الأصحاح الحادي عشر

الرويا الأخيرة

عن

فارس واليونان ونهاية الأزمنة

يحوى هذا الأصحاح تفاصيل نبوية عجيبة لأحداث العالم تخص شعب الله لمدة تزيد عن ثلاثة قرون جاءت مطابقة تمامًا للأحداث التاريخية. وكما يقول C. Larkine: [هذا الأصحاح هو واحد من أعجب الأصحاحات التي قدمت نبوات تفصيلية دقيقة أكثر من أي أصحاح في الكتاب المقدس. إنها تُطابق تمامًا التاريخ العلماني لملوك مصر وسوريا لأكثر من 350 عامًا. الآيات 5 حتى 31 تُقدم لنا نبؤات عن الحروب التي نشبت بين ملوك الشمال (سوريا) وملوك الجنوب (مصر)[258]].

1. نبوات عن فارس                           [1-2].

2. نبوات عن اليونان                          [3-4].

3. نبوات عن الصراع بين مصر وسوريا      [5-35].

4. نهاية الأزمنة - ضد المسيح                [36-45].

1. نبوات عن فارس:

"وأنا في السنة الأولى لداريوس المادي وقفت لأشدده وأقويه" [1].

يظن البعض أن الحديث هنا عن مساندة رئيس الملائكة ميخائيل لرئيس الملائكة جبرائيل، ولكن هذا غير مقبول هنا. إنما الحديث لرئيس الملائكة جبرائيل الذي وقف بجانب داريوس الملك وقوَّاه لكي يسند كورش ملك فارس ضد بابل. بمعنى آخر إن كان بعض ملوك فارس يُقاومون الله في شعبه فإن ما نالوه من نصرات هو بسماح إلهي، وبقوة قُدّمت لهم خلال ملائكة الله. هنا لا يفتخر الملاك بقوته وإمكانياته الخاصة، إنما يتحدث كوكيل الله، وباسم الله العامل بملائكته.

"والآن أخبرك بالحق.

هوذا ثلاثة ملوك أيضًا يقومون في فارس،

والرابع يستغنى بغنى أوفر من جميعهم، وحسب قوته بغناه يهيج الجميع على مملكة اليونان" [2].

غاية ما ورد في هذا الأصحاح من نبوات تخص مملكتي فارس واليونان ثم الصراع بين مصر وسوريا، ليس أن تستعرض أحداثًا مستقبلية تثير في النبي حب الاستطلاع، وإنما تُعلن عن عناية الله بكنيسته، وتحث المؤمنين على الاتكال على الله والثقة في عنايته الإلهية حتى في اللحظات الحرجة. حقًا يبدو من الظاهر وجود صراعات عالمية بين الدول العظمى مثل بابل وفارس ومادي واليونان، وبين شقّين من الإمبراطورية اليونانية وهي دولة البطالسة ودولة السلوقيِّين، لكن وراء هذه الأحداث يد الله الخفية التي تحول كل مجريات الأمور لبنيان كنيسته، وأن الله يُعطي لعهده مع شعبه أولوية خاصة حتى وإن لم يلحظ أحد ذلك.

بالرغم من أن هذه النبوة بأكملها أُعطيت في السنة الثالثة لكورش (10: 1)، أشار رئيس الملائكة جبرائيل في وقت مبكر عندما ثبت بطريقة سرِّية داريوس وقوَّاه في السنة الأولى له. هذا حدث غالبًا في الوقت الذي فيه أُلقيَ دانيال في الجب.

يرى البعض أن الثلاثة ملوك الذين كانوا يحكمون في فارس بعد كورش هم:

1. قمبيز Cambyses بن كورش (527-522 ق.م): في أثناء قيامه بمهمة طويلة في مصر اُغتيل أخوه الأصغر ماغوس Magus الملقب سميردس Smerdis.

2. المدعو سميردس (522-521 ق.م): اغتصب المُلك بعد اغتيال سميردس وكان يشبه شكل سميردس، تزوج Pantaptes ابنة قمبيز. وبقيَ في الحكم 7 شهور واغتاله سبعة مجوس.

3. داريوس هيستاسبس Darius Hystaspes أو داريوس الأول (521-486 ق.م) صار ملكًا، وقد تزوج Pantaptes نفسها زوجة الملك السابق وأنجبت له أحشويرش الذي صار من أغنى الملوك وأشهرهم.

يرى آخرون أن الملاك يقصد بالملوك الثلاثة كورش وابنه قمبيز وداريوس مُستبعدين مغتصب الحكم المخادع "المدعو سميردس".

