الأصحاح الثاني والعشرون

حاجة الملك إلى التوبة

إن كان الله قد أقام الملك على كرسي داود، فإنه يليق به كقائد أمين فيما وهبه الله أن يمارس التوبة بروح العدل والرحمة والاتضاع عوض الظلم والكبرياء، حتى لا يفشل، ويصير كعقيمٍ لا يجلس أحد من نسله على كرسي داود.

يناقش هذا الأصحاح مصير ثلاثة ملوك طغاة ليهوذا، هم أبناء الملك يوشيا الصالح: يهوآحاز (شلوم)، ويهوياقيم، ويهوياكين (كنياهو)، ومصير مدينة أورشليم ومملكة يهوذا، حيث لا يعود يُقام ملك على كرسي داود بعد من نسلهم.

1. حديث صريح مع يهوآحاز[1-2].

2. اجروا حقًا وعدلاً[3-9].

3. لا تبكوا ميتًا[10-12].

4. الاعتداد بالذات (يهوياقيم)[13-19].

5. ثمرة العصيان[20-23].

6. تحطيم يهوياكين (كنياهو)[24-30].

1. حديث صريح مع يهوآحاز:

صدرت الأوامر الإلهية إلى إرميا النبي أن يكرز أمام الملك بحزمٍ شديدٍ وتهديد إلهي:

"انزل إلى بيت ملك يهوذا وتكلم هناك بهذه الكلمة، وقل:

اسمع كلمة الرب يا ملك يهوذا الجالس على كرسي داود،

أنت وعبيدك وشعبك الداخلين في هذه الأبواب" [1-2].

يبدو أن هذا الأمر الإلهي الخاص بحديث إرميا عند بيت الملك كان مبكرًا، في بدء خدمته، حيث حمل حديثه رجاءً في إعفاء الشعب مع الكهنة ورجاله من السبي إن تاب الجميع، قادة ورعية، كما هو واضح من القول: "لأنكم إن فعلتم هذا الأمر يدخل في أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه، راكبين في مركباتٍ وعلى خيلٍ؛ هو وعبيده وشعبه" [5].

جاء الحديث هكذا:

أولاً: "انزل" ... لأن قصر الملك كان في أحد الوديان محميًا بالجبال الشامخة المحيطة به. دعوة الرب لإرميا أن ينزل تحمل معنيين:

المعنى الأول أنه لا يخشى الملك بكل سلطانه كأنه عالٍ ومرتفع عنه، إنما يتطلع إليه كمن ينزل النبي إليه. إن إرميا كرجل الله يجد له مسكنًا في قلب الله، مرتفع فوق كل الأحداث الزمنية... عندما يلتقي بالملك إنما ينزل إليه ليحدثه.

المعني الثاني أن النزول يحمل الحب نحو النفس الساقطة، فيليق بأولاد الله ألا يتحدثوا بروح التشامخ، كأنهم جالسون على كراسي المعلمين المتشامخة، بل ينزلوا إلى كل نفس ليلتقوا معها كشركاء معها في الضعف، فتجد فيهم أشخاصًا يشاركونها آلامها وضعفها، فتقبل كلمة الرب.

جاء في إحدى عظات القديس يوحنا الذهبي الفم:

[بالحقيقة أيها الإخوة إنى كاهن الله، لأن الله أراد لي ذلك!

إنى خاطئ، معكم أقرع صدري!

معكم أطلب الصفح!

معكم أترجى مراحمه!

أخبرونا أيها الرسل القديسون: هل بعد قيامة الرب من الأموات وثبوتكم بالروح القدس الذي حلَّ عليكم انقطعت عنكم الخطية تمامًا؟!...

لننصت إلى إجابتهم حتى لا ييأس الخطاة... إن قلنا إننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم[461]].

ثانيًا: يذكِّره بأنه الجالس على كرسي داود، الذي كان يحمل قلبًا كقلب الله، وقد نال من الله وعودًا، لذا يليق بنسله أن يحملوا روحه، ويعيشوا كما يليق بأبناء داود البار، ولا يكسروا العهد مع الله.

هكذا يمكننا القول بأن الحديث هنا موجه إلى كل مؤمنٍ تمتع بالملوكية، إذ صرنا خلال اتحادنا بالسيد المسيح ابن داود أو بملك الملوك ملوكًا على يهوذا، حيث صارت نفوسنا وأعماقنا أرض يهوذا المحبوبة لدى الله مخلصنا، وقلوبنا أورشليمه المقدسة. لقد أقامنا ملوكًا (رؤ 1: 6) نحمل سلطانًا. لنا العبيد الذين هم أعضاء جسدنا ومواهبنا وحواسنا وقدراتنا التي قُدمت لنا من الله. متى كانت النفس ملكة تستطيع بروح الله القدوس أن تسيطر على كل ما في داخلها، كما على الجسد بكل طاقاته كعبيد يعملون معًا بانسجامٍ، ويسلكون في الطريق الروحي الملوكي.

 صارت نفس المؤمن ملكة لها شعبها الداخل من أبواب بيتها أو قصرها الملوكي، هذا الشعب هو الأفكار التي عبرت إلى أعماقنا خلال أبواب الحواس.

فالحديث هنا موجه إلى الملك وعبيده وشعبه الداخلين في أبواب بيته، لأنه متى كان الملك مقدسًا أمكنه أن يقود العبيد (رجال القصر) والشعب في الطريق الإلهي المقدس. هكذا متى صارت النفس ملكة مقدسة يخضع لها بروح الرب الجسد والأفكار ليعمل الإنسان بكل كيانه لحساب ملكوت الله.

