إننا أنفسنا لا نقدر بأنفسنا أن نحتمل تلك الاضطهادات، ما لم نُعطَ هذه القوة.

القديس أغسطينوس

v     ألاَّ ترون هذا البحر بأمواجه الكثيرة ورياحه العنيفة، ومع هذا فإن هذا البحر المتسع العظيم الثائر هكذا تحجزه رمال ضعيفة! لاحظوا أيضًا حكمة الله فقد سمح له ألاَّ يستريح، ولا يهدأ، لئلا تظنوا أن نظامه الصالح هو بتدبير طبيعي، ومع هذا فهو يلتزم بحدوده. يرفع صوته عاليًا باضطرابه وهديره وأمواجه المذهلة في علوها. لكنها إذ تبلغ الشواطئ تحجزها الرمال وتكسرها، فتعود بذاتها إلى الوراء، لكي تُعَلِّمكم بهذه الأمور كلها أن ما يحدث ليس هو من عمل الطبيعة المجردة أن يبقى البحر عند حدوده، بل هذا من عمل ذاك الذي بسلطانه يصده! لهذا السبب جعل الحاجز ضعيفًا، فلم يطوق الشواطئ بأخشاب وحجارة وجبال، لئلا تعزو نظام العناصر إلى مثل هذه الأمور. لذلك فإن الله نفسه درَّبَ اليهود بذات هذه الظروف، قائلاً: "إياي لا تخشون يقول الرب... أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر فريضة أبدية لا يتعداها" (إر 5: 22)[39].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     حبة الرمل، وهي أضعف شيء، تصد عنف المحيط[40].

القديس باسيليوس الكبير

v     استجب لنا في ما نطلبه منك يا من بقوتك توجد الجبال، وتصنع كل شيء بسهولة، كما يقوم المتمنطق بعمله، منطقتك هي الاقتدار. بأمرك يتحرك البحر الذي هو نحن، الذي لا يُحتمل دوي أمواجه.

أما التأويل (التفسير الرمزي) فهو أن البحر هو جموع الأمم الذين أرجفهم الله، فأزعجهم وأدهشهم بعجائبه وحرَّكهم ونقلهم من الكفر إلى الإيمان. والآن تروي أمواجهم أعني أصوات تمجيدهم لله، فمن يحتملها، أي من يقدر أن يصغها، لأن المؤمنين بالمسيح لهم لغات كثيرة.

الأب أنثيموس الأورشليمي

وَتَخَافُ سُكَّانُ الأَقَاصِي مِنْ آيَاتِكَ.

تَجْعَلُ مَطَالِعَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ تَبْتَهِجُ [8].

أمام الآيات والعجائب التي صنعها الله قديمًا، ولا زال يصنعها، خاصة الآية العظيمة الخاصة بالتجسد الإلهي، تقف الأمم في مهابة. وكما قيل بإشعياء النبي: "لكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش 7: 14).

هذه هي آية الحب الإلهي التي تُدهِش السمائيين والأرضيين. فقد أشرق شمس البرّ على البشرية، فأعطاها صباحًا جديدًا، إذ تختبر عربون السماء. كما وهبها بهجة عند المساء، حيث تتهلل النفوس وتبتهج عندما تنطلق من هذا العالم، فتغرُب عنه، لتحظى بنور الأبدية.

يرى القديس أغسطينوس في الصباح إشارة إلى الحياة المملوءة بالوفرة، والمساء متاعب العالم. فالإنسان عندما يُوعَد بالمكاسب تكون الحياة بالنسبة له صباح، وعندما يعاني من متاعب يكون له ذلك مساء. فالمؤمن يستخف بصباح العالم وذلك بنور الرب، ويستهين بالمتاعب من أجل الرب. فإن كان الإنسان لا يجد مسرته في أمور العالم، فإنه لا يضطرب من متاعب العالم، بل يجد بهجته في وعود المخلص.

v     يضطرب البحر، وتتلطم (أمواجه) ضد الجبال. البحر يتحطم والجبال التي لا تهتز تبقى. "تضطرب الأمم، ويخاف كل الناس". انظروا الآن يخاف كل الناس؛ هؤلاء الذين كانوا قبلاً مضطربين الآن هم خائفون...