تحدَث رئيس الملائكة عن ملك رابع فاق الثلاثة ملوك السابقين في الغنى، وهو أحشويرش بن داريوس (480-465 ق.م) الذي تزوج استير. يتحدث القديس يوستينوس عن غناه أنه كانت له ثروات كثيرة حتى إن جفت الأنهار بواسطة قواته لا تنفذ ثروته[259]. هذا عبر بجيش تعداده 2641000 نسمة وغلب اليونان. وقد وضع اليونانيُّون في قلبهم أن ينتقموا لأنفسهم الأمر وقد فعلوا ذلك. لقد بقى أربع سنوات يجمع جيشه، لكن ضخامة الجيش الزائدة أفقدته قدرته على تنظيمه، وانهزم في موقعة سلاميس Salamis. بكبريائه واندفاعه اِنهزم أحشويرش، وهرب في مركب صغير، ولم يجد سفينة واحدة تنقذه، مع أن مياه البحر كانت مغطاة بأسطوله الضخم الذي فقده بسوء نظامه. حسبه شعبه غبيًّا في تصرفاته العسكرية، كما احتقروه لأنه قتل أخاه، وسلك سلوكًا شائنًا مع أخته، وارتكب جرائم أخرى.

اعتبر الملاك ما تبقى من ملوك فارس أشبه بالساقطين. إذ انحدرت دولة فارس وتحطمت نفسية الشعب وصار الملوك فيما بعد كأن لا كيان لهم حتى تسلَّط الإسكندر المقدوني على العالم.

يقول القديس جيروم: [يجب ملاحظة أنه بعد أن حصر بعض ملوك فارس بعد كورش حذف السِفر بوضوح التسعة ملوك الآخرين وعبر مباشرة إلى الإسكندر، لأن روح النبوة لا يهتم بتقديم التفاصيل التاريخية، بل يُقدم في اختصار الأحداث الهامة جدًا وحدها[260]].

2. نبوات عن اليونان:                    

"ويقوم ملك جبار، ويتسلَّط تسلُّطًا عظيمًا، ويفعل حسب إرادته.

وكقيامه تنكسر مملكته، وتنقسم إلى رياح السماء الأربع،

ولا لعقبه ولا حسب سلطانه الذي تسلَّط به،

لأن مملكته تنقرض وتكون لآخرين غير أولئك" [3-4].

يُشير بكل وضوح إلى أنه في الوقت المناسب يقوم الإسكندر الأكبر (356-323 ق.م) وبقدرة عظيمة يهزم فارس وغيرها من الدول. سبق لنا الحديث عن العداوة التي حملها الإسكندر الأكبر لليهود، ولكن في طريقه إلى اليهودية رأى رؤيا تحققت عندما شاهد رئيس الكهنة بثيابه الكهنوتية يستقبله بحفاوة، ويُقدم له نبوات دانيال النبي، ليؤكد له أنه يهزم فارس، ويُقيم مملكة عظيمة. بهذا تحولت عداوته إلى صداقة، وأحسن معاملته لليهود.

مات فجأة في بابل بعد فتوحات ونصرات متوالية وسريعة، لكنه سكر بالنجاح الفائق والغنى، ومات وهو مخمور. لا يعلم أحد إن كان قد مات بمرض أصابه فجأة وهو مخمور لا يُعرف له علاج، أم مات مسمومًا، شرب السم لينتحر أم أخفاه له كاساندر Cassander. قول الملاك "وكقيامه تنكسر مملكته" يعني بعد أن صار الملك الوحيد لكل الشرق اِنهارت مملكته بموته المفاجئ. وقد سبق لنا الحديث عن الصراعات والاغتيالات التي حدثت بعد موته حتى انقسمت مملكته في النهاية بين أربعة من قواده بعد معركة Ipsus.

يقول: "لأن مملكته تنقرض، وتكون لآخرين غير أولئك" [4]. في دقة تحقَّقت هذه النبوة حرفيًّا إذ لم يرث أحد أبنائه العرش، ولا أحد أقربائه بل تسلَّم العرش قوّاد غرباء، مع أنه كان له ابنان هما هيراقليوس والإسكندر الثاني، لكن لم يتولَّ أحدهما الحكم بل قُتلا، أحدهما قبل موت أبيه والآخر بعده.