ثالثًا: جاء النداء الأول للملك وعبيده أي رجاله وشعبه هو: "اسمع كلمة الرب يا ملك يهوذا... أنت وعبيدك وشعبك الداخلين في هذه الأبواب" [2].

كلمة الرب هي وراء تقديس النفس والجسد، لأنها حية وفعّالة‍‍‍‍!

أما هذه الأبواب فهي ليست أبواب المدينة العامة، وإنما أبواب القصر الملكي، التي كان يدخلها رجال القصر والشعب الذين عوض طلب العدل استغلّوا روح الظلم الذي ساد الملك ورجاله لحسابهم الخاص.

2. أجروا حقًا وعدلاً:

سبق فرأينا في الأصحاح السابق إبراز أن تحقيق العدالة، خاصة مع الغرباء والفقراء والمظلومين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم أو التمتع بحقوقهم، يمثل الدور الرئيسى في حياة الملك.

"هكذا قال الرب:

أجروا حقًا وعدلاً (sadaqa

وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة،

لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دمًا ذكيًا في هذا الموضع" [3].

استغل الملك ورجاله الغير، خاصة الضعفاء والمحتاجين، على خلاف والده يوشيا الذي اهتم بتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين.

كما أن الخطية تحطم بيوت الملوك والشعب، هكذا العدل والبر يسندان الكل ويعطيان قوة وكرامة ومجدًا.

"لأنكم إن فعلتم هذا الأمر يدخل في أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه راكبين في مركباتٍ وعلى خيلٍ.

هو وعبيده وشعبه.

وإن لم تسمعوا لهذه الكلمات فقد أقسمت بنفسي يقول الرب،

إن هذا البيت يكون خرابًا" [4-5].

كان الاعتقاد السائد في يهوذا عبر الأجيال أن بقاء المُلك في سبط يهوذا من نسل داود علامة رضا الله وبركته وحمايته لشعبه، على خلاف مملكة إسرائيل التي انشقت وأقامت لها ملوكًا وأنشأت عاصمة (السامرة) عوض أورشليم.

إن كان الله قد بارك يهوذا من أجل عبده داود، لكن إن لم يسلك نسله على منواله في علاقته بالله يفقدون هذه البركة. هذا مركز الفكر اللآهوتي السياسي عند إرميا. يعتمد استمرار البيت الملوكي، حتى إن نُسب لداود، على قبول الملك رسالة إرميا من كل القلب. بهذا فقط تبقى أبواب القصر الملوكي مفتوحة أمام الملك ورجاله وشعبه للدخول والخروج.

"لأنه هكذا قال الرب عن بيت ملك يهوذا:

جلعاد أنت لي،

رأس من لبنان،

إنى أجعلك برية،

مدنًا غير مسكونة" [6].

يشبه البيت الملكي وربما الملك نفسه بجلعاد، أي الجبل العالي، أو بقمة جبلٍ من جبال لبنان الشامخة، فإنه وإن ظن في نفسه أنه ثابت ومملوء أمانًا ليس من يقدر أن يهبط به من هذا العلو إلا أنه ينحدر ليصير كبريةٍ قاحلةٍ وكمدينةٍ خربةٍ لا يسكنها أحد.

بقوله "جلعاد ورأس من لبنان" يشير إلى أن قصر الملك في منطقة غنية خصبة ومبهجة مثل جلعاد وجبال لبنان، وقد دُعى قصر سليمان "بيت وعر(غابة) لبنان" (1 مل 7: 2؛ 10: 17، 21).

ارتباط جلعاد بقمة لبنان كما في زكريا (10: 10) يشير إلى الغابات، كما قد يشير إلى "الشرق" و"الغرب"، أي يملك على الضفة الشرقية والغربية لنهر الأردن.

كأن الله يعلن نظرته إلى القصر الملكي، أنه لا يزيد في عينيه عن شجرة في وسط غابة في جلعاد أو على قمة جبل لبنان، أو كحيوانٍ برِّى هناك... مع ما اتسم به القصر من جمال وفخامة لكن الله يبيده ويحطمه، بل ويحسب تحطيمه عملاً مقدسًا يتعهد به الأعداء بسماحٍ إلهي.

لم يقل "إني أجعلك... مدينة غير مسكونة" بل "مدنًا"، لأن الخراب يشمل كل المملكة بمدنها، وليس أورشليم وحدها.

"وأقدس عليكِ مهلكين كل واحدٍ وآلاته،

فيقطعون خيار أرزكِ ويلقونه في النار" [7].

سبق لنا الحديث عن "تقديس" بابل كآلة إلهية لتأديب الشعب. هنا كلمة تقديس تعني "تكريس طاقاتها وإمكانياتها" أو تخصيصها، وكأن الله يضع في قلب بابل أن تكرس كل إمكانياتها البشرية والعسكرية لتحطيم الشعب الذي عصى الرب... إنها تعمل بغيرة لنوال سلطة وسلب إمكانيات ولا تدري أن الله هو الذي سمح لها بذلك، أو هو كرَّسها لهذا العمل.

قلنا أيضًا إن بابل تحسب ذلك "حربًا مقدسة"، إذ تعتبر نصرتها هي نصرة لآلهتها على إله إسرائيل... ومع ذلك فمن أجل تأديب الشعب قبل الله ذلك!!

هنا الصورة أخطر، لأن الله نفسه يدخل في حرب مع شعبه المتمرد، حاسبًا هذه المعركة "حربًا مقدسة"، لا ليهب نصرة لشعبه بل ليهلكهم حتى يتأدبوا.

لما كان البابليون يحترفون قطع الأخشاب[462]، لهذا يحطمون الهيكل بالفؤوس كأنهم يقطعون خيار الأرز، لا لينتفعوا به، وإنما لكي يلقونه  في النار.