تحققت معجزات الرسل وعندئذٍ خافت أقاصي الأرض وآمنت.

القديس أغسطينوس

v     إنه لآياتك التي صنعتها في أرض مصر وكنعان قديمًا والتي ستصنعها بحضورك بالجسد على الأرض تضطرب الأمم منها وتفزع، لأنها قد عرفت أنه بأمرك تشرق الأسحار وتغرب العشيات، وصار لها ذلك فرحًا وطربًا.

الأب أنثيموس الأورشليمي

3. لك التسبيح أيها المعتني بنا

تُسَبِّح النفس مُخلِّصها الذي يهبها غفرانًا لخطاياها، ويفتح لها أبواب السماء، بيت الله كبيت تمارس فيه عبادتها. كما تُسبِّح الخالق الذي أبدع في حبه للإنسان فقدَّم له كل احتياجاته، وأشبع أعماقه الداخلية كما جسده أيضًا. والآن تسبح الله الذي يعتني بها، لا على مستوى الجسد وحده، وإنما يقدم لها روحه القدوس ليقيم منها جنة مقدسة، وفردوسًا روحيًا، وملكوتًا له على مستوى سماوي.

تَعَهَّدْتَ الأَرْضَ وَجَعَلْتَهَا تَفِيضُ.

تُغْنِيهَا جِدًّا.

سَوَاقِي اللهِ مَلآنَةٌ مَاءً.

تُهَيِّئُ طَعَامَهُمْ لأَنَّكَ هَكَذَا تُعِدُّهَا [9].

كان الشرق الأوسط يعتز بالأنهار مثل نهر النيل ونهر الأردن ونهري دجلة والفرات، كما يعتز بالينابيع، وذلك بسبب قلة الأمطار. فكما يفيض النهر بالخصوبة على شاطئيه، ويجعل من الأراضي جنات مملوءة بالثمار، هكذا يفتقد الرب الأرض ويرويها بمياهه الإلهية.

يصوِّر المرتّل الله المعتني بكل البشرية وهو يفتقد الأرض من أقاصيها إلى أقاصيها، يُوَجِّه السحاب هنا وهناك، ويبعث بالأمطار، ويهتم بالأنهار والينابيع، حتى لا يحتاج البشر إلى شيء.

جاء السيد المسيح إلى عالمنا، لكي يُفَجِّر في داخلنا ينابيع مياه حية، وكما يقول يوحنا الإنجيلي: وفي اليوم الأخير من العيد، وقف يسوع ونادى قائلاً: "إن عطش أحد فليُقبِل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد" (يو 7: 37-39).

قبلاً كان لله شعب واحد، الآن نعمة الله تعمل في الشعوب فتصير أنهار الله المملوءة بمياه روحه القدوس حسب وعده الإلهي (يو 7: 37-39).

v     "تعهدت الأرض، وجعلتها تسكر". ترسل سحابك، تمطر بالكرازة بالحق، وتسكر الأرض. تغنيها جدًا. كيف؟ "أنهار الله ملآنة ماء. ما هو نهر الله؟ إنه شعب الله.

القديس أغسطينوس

يرى الآب أنثيموس الأورشليمي أن نهر الله هنا يشير إلى خيرات الله التي يفيض بها علينا، كما يشير إلى الإنجيل المقدس المملوء بالوعود الإلهية، وأيضًا إلى نعمة الروح القدس التي يفيض بها على المؤمنين، أما الطعام فهو الخبز المحيي النازل من السماء الذي هو ربنا يسوع المسيح.

إن كنا نُقدِّم كلمة الله للآخرين، فإن الله نفسه هو الذي يُعِد هذا الطعام بنفسه، يُقدِّمه لبنًا للأطفال، وطعامًا قويًا للبالغين.

أَرْوِ أَتْلاَمَهَا.

مَهِّدْ أَخَادِيدَهَا.

بِالْغُيُوثِ تُحَلِّلُهَا.

تُبَارِكُ غَلَّتَهَا [10].