يقول القديس جيروم: [بجانب الأربع ممالك، أي مقدونية وآسيا الصغرى وسوريا ومصر، تمزقت مملكة المقدونيِّين بين حكام آخرين أقل أهمية وبين ملوك صغار لا كيان لهم. هنا يُشير إلى Perdiccas وLysimachus و Craterus وغيرهم الذين حكموا كبادوكية وأرمينيا وبيثينية وهيراقليا وبوفورس وأقاليم أخرى كثيرة انسحبت من القوة المقدونية وأقامت لنفسها ملوكًا مختلفين[261]].

هذا كله أعلنه الملاك لدانيال النبي قبل ولادة الإسكندر الأكبر بسنين كثيرة.

3. نبوات عن الصراع بين مصر وسوريا:

تتحدث هذه النبوات عن حروب السلوقيِّين مع البطالسة، إذ دخلت هاتان الأسرتان في حروب دائمة ضد بعضهما البعض. وبحكم موقع فلسطين الجغرافي، في المنتصف بين مصر وسوريا كانت هي أرض المعركة للطرفين في أغلب الحالات. ودُعي ملوك مصر بملوك الجنوب، وملوك سوريا ملوك الشمال.

يليق بنا أن ندرك أن هذا القسم يُغطي فترة زمنية طويلة، حوالي قرنين من الزمان، وعندما يتحدث عن ملك الشمال أو ملك الجنوب لا يقصد ملكًا معينًا واحدًا لكل من الدولتين.

أ. الحرب الأولى:

"ويتقوَّى ملك الجنوب.

ومن رؤسائه من يقوى عليه ويتسلط،

تسلط عظيم تسلطه" [5].

كان أول ملك للجنوب (مصر) قويًا هو وامرأته، وهو بطليموس لاغوس Lagus (الأول 323-285 ق.م). كان قويًا وذكيًا وغنيًا، أقوى من أنطيوخس بن سلقوس Seleucus، ملك الشمال (سوريا)، لكنه فيما بعد صار أنطيوخس أقوى وأغنى، إذ ضم إليه بابلونيا ومادي. لقد عرف الملاك ما يبلغه أنطيوخس من عظمة أكثر من بطليموس في المستقبل.

أما المقصود بأحد رؤسائه الذي صار أقوى منه وأكثر سلطة، فيقول عنه القديس جيروم:

[الشخص المذكور هنا هو بطليموس فيلادلفيوس، ملك مصر الثاني، وابن بطليموس السابق ذكره. قيل أنه في عهده قام السبعون بترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية.

لقد أرسل أيضًا كنوزًا كثيرة إلى أورشليم إلى اليعازر رئيس الكهنة وأرسل أوانٍ للهيكل.

كان أمين مكتبته ديمتريس Demetrius of Phalrum رجلاً ذا شهرة بين اليونانيِّين كخطيبٍ وفيلسوف.

جاء عن فيلادلفيوس أنه كان ذا قوة عظيمة فاقت والده بطليموس، إذ يروي عنه التاريخ أنه كان له 200 الفًا من الجنود المشاة، وعشرين الفًا من الفرسان، والفين مركبة، وأربعمائة فيلاً، أول من استوردها من إثيوبيا...

كان كنزه من الذهب والفضة عظيمًا جدًا، وكان دخله السنوي الذي يتسلمه من مصر يبلغ 14.800 قطعة فضة، ويبلغ القمح من نصف مليون إلى مليون إردبًا[262]].

"وبعد سنين يتعاهدان،

وبنت ملك الجنوب تأتي إلى ملك الشمال لإجراء الاتِّفاق،

ولكن لا تضبط الذراع قوة،

ولا يقوم هو، ولا ذراعه،

وتُسلَّم هي والذين أتوا بها والذي ولدها ومن قوَّاها في تلك الأوقات" [6].

يتنبأ عن أواخر الأيام حيث تمت معاهدة بين ملكيّ مصر وسوريا عام 250 ق.م، وكان طريق هذه المعاهدة هو زواج ملك سوريا ابنة ملك مصر. وبالفعل طلق أنطيوخس ثيوس Antiochus Theos (285-247 ق.م) ثالث ملك لسوريا زوجته لاوديس Laodice ليتزوج بيرينيس Berenice أو بيتونيس Betonice أو برنيس Bernice ابنة بطليموس الثاني (283-246 ق.م) والمدعو فيلادلفيوس. لقد وهب ابنته الآلاف من القطع الذهبية والفضية بلا حصر كمهرٍ (دوطة) لها حتى دعي Phernophoros أي "واهب الدوطة" Dowery-giver (dotalis). وكان هدف بطليموس أن يستخدم زواج ابنته بملك سوريا فرصة لكي يُسيطر على سوريا وكل مملكة أنطيوخس، لكن الخطة فشلت. إذ أن لاوديس، التي بعد أن طلَّقها أنطيوخس احتفظ بها كإحدى السراري وليس كملكة، أثارت أصدقاءها ضد الملك، وقتلت ضُرَّتها بيرينيس ومن حولها. أعاد أنطيوخس زوجته الأولى لاوديس التي قيل أنها قتلته مسمومًا بعد قليل، وأقامت ابنها الأكبر سلقوس كالينيكوس Seleucus Callinicus على العرش، والابن الأصغر أنطيوخس الصغير والمدعو Hierax واليًا على آسيا الصغرى. ويقال أن الابن الأكبر هو الذي استمال بيرنيس ووعدها أنه يهتم بها فاطمأنت إليه، وقام بقتلها هي وابنها بطريقة خسيسة وبشعة. هكذا إذ دخل الغش في حياة الملكين فشل الاثنان.