كثير من الغرباء (goyim) إذ يعبرون بالمدينة يسألون: لماذا صنع الله هكذا بمدينته العظيمة؟ وتأتي الإجابة: كسروا العهد معه، وعبدوا آلهة أخرى وخدموها [8-9].

بسبب فساد الملك تفقد أورشليم، مدينة الله، سمعتها، بل وتكاد تفقد وجودها، فتصير برية خربة بلا ساكن. وبسبب عصيان يونان النبي فقد الكثيرون سلامهم إذ هاج البحر وثارت الأمواج، وألقى النوتية والمسافرون أمتعتهم في المياه. وعلى العكس الأنبا أنطونيوس بتقديس حياته في الرب حوّل البرِّية إلى فردوس يمتلئ بالعابدين الروحيين، بل وتشتهي الملائكة أن تتطلع إليها لتمجد غنى نعمة الله الفائقة. ما كنا نسمع عن كنيسة نيصص لولا القديس غريغوريوس أسقفها الذي جذب نفوسًا كثيرة إلى السمويات، كما أعطى القديس أغسطينوس لهيبو شهرتها.

كل نمو روحي في حياتك هو لبنيانك وبنيان أسرتك وأصدقائك وكنيستك ومدينتك ووطنك، بل ولبنيان البشرية، وكل انهيار أو انحراف عن الطريق الملوكي يحطمك ويحطم من حولك، ويدفع بالعالم نحو الخراب!

لا تستهن بدورك، كاهنًا كنت أم من الشعب، شيخًا أو شابًا أو طفلاً، رجلاً أو امرأة!

3. لا تبكوا ميتًا:

"لا تبكوا ميتًا ولا تندبوه.

ابكوا ابكوا من يمضي،

لأنه لا يرجع بعد فيرى أرض ميلاده.

لأنه هكذا قال الرب عن شلوم بن يوشيا ملك يهوذا الملك عوضًا عن يوشيا أبيه الذي خرج من هذا الموضع لا يرجع إليه بعد؛

بل في الموضع الذي سبوه إليه يموت،

وهذه الأرض لا يراها بعد" [10-12].

الميت المذكور هنا هو يوشيا الذي قُتل في معركة مجدو عام 609 ق.م (2 مل 23: 29-30) بعد حكمٍ طويلٍ وحياةٍ صالحةٍ، مما يستوجب اشتداد الحزن والحداد. ولكن إرميا يقول هنا إنه يجب أن يشتد البكاء على الملك الجديد الشاب يهوآحاز بن يوشيا، الذي سبي بعد ثلاثة شهور وعشرة أيام بواسطة فرعون مصر نخو ولم يرجع منها فيما بعد.

لقد تولّى يهوآحاز الحكم مع أنه كان الابن الرابع وليس البكر (2 مل 23: 34؛ أي 36: 1). ولعلّه أُختير لأنهم ظنوا أنه أقوى من أخيه البكر. لقد تولّى الحكم ظلمًا لذا لم يبقَ فيه، بل سُبي إلى مصر كما جاء في سفر التثنية: "ويردك الرب إلى مصر في سُفن في الطريق التي قُلت لك لا تعد تراها، فتُباعون هناك لأعدائك عبيدًا وإماءً وليس من يشترى" (تث 28: 68). يبدو أنه لم يُسبي معه أحد (2 أي 26: 4).

الله يطلب من الشعب أن يبكوا يهوآحاز أكثر مما بكوا والده، بل أن إرميا نفسه قد بكاه (2 أي 35: 25). يوشيا ذهب إلى القبر في سلام وبكرامة، لا يحتاج من يبكيه، أما ابنه الشقي فتُحسب حياته كموته بلا كرامة، يعيش في السبي في مهانة. حقًا لقد جُرح يوشيا جرحًا مميتًا في موقعة مجدو، لكن مركبته حملته إلى بلده ليُسلِّم أنفاسه في مدينته المحبوبة لديه والمحبة جدًا له، يلتف حوله الشعب الذي خدمه لمدة ثلاثين سنة من حياته التي بلغت الثمانية والثلاثين.

ليتنا نحن أيضًا نُسلِّم أنفاسنا الأخيرة في مدينتنا المحبوبة لدينا، أي ونحن قاطنون في ملكوت السموات، نُسلِّم نفوسنا في يد إلهنا الذي نكرس كل طاقتنا وحياتنا لحساب ملكوته. نقول مع الرسول بولس: "إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، إن عشنا وإن متنا فللرب نحن" (رو 14: 8).

يلزمنا أن نكرم موت الصديقين ونشتهيه، بينما نشعر ببؤس حياة الأشرار. استطاع القديس بولس أن يقول عن موته: "أخيرًا قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس ليفقط بل ولجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا" (2 تي 4: 8). لم يكن موته مثيرًا للحزن بل للبهجة والفرح، لأنه يترقب المكافأة التي أُعدت له عن جهاده الحسن.

إنه لا يعود الملك من السبي كما كان هو وشعبه يتوقعون. وقد أكَّد لهم الله أنه لن يعود ولن يرى أرضه بعد، لأنه لم يتمثّل بأبيه الصالح كما اعتدى على حق أخيه الأكبر.

يدعوه إرميا النبي باسمه قبل تولِّيه الحكم "شلوم" وليس بالاسم الملكي "يهوآحاز"، ربما لأنه يُحسب كمغتصبٍ للحكم أو كمن لا يستحق الملوكية بسبب شره وفساد حياته.