يتطلع المرتل إلى الله بكونه المُزارِع الفريد، الذي يتعهد النفس ليقيم منها فردوسًا مثمرًا. فالفلاح العادي مهما كانت محبته لحقله أو كرمه فلن تتعدى سوى أن يحرث الأرض ويفلحها ويلقي بالبذور ويهتم بالسماد، ويرويها بطريقة أو أخرى، ثم يعود إلى بيته وينام. أما هذا المُزارِع العجيب المشغول بحقله، فيبذل كل حياته من أجل الحقل، ويرويه بروحه القدوس، ويسمِّد بجسده ودمه المبذولين عن العالم، ويكرس كل شيء من أجله، ويرسل ملائكته لحراسته. إنه يناجي حقله ويفيض ببركته عليه!

هذا هو عمل الله الدائم بغنى نعمته في حياة الإنسان

"تبارك غلتها"، إذ تثمر الكرازة بقبول شخصٍ ما الإيمان، يجذب معه أيضًا آخر.

كَلَّلْتَ السَّنَةَ بِجُودِك،َ

وَآثَارُكَ تَقْطُرُ دَسَمًا [11].

تتغنى الكنيسة بهذه العبارة في ليتورجية عيد النيروز (بدء السنة القبطية)، حين تعترف بفضل الله وإحسانته، هذا الذي يملأ الكنيسة- حقله المحبوب لديه جدًا- بصلاحه، ويفيض عليه بروح الفرح والتسبيح. إنها تسبحة شكر لأجل أعماله عبر السنة الماضية، وتوسُّل منها أن يقبلها كحقله الخاص، يهبها صلاحه وبِرَّه وفرحه بروحه القدوس.

لا يتوقف الله عن زرع كلمته خلال الكارزين والشعب، ولا يتوقف عدو الخير عن زرع الزوان كما في ظلمة الليل (مت 13: 25). وقد طلب السيد ألا نضطرب، ولا نقلع الزوان بالعنف بل ندعه مع الحنطة ينميان معًا. (مت 13: 30). أما سرّ النصرة فهو بركة الرب العاملة طوال العام ويكلله بصلاحه.

يرى العلامة أوريجينوس أن السنة التي يكللها الله بجوده هي التي قيل عنها في إشعياء: "أكرز بسنة الرب المقبولة"، وهي خاصة بالمدة التي عاشها السيد المسيح بالجسد في هذا العالم.

يرى القديس أثناسيوس الرسولي أن بقاع الله التي تكثر من الخصب هي نفوس الصديقين.

تَقْطُرُ مَرَاعِي الْبَرِّيَّة،

وَتَتَنَطَّقُ الآكَامُ بِالْبَهْجَةِ [12].

هنا يتطلع المرتل إلى حكمة الله وحبه، فإن كان يحوِّل بعض البراري إلى جنات بمياه روحه القدوس، فإنه يزين بعض البراري والتلال بمراعٍ تعيش فيها قطعان الغنم والبقر وغيرها، كما في جوٍ بهيج ومفرح.

لمسات حنو الله ومحبته تسكب روح الفرح في كل موضع، وفي حياة كل أحد. فالحقول بالثمار والتلال والجبال بمراعيها، الكل يُسَبِّح بهتاف!

يقصد بالسهول والتلال والأودية البشر.

v     يُدعَى الصديقون سهولاً من أجل مساواتهم، وتِلالاً من أجل رفعهم، فإن الله يرفع فيه المتواضعين. ونهاية البرية هي كل الأمم... إنهم برية لأنهم لم يُرسل لهم نبي، إنهم مثل صحراء لم يَعبُر بها أحد. لم تُرسَل كلمة الله للأمم، إنما أُرسل الأنبياء لإسرائيل وحدها... لقد وجد حصاد أول، وسيحدث حصاد آخر في نهاية الزمن. الحصاد الأول من اليهود، إذ أُرسل لهم الأنبياء يعلنون عن مجيء المخلص. لذلك قال المخلص لتلاميذه: "انظروا الحقول إنها قد ابيضَّت للحصاد" (يو 4: 35)، الأراضي تعني اليهودية... في الحصاد الثاني يتعب الرسل. وفي النهاية يرسل الله ملائكته للحصاد.

القديس أغسطينوس

اكْتَسَتِ الْمُرُوجُ غَنَمًا،

وَالأَوْدِيَةُ تَتَعَطَّفُ بُرًّا.

تَهْتِفُ وَأَيْضًا تُغَنِّي [13].