لقد تحققت النبوة حرفيًا، فقد فشلت خطة ملك مصر تمامًا: فمن جهة لم ينل الملك مأربه بتقديم ابنته زوجة لملك سوريا، وقُتلت الابنة ومن حولها، وأيضًا زوجها الذي كان سندًا لها، كما قُتل ابنها.

ب. الحرب الثانية:

"ويقوم من فرع أصولها قائم مكانه، ويأتي إلى الجيش،

ويدخل حصن ملك الشمال ويعمل بهم ويقوى.

ويسبي إلى مصر آلهتهم أيضًا،

مع مسبوكاتهم وآنيتهم الثمينة من فضة وذهب.

ويقتصر سنين عن ملك الشمال.

فيدخل ملك الجنوب إلى مملكته ويرجع إلى أرضه" [7-9].

يُشير إلى أن فرعًا من عائلة بيرنيس يأتي ويغلب ملك الشمال. بالفعل جمع بطليموس (الثالث) إيرجيتس Ptolemy Euergetes أخ بيرينيس، غالبًا أصغر منها، الملك الثالث لمصر الذي خلف والده فيلادلفيوس، جيشًا عظيمًا للانتقام لأخته. وبالفعل غلب كالينيكوس الذي كان حاكمًا سوريا بالشركة مع أمه لاوديس، وفتح مدنًا كثيرة محصَّنة. لم ينتصر فقط على سوريا، لكنه اقتحم أيضًا كيليكية وبعض المناطق وراء الفرات، وكاد أن يتسلط على كل آسيا[263]. جاءت أخبار عن قيام حركة تمرَّد في مصر جعلت ايرجيتس يسرع بالعودة إلى مصر حاملاً معه المسبيِّين وأيضًا الفين ونصف من التماثيل الذهبية والفضية بعضها جاء بها قمبيز من مصر منذ زمنٍ بعيد، كما حمل 40 ألف وزنةٍ من الفضة. لم يفكر كالينيكوس في الدخول في معركة أخرى مع أيرجيتس، إذ عرف أنه لن يستطيع أن يغلبه أو يسترد ما حمله من غنائم. وقد بقي أيرجيتس ملكًا لمدة 46 عامًا [8]. إذ شعر كالينيكوس بالهزيمة أمام أيرجيتس استنجد بأخيه هيراكس والي آسيا الصغرى، الذي لم يبالِ بصرخات أخيه إذ حسب أنه أولى بالعرش. ودخل مع أخيه فيما بعد في معركة وسقط أخوه عن حصانه ميتًا، بينما بقيَ إيرجيتس ملكًا في مصر 4 سنوات بعد موت ملك سوريا. على أي الأحوال لم يرجع إيرجيتس إلى سوريا.

ج. الحرب الثالثة:

"وبنوه يتهيَّجون فيجمعون جمهور جيوش عظيمة،

ويأتي آتٍ ويغمر ويطمو ويرجع ويُحارب حتى إلى حصنه.

ويغتاظ ملك الجنوب ويخرج ويُحاربه أي ملك الشمال،

ويقيم جمهورًا عظيمًا فيُسلَّم الجمهور في يديه" [10-11].