يُقدم لنا التاريخ البابلي قصة سبي يهوآحاز. ففي عام 609 ق.م سقط آخر ملوك أشور Ashur-uballit تحت ضيقٍ شديدٍ في حاران بواسطة الجيوش الكلدانية[463]، فأسرعت مصر لمساندته خشية الخطر الكلداني الذي بدأ يظهر على مسرح التاريخ. جاء فرعون نخو إلى فلسطين وصارت منطقة فلسطين وسوريا في قبضته، وأقام قائده في ربله على بعد 47 ميلاً جنوب حامة. استدعى يهوآحاز لمقابلته، فأسره وأرسله إلى مصر[464].

4. الاعتداد بالذات (يهوياقيم):

بعدما تحدث عن سبي يهوآحاز انتقل إلى الملك يهوياقيم الظالم والطماع والطاغية، وقد قضى 11 عامًا في ملكه.

"ويل لمن يبني بيته بغير عدلٍ،

وعلاليه (حجراته التي على السطح) بغير حقٍ (بظلمٍ)،

الذي يستخدم صاحبه مجانًا ولا يعطيه أجرته.

القائل: أبني لنفسي بيتًا وسيعًا وعلالي فسيحة،

 ويشق لنفسه كوى،

ويسقف بأرز،

ويدهن بمغرة" [13-14].

لا نسمع عن علاقة إرميا النبي بيوشيا الملك وابنه يهوآحاز، لكننا نسمع كثيرًا عن علاقته بالملك يهوياقيم الذي يتحدث عنه هنا [13-19]. فقد كان عدوًا لإرميا، منعه من قراءة نبواته ومزق السفر (إر 36). كان يهوياقيم الملك المستبد الدكتاتور، رفض إصلاحات أبيه الملك يوشيا، وكان منحازًا لفرعون مصر ومتكلاً عليه، إذ أقامه نخو سلفًا لأخيه يهوآحاز (2 مل 23: 34).

عنَّفه إرميا النبي على كبريائه وظلمه خلافًا لأبيه يوشيا، ورفضه للعدل والبر (بغير حق sede). وقد جاء توبيخه للملك يتركز في النقاط التالية:

أولاً: شغفه بإنشاء أبنية ضخمة فاخرة لإشباع ذاته ego، وقد نقل ذلك عن الدول المجاورة، خاصة مصر وبابل الشهيرتين بابنتيهما الفخمة. لم يتهمه إرميا النبي بالعبادة الوثنية، لكنه مارس الحياة المترفة المدللّة مع عجرفة وكبرياء. استخدم الأرز، أثمن أنواع الخشب، وقد دهنه باللون الأحمر البرتقالي أو القرمزي (sasar) أو الأزرق.

ظهرت إلى النور في السنوات الأخيرة حفريات في رامة راحيل تشهد عن أبنية فخمة ترجع إلى نهاية القرن السابع ق.م. التي تحدث عنها إرميا النبي بخصوص أعمال يهوياقيم[465].

شتان ما بين يهوياقيم ووالده يوشيا. الأول أقام بيتًا صالحًا، بينما أقام الثاني بيتًا فاخرًا فسيحًا. الأول بالبر أقام بيته، والثاني بغير عدلٍ ولا حقٍ (برٍ) أنشأه.

خير لنا أن نعيش مع يوشيا في بيته القديم الصالح عن أن نقيم مع ابنه يهوياقيم في بيته الفخم المقام بغير عدلٍ ولا برٍ.

استخدم القديس غريغوريوس النزينزي هذه العبارات الخاصة بسكنى الملك يهوياقيم في مبانٍ فخمة في حديثه ضد الأريوسيين الذين سطوا على الكنائس وتعقبوا رجال الله لقتلهم:

[هؤلاء الناس لهم بيوت، أما نحن فلنا الساكن في البيت،

لهم معابد، أما نحن فلنا الله، وبجانب هذا نحن أنفسنا هياكل حية لله الحيّ، محرقات عاقلة، ذبائح كاملة، نعم آلهة خلال العبادة للثالوث.

معهم البشر، ونحن معنا الملائكة،

يندفعون بتهورٍ، ونحن لنا الإيمان،

يهددون ونحن نصلي،

يشتمون ونحن نحتمل،

لهم ذهب وفضة ونحن لنا الكلمة النقية،

بنوا لأنفسهم بيتًا وسيعًا وعلالي فسيحة، بيتًا مسقوفًا، وشقوا كوى (22: 14)، لكن حتى هذه ليست أعلى من إيماني ولا من السموات التي أحملها قدامي[466]].

يرى القديس أغسطينوس أن الأشرار يبنون المباني الشاهقة بروح الظلم، ظانين أنهم يهربون من العدالة الإلهية، أما أولاد الله فلا يجدون لهم ملجأ إلا فيه، إذ يقول:

[إن كنت لا تستطيع الهروب من الله لأنه موجود في كل مكان، فاهرب إليه في الحال، حيثما وجدت اهرب.

هوذا في طيرانك قد عبرت السماء، إنه هناك!

إن هبطت إلى الجحيم، فهو هناك!

أي صحاري الأرض تختار تجده هناك...

إن كان يملأ السماء والأرض، فإنه لا يوجد موضع يمكنك أن تهرب إليه منه.

لتنهِ تعبك ولتهرب إلى حضرته لئلا يدركك مجيئه![467]].

ثانيًا: يقول "الذي يستخدم صاحبه مجانًا ولا يعطيه أجرته" ليكشف عن أسلوبه الاستغلالي، واتباعه نظام السخرة المخفية.