يقدم المرتل الطبيعة نفسها كلوحة حية لخورس متهلل يقدم سيمفونية فرح وشكر. كل شيء يغني! الكل يفرح ويتهلل!

يقول الأب أنثيموس الأورشليمي إنه إن كان السبي قد حوَّل أورشليم إلى خراب فإن النبي يطلب من الله أن يرد شعبه إلى أورشليم فتصير براريها وأريافها خصبة، وأوديتها تمتلئ من الحنطة، ومواشيها يكثر صوفها بكثرة أعشاب المراعي.

أما التفسير الرمزي فهو أنه بعمل السيد المسيح الخلاصي، تتحول الأمم التي كانت أشبه بالبراري الجافة إلى جنات خلال مياه المعمودية. أما الآكام التي تنطق بالبهجة فهي شرفاء الأمم وعظماؤهم الذين كانوا قبلاً يُقدِّّمون الذبائح للأصنام على التلال والآكام فاختاروا السيرة الملائكية وصار منهم سواحًا في الجبال والبراري فأبهجوا البراري بسكناهم فيها. صار الكل يُسبِّحون الله.

التسبيح لله والتهليل والهتاف بفرح يُشبِعُ النفسَ كما بحنطة سماوية.

v     إن صرختم بتجديف، فإنكم تنتجون شوكًا. وإن صرختم بتسبيح فإنكم تفيضون بالحنطة.

القديس أغسطينوس

 


من وحي مز 65

قلبي يهتف متهللاً برعايتك!

v     تفتح لي بيتك، بيت الفرح والتهليل.

فيه تُسبِّحك نفسي، وتوفي لك النذور.

نذر رد الحب بالحب،

وتقديم ذبائح التسبيح والشكر.

v     تُسبِّحك نفسي، لأنك سامع الصلوات.

مع داود أُصلِّي إليك، فلا أطلب شيئًا،

سوى أن يأتي كل البشر إليك.

نعمتك ترعاني، فتفتح قلبي بالحب لكل إنسانٍ!

أقول مع موسى العجيب في حلمه:

اغفر لهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت،

ومع بولس: أود أن أُحرَم من كل شيء،

من أجل تمتع كل البشرية بخلاصك.

v     آثامي لن تعوقني عن الصلاة والعمل لأجل إخوتي.

لأنك أنت تكفر عنها وتمحوها بدمك الثمين.

v     تتهلل نفسي، لأنك تقيم من الهباء جبلاً ثابتًا.

أنت قدير، تحوِّل البشر إلى ملائكة، والأرضيين إلى سمائيين!

تهدئ عجيج البحار وأمواج العالم،

فتمنح الأمم سلامك الذي يفوق العقل.

v     يا صانع العجائب والآيات،

هل من آية تصنعها من أجلي أعظم من تجسدك؟

هل من أعجوبة تفوق صليبك؟

هل من حب أعظم من منحي قوة قيامتك؟

هل لي أن أطلب شيئًا بعد أن حملتني إلى سماواتك؟

آياتك هذه جميعها أعطت لحياتي طعمًا جديدًا.

مع إرميا النبي أصرخ: مراحمك جديدة في كل صباح.

ومع بولس الرسول: لي اشتهاء أن أنطلق وأكون معك.

يبتهج الصباح، ويتهلل المساء، لأنك حاضر دومًا في حياتي.

v     يا للعجب! تتعهد الأرض كلها.

تفتقد البشر أينما وُجدوا

تفيض عليهم بمياه روحك القدوس.

فتحول البراري إلى جنات سماوية.

تبارك غلاتهم،

وتفيض عليهم بثمار روحك القدوس

v     أعماقي تهتف دومًا:

كللت السنة بجودك،

وآثارك تقطر دسمًا!

أعماقي تغني وتسبح على الدوام.

رعايتك تفوق كل تصورٍ!

[35] رسالة رقم 101، 11 الرسالة الأولى إلى كليدونيوس الكاهن.

[36] Continence,11.

[37] Forty Gospel Homilies 11: 4.

[38] Fr Dorotheos of Gaza: On Fear of Punishment.

[39] Homilies on Statues, homily 9: 9.

[40] Hexaemeron, homily 4: 3.