يتنبأ عن ابني كالينيكوس ملك سوريا وهما سلقوس (الثاني) سيرانوس Ceraunus وأنطيوخس الكبير، اللذين جمعا جيشًا للانتقام من المصريِّين بعد موت أيرجيتس. لكن سيرانوس قُتل في فيريجة في السنة الثالثة من حكمه، إذ خانه نيكانور وأباتيريوس Apaturius وهو يستعد للمعركة ضد مصر، تاركًا الحكم لأخيه وحده. صار أنطيوخس الكبير ملكًا مرموقًا، قاد جيشًا ضخمًا ضد مصر. كان في ذلك الوقت بطليموس فيلوباتور الملك الرابع على مصر، وقد حمل لقب فيلوباتور كوصمة عار، لأن الكلمة تعني "المحب لوالده"، بينما قتل والده ووالدته وأخاه، فكرهه الشعب. هذا ما دفع أنطيوخس الكبير للدخول معه في معركة شرسة في رفح سنة 217 ق.م، استخدم فيها الطرفان فيلة ضخمة، لاسترداد ما فقدته سوريا، معتبرين كراهية الشعب لملكهم فرصة للهزيمة. لكن ملك مصر جمع جيشًا عظيمًا يكاد يعادل جيش سوريا. استطاع أن يتحرك سيرانوس بجيشه ويسترد الأراضي السورية المغتصبة، بينما كان ملك مصر المتسم بالجُبن والتهاون يستعد بجيشه العظيم، وإذ التقى بجيش أنطيوخس انتصر عليه في مذبحة عظيمة [11].

لم يغلب فيلوباتور أنطيوخس الكبير بشجاعته وقوته، لكن الرب سمح بذلك ليكسر كبرياء الأخير.

وإذا كان متهاونًا في متابعة نصرته، خاصة وأنه لم يكن يثق فيمن حوله فمع نصرته صنع سلامًا مع أنطيوخس بطريقة غير كريمة [12].

"فإذا رُفع الجمهور يرتفع قلبه ويطرح ربوات ولا يعتز" [12].

يقول المؤرخون أنه كان يمكن لفيلوباتور أن يستولى على سوريا بسهولة، لكنه كان مستسلمًا لشهواته الجسدية وانحلال خلقه مع ارتكابه الكثير من الجرائم. فعند عودته من الحرب قتل زوجته Eurydice وارتكب جرائم كثيرة، كما سلَّم زمام الملك لسيِّدة شرِّيرة لاعبة موسيقى تسمى Agathoclea كما سقط في حب أخيها أغاثوكاليس Agathocles الذي أقامه قائدًا عامًا على مصر.

بعد أن اشتهر بالنصرات فكان الشرق كله يخشاه انغمس في السُكر مع الكسل والتراخي، ولم يعد يشغله شيء سوى الولائم والسهرات والملذات، بهذا ارتفع قلبه إلى سحب نصراته ليسقط منطرحًا في خزي.

"فيرجع ملك الشمال ويُقيم جمهورًا أكثر من الأول،

ويأتي بعد حين بعد سنين بجيشٍ عظيمٍ وثروةٍ جزيلةٍ.

وفي تلك الأوقات يقوم كثيرون على ملك الجنوب،

وبنو العُتاة من شعبك يقومون لإثبات الرؤيا ويعتزون" [13-14].

هنا يعلن الملاك للنبي عن قيام حروب جديدة، فبعد موت بطليموس فيلوباتير، صارت مصر بلا ملك، إذ كان ابنه بطليموس إبيفانس (الخامس 203-181 ق.م) طفلاً صغيرًا يبلغ عمره أربع سنوات وزاد انحراف أغاثوكاليس جدًا وعجرفته فثارت المقاطعات الخاضعة لمصر وتمردت ضد الحكم، ودخلت في مشاكل داخلية كبرى. قام أنطيوخس بالهجوم على مصر، وإذ كانت مصر قد ضعفت جدًا بعثت سفارة إلى روما، وإذ كان الرومان يشتهون مدّ سلطانهم في العالم أرسلوا إلى أنطيوخس يطلبون منه أن يتوقف عن الحرب. بعد محاولات كثيرة فشل في حربه، وأخيرًا انتصر في معركة ضد القائد المصري Scopas على حدود اليهودية. أوضح الملاك أنه لم يقف أنطيوخس الكبير وحده ضد مصر، بل صار لمصر أعداء كثيرون.

صنع أنطيوخس معاهدة مع فيليب الثالث المقدوني، وطلب عون اليهود [13]. رفض الأتقياء من اليهود معاونته لكن بعض اليهود ساندوه.