بقوله "صاحبه" يقصد "الشعب"، عندما أُقيم ملكًا في ظروف قاسية، إذ كان الملك ملتزمًا بدفع جزية باهظة لفرعون مصر (2 مل 23: 33-35)، عوض الاهتمام باحتياجات الشعب الزم الشعب ببناء قصره بطريقة مُبالغ فيها. هذا الشعب الذي كان يجب أن يُدعى صاحبه تحول إلى عبيد للملك، يعملون لحسابه بلا أجر، الأمر الذي حذرت منه الشريعة (لا 19: 13، تث 24: 14-15). كان يليق بالملك أن يحفظ هذه الشريعة، ويحميها وسط شعبه فلا يكون بينهم مستغلاً، فإذا به هو أول كاسرٍ لها. بهذا صار مثلاً سيئًا لشعبه وقدوة فاسدة.

ثالثًا: جاء الفعل "يشق" بمعني "يمزق". تُستخدم هذه الكلمة للثياب، أما هنا فتستخدم عن الكوى أو النوافذ، التي وهو يوسِّعها يمزق حياته كثوب، ويفقد الستر والكرامة ليصير كمن هو عريان وفي عارٍ.

كما تُستخدم هذه الكلمة عن عيني الزانية حين توسعهما باستخدام المساحيق. وكأنه يربط النوافذ هنا بالزنا[468]. ارتبط الترف في المساكن بحياة اللهو والزنا، وقد تحدث إرميا النبي عن الموت الذي يصعد خلال الكوى (9: 20).

صار الملك كالزانية التي توسّع عينيها بالمساحيق لتدخل بنفسها إلى الخطية فتموت!

رابعًا: معاملته القاسية وظلمه للفقراء والمساكين.

"هل تملك لأنك أنت تحازي الأرز؟!

أما أكل أبوك وشرب وأجرى حقًا وعدلاً،

حينئذ كان له خيرُ؟!

قضى قضاء الفقير والمسكين،

حينئذ كان خير.

أليس ذلك معرفتي يقول الرب؟!

لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الذكي لتسفكه؟!

وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما؟!" [15-17].

كأنه يقول له:

[ليست المباني الفسيحة الفخمة هي التي تجعل منك ملكًا، ولا أخشاب الأرز الثمينة أو الزينة...

فكر كيف عاش أبوك كملكٍ مكرمٍ. لقد أكل وشرب حسنًا، لكن هدفه هو الالتزام بمسئولياته الملوكية من تحقيق العدالة والبر في حياته وحياة شعبه.

 لم يكن ناسكًا، لكنه لم يكن نهمًا ومحبًا للملذات...

لم يشغله أكله وشربه، وإن كان الله لم يحرمه من شيء.

"أسلك كما يليق بك كملكٍ"، أو "حاول أن تكون ملكًا"، لا بالكبرياء والتشامخ حاسبًا نفسك كأرز لبنان المتشامخ، وإنما مقتديًا بأبيك الذي كانت له معرفة بالله بإجرائه العدل والبر، وقضائه للفقير والمسكين، فيكون لك الخير.

لا تكن كالزانية التي تتزين بالمساحيق لتبدو عيناها واسعتان، وإنما بزينة العدل والبر والرحمة].

ماذا يعني بقوله: "أما أكل أبوك وشرب؟" إنه عاش في حياة بسيطة يأكل ويشرب، لا للذة والانغماس في الشهوات وإنما ليعيش كي يجري حقًا وعدلاً وسط الشعب، خاصة بين المظلومين، فصارت كل الأمور تسير حسنًا، أو "كان له خير".

أما الربط بين عينيه وقلبه في قوله: "لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الذكي لتسفكه" [17]، إنما يعني أن سلوكه الخارجي يأتي متناغمًا مع شهوة قلبه الداخلية نحو ممارسة الظلم والقتل والطغيان. ففي أيامه قُتل النبي أوريّا (26: 20-23).

بأمانة كاملة تحدث إرميا النبي عن نهاية الملك يهوياقيم، قائلاً:

"لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا:

لا يندبونه قائلين: آه يا أخي، او آه يا أخت.

لا يندبونه قائلين: آه يا سيد، أو آه يا جلالهُ.

يُدفن دفن حمارٍ، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم" [18-19].

سبق فقال عنه "ويل لهذا الرجل" راجع [13]... وعلامة الويل الخارجية أنه بنى قصرًا فخمًا بمال الظلم، ولم يجد جثمانه قبرًا يُدفن فيه، ولا من يبكيه. فكما لم يسمع لدموع المظلومين والمحتاجين، لا يجد من يسكب دمعة واحدة عليه.

ليس من يندب قائلاً: "آه يا أخي، أو آه يا أخت؛ آه يا سيد أو آه يا جلالهُ." ماذا يعني بهذه الأسماء الأربعة (الأخ، الأخت، السيد، الجلالة)؟

أولاً: يرى البعض أن العبارة الأولى  تصدر عن الحاضرين في الجنازة، ليس منهم من يقول للذين حوله: آه يا أخي، أو آه يا أختي، لأنه لا يشعر الرجال ولا النساء بالحزن على موت الملك. أما العبارة الثانية فيوجهها المشتركون في الجنازة نحو الميت، ليس منهم من يندب الملك كسيد أو صاحب جلاله.

ثانيًا: يرى البعض[469] أن العبارة الثانية تعني بالسيد الأب، وبالجلالة الأم أو السيدة. وقد وجدت في بعض النقوش الفينيقية عن الملك Azitawadda العبارة: [جعلني البعل أبًا وأمً]. وكأن الملك في اللغة التقليدية يتمم كل دور الأسرة كأبٍ وأمٍ وأخٍ وأختٍ. هنا لا يندب الحاضرون الملك لأنه لم يحقق شيئًا في حياته. لم يقم بدور الأخ أو الأخت أو الأب أو الأم.