ماذا نعني ببني العتاة الذين من شعب دانيال يقومون لإثبات الرؤيا؟ يرى القديس جيروم[264] في هذا نبوة عن رئيس الكهنة أونياس الصغير الذي خان مذبح الرب ودنسه في أورشليم. هرب إلى مصر وآخذًا معه عددًا كبيرًا من اليهود، فاستقبلة بطليموس بكرامة عظيمة. قدم له الملك منطقة هليوبوليس (مصر الجديدة)، هناك بنى مذبحًا للرب، مدعيًا أنه يتمم نبوة إشعياء النبي الخاصة بإقامة مذبح للرب في أرض مصر (إش 19: 19)، وذلك كما أخبرنا سفر المكابيِّين وأيضًا يوسيفوس المؤرخ. يقول القديس جيروم: [إن الهيكل بقي قائمًا حتى عصر فسبسيان لمدة 250 عامًا. وقد دُعيت المدينة نفسها "مدينة أونياس"، وقد خُربت أثناء الحرب بين اليهود والرومان. ولم يعد باقيًا أي أثر للهيكل ولا للمدينة في أيام القديس جيروم.

"فيأتي ملك الشمال ويقيم مترسة ويأخذ المدينة الحصينة،

فلا تقوم أمامه ذراعا الجنوب ولا قومه المنتخب ولا تكون له قوة المقاومة.

والآتي عليه يفعل كإرادته وليس من يقف أمامه،

ويقوم في الأرض البهية وهي بالتمام بيده.

ويجعل وجهه ليدخل بسلطان كل مملكته،

ويجعل معه صلحًا، ويُعطيه بنت النساء ليفسدها فلا تثبت ولا تكون له" [15-17].

يقول القديس جيروم إن أنطيوخس لكي يسترد اليهودية وبعض مدن سوريا دخل في معركة مع Scopas قائد بطليموس، وذلك بجوار الأردن بقرب مدينة تُسمى Peneas، فهرب سكوباس، لكنه حوصر في صيدون مع عشرة ألاف من جنوده. ولم يعد للمصريِّين قوة للمقاومة، وهكذا جلس في الأرض البهية، فلسطين، التي صارت تحت سلطانه جاء في الترجمة السبعينية "أرض المسرة the land of desire"، ويقصد بها الأرض موضع سرور الله. سبق فأعلن الله لدانيال ما سيحدث حتى متى سقطت فلسطين في أيدي أنطيوخس العنيف لا تتحطم نفسية الأتقياء، بل يدركوا أن الله سبق فأعلن عن ذلك. هكذا تصير هذه النبوة سبب تعزية لهم وسط الضيق والسقوط تحت الألم والاضطهاد. ولكي تصير مصر في قبضة يده أعطى أنطيوخس ابنته الجميلة كليوباترة لبطليموس الشاب، ظانًا أنه بهذا يُخضع مصر تحت سلطانه. لكنها لم تقف بجانبه [17]، بل وقفت بجانب زوجها، فحوّل وجهه من مصر إلى آسيا الصغرى بأسطوله البحري فاستولى على كثير من الجزائر.

"ويحول وجهه إلى الجزائر، ويأخذ كثيرًا منها،

ويزيل رئيس تعبيره فضلاً عن ردِّ تعبيره عليه" [18].

 يُقصد بالجزائر آسيا الصغرى وسواحل البحر المتوسط واليونان وقبرص وجميع الجزائر بالبحر. فقد كانت عادة اليهود أن يدعو كل المناطق التي تقع بعد البحر بالجزائر، إذ لم تكن لهم خبرة في الشئون البحرية.

استطاع أنطيوخس بجيش صغير أن يتقدم إلى آسيا الصغرى، وكان معه هانيبال Hannibal الذي بلغت شهرته إلى الرومان وكانوا يرتعبون منه، لهذا لم يكن من الصعب عليه أن يطرد الرومان من كل منطقة يعبر إليها. صار هانيبال صديقًا حميمًا لأنطيوخس، يلازمه كل يوم ويتحدث معه، لكن أنطيوخس شك في إخلاصه. اتجه أنطيوخس نحو اليونان بلا تدبير حسن وفي غير تحفظ، وإذ بلغ خالسيس Chalcis انجذب نحو فتاة جميلة هناك فأقام حفل زواج معها كما لو كان في أرضه في سلامٍ تامٍ. وبحكم شهرته العظيمة افتتح مدنًا كثيرة كانت ترتعب أمامه، وحرَّر هذه المدن من الرومان. وكما يعلن الملاك لدانيال: "ويحوَّل وجهه إلى الجزائر، ويأخذ كثيرًا منها" [18].

برفضه مشورة هانيبال بدأ أنطيوخس ينهار ويحل به العار دون أن يدري، وكان يسخر بالرومان ويعيرهم. لقد احتل في البداية بعض مناطق باليونان التي كانت متحالفة مع القوة الرومانية الناشئة حديثًا، لكن القائد الروماني Acilius  أو Lucius Scipio Nasica   (ومعه أخوه Publius Scipio Aficanus) استطاع أن يجتذبه إلى ما وراء جبل طورس Taurus ويهزمه في مغنسيا فرد لأنطيوخس تعييراته التي كان ينطق بها ضد الرومان، لهذا يعلن الملاك "ويزيل رئيس تعييره فضلاً عن ردّ تعييره عليه" [18]. بهذا اِنهار أنطيوخس أمام اليونان المتحالف مع روما. وهنا يلوم كثيرون القائد Scipio لأنه ترك كل إمكانيات روما تحت تصرف فيليب المقدوني.

"ويحول وجهه إلى حصون أرضه ويعتز ويسقط ولا يوجد" [19].

ضعف أنطيوخوس أمام القائد الروماني Scipio فعاد إلى بلاده في خيبة أمل لكي يتحصن في بلاده بعد أن فقد الكثيرين [19]، وإذ حاول أن ينهب هيكل جوبيتر دودنيوس Jupiter Dodoneus في اليمايس Elymais بجوار شوشان، ربما لكي يدفع الجزية الرومانية، قُتل هو وجنوده بواسطة الشعب الثائر ضده. لهذا يقول الملاك "يسقط ولا يوجد".

مات أنطيوخس سنة 187 ق.م وقد تولى بعده المُلك سلقوس فيلوباتو (187-176 ق.م) ويدعوه البعض سيرانيوس Ceraunus والابن الثاني هو ديمتريوس. والثالث أنطيوخس إبيفانس، الآن يتحدث عن خلفه سلقوس قائلاً:

"فيقوم مكانه من يُعبر جابي الجزية في فخر المملكة،

وفي أيام قليلة ينكسر لا بغضب ولا بحرب؟" [20].

خلفه ابنه سلقوس فيلوباتور، وكان هذا مبالغًا في طلب الضرائب [20] ليدفع الجزية لروما فأرسل رئيس وزرائه Heliodorus إلى أورشليم لينهب الهيكل هناك. بعد قليل اغتال Heliodorus سيِّده، وتولى أنطيوخس إبيفانس الحكم.

"فيقوم مقامه مُحتقر، لم يجعلوا عليه فخر المملكة،

ويأتي بغتة ويُمسك المملكة بالتملقات" [21].

لقد أجمع كل المؤرِّخين أن أنطيوخس إبيفانس كان ماكرًا وعنيفُا إلى أبعد الحدود. إذ بلغ روما خبر موت أبيه أطلقوا سراحه إذ كانوا content (يستخفون) بأخيه ديمتريوس. كان يتملق الرومان، وعند وصوله إلى بلده استقبلوه بحفاوة عظيمة. لم يدم أخوه سلقوس كثيرًا، وكان قد ترك ابنه خلفًا له، لكن استطاع أنطيوخس بخداعه أن يستلم الحكم بلا حق، لذلك يقول عنه الملاك: "لم يجعلوا عليه فخر المملكة" ويكمل "ويُمسك المملكة بالتملُّقات". كيف تم ذلك؟ بخداعه تظاهر أنه رجل سلام مع ابن أخيه، الوارث الشرعي للمُلك، وأنه حارس له... بهذا استطاع أن يسحب المُلك منه.

"وأذرع الجارف تُجرف من قدامه وتنكسر وكذلك رئيس العهد" [22].

 لقد وجد أنطيوخس مقاومة من شعبه الذي اكتشف خداعه واستبعاده لابن أخيه، وأيضًا وجد متاعب من البلاد المحيطة مثل مصر، فقد كان ملكها بطليموس فيلوميتور ولدًا، وكان مشيروه على علاقة طيِّبة بابن سلقوس الذي استبعده عمه، فأرسلوا معونة سرية لمقاومة أنطيوخس. هكذا فعلت بلاد مجاورة كثيرة. لكن كل هذه الأذرع المقاومة انكسرت كقول الملاك هنا، إذ كانت كالسيل الجارف. لكنها سارت قدامه وانهارت. لم يكن ذلك بسبب قوة أنطيوخس وإنما بسماحٍ إلهي، لأن الله سمح بإقامته لتأديب اليهود في ذلك الحين.

من هو رئيس العهد الذي انكسر أمام أنطيوخس؟ يُقصد به بطليموس لأنه يمت بصلة قرابة مع الوارث الشرعي ابن سلقوس.

بطليموس فيلوميتور هذا كان أبنًا لبطليموس فيلوباتور وكليوباترة أخت سلقوس، ومع كونه ولدًا صغيرًا لا يستطيع أن يتحرك بنفسه لكنه كان رئيس عهد بكونه ملك مصر.