يُدفن دفن حمار، لا توجد له مقبرة لدفنه، بل يُسحب جثمانه إلى موضع القمامة خارج أبواب المدينة. يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس بأن نبوخذنصر قتله في أورشليم وترك جثمانه بلا دفن بعيدًا خارج أبواب المدينة.

كيف يمكن التوافق بين ما ورد هنا عن موت يهوياقيم وعدم دفنه، وبين ما ورد في (2 مل 24: 6)، أنه رقد مع آبائه، مما يُشتم منه أنه قد دفن في مقبرة آبائه. يرى البعض أن ما ورد في (2 مل 24: 6) لا يعني بها دفنه إنما هي عبارة مستخدمة للتعبير عن الموت أيَّا كانت ظروفه. ويرى آخرون أن عبارة إرميا "يُدفن دفن حمار، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم" [18-19] تعبير مجازى عن حال الملك، فإنه وإن كان قد دفن رسميًا، لكنه كان في عيني شعبه كحمارٍ ميتٍ لا يستحق إلا إلقائه خارج أسوار المدينة. هذه هي مشاعر شعبه من نحوه في لحظات موته ودفنه!

5. ثمرة العصيان:

بعد أن تحدث عن الملك يهوياقيم الشرير ومصيره، يوجه هنا خطابًا لأورشليم العاصية عاصمة مملكته، موضحًا ثمرة هذا العصيان الذي نشأت عليه منذ صباها:

اصعدي على لبنان واصرخي،

وفي باشان أطلقي صوتك،

واصرخي من عباريم،

لأنه قد سُحق كل محبيكِ.

تكلمت إليه في راحتك.

قلتِ: لا أسمع.

هذا طريقك منذ صباك أنكِ لا تسمعين لصوتي" [20-21].

الأماكن المذكورة هنا من لبنان وباشان وعباريم هي مرتفعات حول أورشليم، يُسمع منها الصوت جليًّا من بعيد حتى يعم الخبر. لبنان في شمال أورشليم، وباشان في الشمال الشرقي منها، وعباريم في موآب في الجنوب الشرقي.

ذُكرت عباريم في (عد 27: 12، تث 22: 49) كمكان استطاع منه موسى النبي أن يتطلع إلى أرض الموعد من بعيد ففرح وتتهلل، أما هنا فيطلب إرميا النبي منهم أن يصعدوا لينوحوا ويبكوا، كما سبق فصعدت ابنة يفتاح على الجبال ترثى حالها (قض 11: 37-38).

ماذا يعني بالمحبين الذين سُحقوا؟ ربما يقصد الأمم المحيطة بهم المتحالفة معهم، وأيضًا مصر فإنها عوض مساندتهم تنسحق هي وتتحطم. وقد تكررت كلمة "المحبين" في (هو 2) خمس مرات، وربما قُصد بها آلهة الخصوبة التي زنت معها إسرائيل والتي توقعت أن تحميها وتحفظها وتهبها اثمارًا ونموًا.

بعد هزيمة مصر في موقعة كركميش عام 605 ق.م (46: 2-12) استولى نبوخذنصر على كثير من الدول في المنطقة.

بقوله: "هذا طريقك منذ صباكِ أنكِ لا تسمعين لصوتي" [21] يعني أن حركة العصيان لم تحدث فجأة في أورشليم، لكنها صارت أشبه بطبيعتها الملازمة لها منذ صباها. وقد أعطاها الرب فرصًا كثيرة للتوبة والرجوع إليه حتى امتلأ كأس شرها، لذا استخدم معها التأديب القاسي. إنه طويل الأناة جدًا، لكن إصرار الشعب على العصيان عبر الأزمنة بلا تغيير يستوجب التأديب الإلهي.

لقد سبق فطلب منها أن تصعد على الجبال مع ابنة يفتاح تبكي عذراويتها وتنتحب مع صديقاتها، لكن شتان ما بينها وبين ابنة يفتاح. الأخيرة خرجت صديقاتها معها إلى الجبال للتعزية وإن كُنَّ لم يستطعن أن ينقذن حياتها من الموت. أما يهوذا فعوض خروج أصدقائها معها إلى الجبل أُخذن إلى السبي في خزى وعارٍ معها!

"كل رعاتك ترعاهم الريح،

ومحبوكِ يذهبون إلى السبي،

فحينئذٍ تخزين وتخجلين لأجل كل شركِ" [22].

ربما قصد بـ "رعاتك" ملوك يهوذا ورجالهم الذين كان يجب أن يرعوا الشعب، فصاروا في حاجة إلى رعاية من الخارج. لقد سقطوا تحت السبي عام 597 ق.م (2 مل 24: 22-15)، فصارت أورشليم في خزي وعارٍ بلا رعاية، يرعاها الريح الباطل.

لعله أيضًا يقصد بالرعاة هنا أولئك الذين كانت تظنهم رعاة لها، سواء ملوك الأمم المتحالفة معهم أو آلهتهم، فإنهم هم أنفسهم يحتاجون إلى رعاة، وقد صارت الريح هي راعية لهم، لا تقدم لهم إلا رياحًا مهلكة! إنها رياح شرقية تبدد الشعب (18: 17). باتكالها على ملوك الأمم وآلهتهم قبلت الرياح المحطمة عوض روح الله القدوس الواهب الحياة والنصرة والنجاح، يهب على النفس فيحولها إلى مقدسٍ سماويٍ لا تستطيع كل قوات الظلمة أن تفسده.

هكذا دفعها شرها إلى الاتكال على الذراع البشري والآلهة الكاذبة فتحطمت معهم!

"أيتها الساكنة (المتربعة) في لبنان،

المعشِّشَة في الأرز،

كم يُشفق عليكِ عند إتيان المخاض عليك، الوجع كوالدة" [23].

يُقصد بالمتربعة في لبنان كما على عرش الذين يفتخرون بعلوِّهم المنيع، أو الذين يسكنون في قصورٍ فاخرةٍ مصنوعة من خشب الأرز اللبناني، أي يقصد المتعجرفين المتكبرين. فالاتهام الموجه ضد أورشليم هو أنها ألَّهت ذاتها، وحسبت نفسها فوق القانون. ظنت أن عشَّها على قمم جبال الأرز لا يقدر أحد أن يمسها بضرر.

في شيء من السخرية يقول لها: "كم يُشفق عليكِ عند إتيان المخاض عليك، الوجع كوالدة؟!" بعد أن صار الريح هو راعيها، والسبي هو مسكن محبيها، فقدت عرشها وانحدر عشها من قمة الأرز، وصارت كامرأة في حالة ولادة، ليس من يشفق عليها، ولا من يعينها وسط آلامها!

6. تحطيم يهوياكين:

"حيّ أنا يقول الرب ولو كان كنياهو بن يهوياقيم ملك يهوذا خاتمًا على يدي اليمنى فإني من هناك أنزعك" [24].

بدأ الحديث عنه بقسم من جانب الله لتأكيد تأديبه يهوياكين لإصراره على الشر: "حيّ أنا يقول الرب".

كان يهوياكين مثل أبيه يهوياقيم شريرًا (2 مل 24: 8-17)، خلفه في الملك، وكان في بلده أورشليم. كان يمكن بالبر أن يعيش آمنًا كخاتمٍ ثمينٍ في يد الله، لا يقرب إليه أحد، لكنه بسبب شره انتزعه الله بعد ثلاثة شهور من ملكه وهو بعد في الثامنة عشر من عمره مع أهل بيته، وسبي عام 597 ق.م إلى بابل، ليعيش غريبًا مسبيًا في حالة رعبٍ!

حُرم الملك من وطنه ومن شعبه، فصار في مذلة داخلية مهما قُدم له من كرامة أو إمكانيات.

جاء في سفر الملوك (2 مل 24، 25) عن يهوياكين أنه قد رُفع شأنه في بابل في أواخر حياته، لكنه بقى مسبيًا ولم يرجع إلى وطنه.

ومع أنه كان له عدة أبناء (1 أي 3: 17)، فإن أحدًا منهم لم يجلس على عرش إسرائيل، لذلك حُسب عقيمًا.

جاءت الكلمة العبرية المقابلة للختم لتعني إما ختمًا على شكل طوقٍ يُوضع حول العنق، أو كجزءٍ من خاتم في اليد، هنا اُستخدمت بالمعني الثاني. يحمل الختم توقيع صاحبه، لذا يمثل حضرته. جاء في سفر النشيد (8: 6) ليعني اتحادًا مملوء حبًا وعاطفة، وفي حجى (2: 23) يشير إلى العظمة والقدرة حيث جعل الله زربابل ختمًا في يده.

يدعوه إرميا النبي كنياهو وهو اختصار اسمه يهوياكين.

ينتزع الله يهوياكين من يده ليضعه في يد العدو، إذ يقول:

"وأسلمك إلى يد طالبي نفسك،

وليد الذين تخاف منهم وليد نبوخذراصر ملك بابل وليد الكلدانيين.

وأطرحك وأمك التي ولدتك إلى أرض أخرى لم تُولدا فيها، وهناك تموتان.

أما الأرض التي يشتاقان إلى الرجوع إليها فلا يرجعان إليها" [25-27].

عوض أن يكون مكانه في يد الله حيث الحرية والمجد، يصير موضعه هو وأمه في السبي حيث العبودية والذل. لقد سُبيت نحوشتا بنت ألناثان (2 مل 24: 8، 15) مع ابنها الملك يهوياكين إلى بابل. فقد الملك عرشه، وأُلقي في أرض السبي كما في موضع القمامة خارج أبواب أورشليم، وصار كبواقي إناء خزفي مكسور لا قيمة له.

لقد نادى الأنبياء الكذبة[470] بأنه يرجع من السبي وذلك لكي يعطوا رجاءً لرجال الدولة والشعب ويسرونهم، فكان كثيرون يعتبرونه الملك الرسمي بالرغم من سبيه، لكن إرميا النبي في جرأة نطق بما تكلم به الرب.

"هل هذا الرجل كنياهو وعاء خزفٍ مهانٍ مكسورٍ؟!

أو إناء ليست فيه مسرة؟!

لماذا طُرح هو ونسله وأُلقوا إلى أرضٍ لم يعرفوها؟!

يا أرض، يا أرض، يا أرض، اسمعي كلمة الرب.

هكذا قال الرب:

اكتبوا هذا الرجل عقيمًا، رجلاً لا ينجح في أيامه،

لأنه لا ينجح من نسله أحد جالسًا على كرسي داود وحاكمًا بعد في يهوذا" [28-30].

لم يُطرد الملك وأمه إلى السبي فحسب، وإنما أُلقى كإناءٍ خزفي مُحتقر ينكسر، ليس من يبالي به، أو يهتم بإصلاحه، "ليس فيه مسرة". وكما جاء في هوشع: "الآن صاروا بين الأمم كإناءٍ لا مسرة فيه" (هو 8: 8).

ربما شبهه بالإناء الخزفي المكسور، لأنه كاد أن يؤلهه الشعب[471]، فها هو قد صار كتمثالٍ خزفي مكسور، ليس فقط لا يستحق العبادة، بل يلزم الخلاص منه بإلقائه في وسط القمامة.

بعد أن كان كخاتمٍ في يد الله، له تقديره الثمين في عيني الله وأمام السماء والأرض، صار ملقيًا كإناءٍ مكسورٍ ليس من يُسر به. وقد قيل عن مقاومي السيد المسيح: "تحطمهم بقضيب من حديد، مثل إناء خزاف تكسرهم" (مز 2: 9)... هوذا الله المخلص يحطم بقضيب من حديد ذاك الملك المقاوم له.

إن كان كنياهو قد صار وعاءً خزفيًا مهانًا مكسوراً ليست فيه مسرة، فلأنه التصق بالأرض فصار أرضًا، أما الذي يلتصق بالسماء فيصير سماءً. يرى القديس أمبروسيوس البشرية كلها كأوانٍ خزفية، لكن بعضها يتقبل الكنز السماوي، السيد المسيح نفسه، في داخله فيُنسب للسماء.

v     جميعنا أوان خزفية. إن كان أحدنا ملكًا فهو إناء خزفي، أو كان رسولاً فهو إناء. لهذا يقول بولس: "لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية" (2 كو 4: 7)...

تكتِبْ الأرض (أسماء) الذين هم أبناء الأرض عليها في الأسفل. لهذا عندما اتهم اليهود الزانية كتب الرب يسوع بإصبعه على الأرض (يو 8: 6، 8)؛ أما الأبرار فلا يُكتبون على الأرض في الأسفل بل نقرأ عنهم. "افرحوا بالأحرى أن أسماءكم كُتبت في السموات" (لو 10: 20)[472].

القديس أمبروسيوس

إنه يُشهد الأرض ثلاث مرات أن تسمع وتصغي لحكم الله على الملك الذي لا يسمع لصوت إلهه، كيف أنه وإن أنجب أطفالاً (1 أي 3: 19) يُحسب عقيمًا، حيث لا ينجح أحد منهم في استرداد المُلك. ِبشره لم يسترح في حياته ولا من خلال نسله!

v     الذي وهو في حالة جهالة خاطئ "هو أرض ورماد"، أما الذي في حالة معرفة فإنه إذ يتشبه بالله قدر المستطاع فهو روحي ومختار.

أما كون الكتاب المقدس يدعو الذين بلا حس وعصاة أرضًا فواضح بواسطة إرميا النبي الذي يقول عن يهوياقيم وإخوته:

"يا أرض، يا أرض، ، يا أرض، اسمعي كلمة الرب. اكتب هذا الرجل كرجل محروم" [29-30][473].

القديس إكليمنضس الإسكندري


من وحي إرميا 22

ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني!

v     أصرخ إليك يا ملك الملوك:

ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني!

أرسلت إرميا إلى بيت الملك،

يوبخ أبناء يوشيا: يهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين،

أبناء الملك البار ملوك طغاة،

حطموا حياتهم، وأفسدوا المملكة، وأضاعوا كرسي داود!

v     وبخ إرميا الملك وعبيده وشعبه.

ها أنا أعترف لك، إننى كملك روحي قد فسدت،

أفسدت مواهبي وحولتها إلى عبيدٍ أشرار!

دنست طاقاتي وحولتها إلى شعبٍ خائنٍ لإلهه!

من يجدد حياتي وطبيعتي ومواهبي غيرك؟!

v     ظننت في نفسي كيهوآحاز، مرتفع كجبال جلعاد وقمم لبنان،

ليس من يقدر أن يصعد إليّ ويحطمني!

لقد قدست تأديباتك لتحولني إلى بريةٍ بلا ساكن!

إني مستحق كل تأديب،

لكن لا تتركني إلى النهاية!

أولادك المقدسون مكرمون حتى في جراحاتهم وموتهم كيوشيا.

أما الأشرار فيخزون حتى إن فلحوا ونجحوا!

v     بنى يهوياقيم لنفسه قصرًا لكن بغير بر.

استغل شعبه لبنائه عوض أن يخدمهم.

عاش طاغية لا يعرف العدل ولا البر.

يبني الأشرار لأنفسهم قصورًا، وعند موتهم لا يجدون من يدفنهم.

يطلبون ما لذاتهم، وفي موتهم لا يجدون من يبكونهم!

قدسني بروحك القدوس،

فيتسع قلبي حبًا وبرًا فيك!

أحمل مجد ابنة الملك في داخلي،

وفي رحيلي أتهلل متطلعًا إلى الإكليل الأبدي!

مات يهوياقيم وُدفن كحمار،

هب لي أن أموت مع الأبرار، فتتهلل نفسي بك!

v     تريدني خاتمًا في يدك أيها القدوس،

لا تنتزعني من يدك كما انتزعت يهوياكين،

لا تضعني في يد بابل، فأفقد حريتي وكرامتي فيك!

ليس ليراحة إلا فيك،

احملني إلى حضن أبيك،

ارجعني إلى فردوس الحب فلا أعيش غريبًا عن وطني السماوي!

ردِّني إلى أبيك، فأصير ملكًا!

ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني...

انقذني... خلصني... مجدني في الداخل أيها القدوس!

[461] الحب الرعوى، ص 326.

[462] Thompson, Jeremiah, p. 475.

[463] D.J. Wiseman: Chromicle of Chaldaean Kings, p. 63.

[464] See J. Bright: A History of Israel, p. 303, Thompson, p. 476.

[465] Thompson, Jeremiah, p. 478.

[466] Against Aruis, 16.

[467] Sermons on the N. T. Lessons, 19: 4.

[468] Holladay, Jeremiah, vol. 2, p. 595.

[469] Ibid, 597.

[470] John guest, p. 167.

[471] Ibid, 168.

[472] The Prayer of Job and David 5: 20.

[473] Strom. 4: 26.