"ومن المعاهدة معه يعمل بالمكر، ويصعد ويعظم بقومٍ قليلٍ" [23].

في البداية كان أنطيوخس محتقرًا في سوريا، وكانت هناك محاولات تسندها مصر لكي يستلم الملك الشرعي "ابن سلقوس" الحكم. لكن أرسل أنطيوخس إلى ملك مصر (ابن أخته) يطلب صداقته، خاصة وأن كليوباترة أخت أنطيوخس كانت لا تزال على قيد الحياة. اطمأن بطليموس لخاله أنطيوخس وصارا في صداقة، لكن إذ ثبَّت أنطيوخس أقدامه قام فجأة بحملة قوامها عدد قليل واستولى على بعض مدن مصر من ابن أخته الذي لم يكن يتوقع قيام هذه الحملة.

"يدخل بغتة على أسمن البلاد، ويفعل ما لم يفعله آباؤه، ولا آباء آبائه.

يبذر بينهم نهبًا وغنيمة وغنى،

ويفكِّر أفكاره على الحصون وذلك إلى حين" [24].

استطاع بخداعه لا بقوة عسكرية ضخمة أن يغتصب من ابن أخته بعض مدنه وينهب ويحمل غنائم وغنى إلى بلده، إذ كان المصريُّون يعيشون في ترفٍ. عاد أنطيوخس يفكر كيف يهجم بعد ذلك على بلاد مصر الحصينة كمرحلة ثانية.

لقد فاق أنطيوخس آباءه وأجداده في الخداع، ولم يوجد من يُقارن به، خاصة وأن كسر العهود - خاصة في الشرق -  يُعتبر أمرًا مُشينًا، مهما كانت الظروف.

"ويُنهض قوته وقلبه على ملك الجنوب بجيش عظيم،

وملك الجنوب يتهيج إلى الحرب بجيش عظيم وقوي جدًا،

ولكنه لا يثبت لأنهم يدبِّرون عليه تدابير" [25].

بعد استيلائه على المدن المفتوحة الآمنة ونهبها عاد أنطيوخس يُهيِّئ جيشًا ضخمًا لفتح مصر والهجوم على مدنها الحصينة. كان محتاجًا إلى وقتٍ طويلٍ لتكوين هذا الجيش بعد أن استولى على بلاد كثيرة مجاورة بخداعه. في نفس الوقت أدرك ابن أخيه ميول خاله فاستعد للمعركة العلنية وهيّأ نفسه بجيشٍ عظيمٍ.

 [21-25] ركزت على أنطيوخس إبيفانس الذي أشير إليه قبلاً في الأصحاح 8، والذي دعي "ضد المسيح في فترة العهد القديم"

كان رجال قصره يدعوه Epiphanes إبيفانس أي السامي أو البهي، لأنه كان يهتم بالفنون والعمارة وإنشاء مبانٍ ضخمة جميلة وبهية، لكن البعض كانوا يغيِّرون حرفًا واحدًا Epimanes ويعني "المجنون" لأنه كان عنيفًا ومخادعًا ومعتوهًا في تصرفاته.

"والآكلون أطايبه يكسرونه، وجيشه يطمو، ويسقط كثيرون قتلى" [26].

لقد سمح الله لبطليموس أن يُغلب أمام أنطيوخس بخيانة رجاله، لأنه كان منهمكًا في الملذات، طامعًا، غير مبالٍ بشئون بلده.

"وهذان الملكان قلبهما لفعل الشرّ،

ويتكلَّمان بالكذب على مائدة واحدة، ولا ينجح،

لأن الانتهاء بعد إلى ميعاد" [27].

كان الملكان، الخال وابن أخته، شرِّيرين ومخادعين، لهذا إذ انكسر بطليموس رأى الاثنان حاجتهما إلى الصلح والدخول في صداقة حتى يُدبر كل منهما للآخر ما يُحطمه. لقد غلب أنطيوخس ابن أخته لكنه لم يجسر أن يكمل الرحلة، إذ خشي من الانهيار أمام بقية المدن الحصينة. جلس الاثنان على مائدة واحدة، أما قلباهما فكانا مملوئين كراهية وبغضة. هكذا تفعل السياسة بكثيرين، فيفقد الإنسان ثقته في أقرب من له.

يقول الملاك: "لأن الانتهاء بعد إلى ميعاد" [27]، بمعنى أن ما حدث كان في حدودٍ معينة، لكي تتم خطة الله، إذ لم يكن المنتهى قد جاء، لكن الله حدد  لكل شيء موعدًا.

"فيرجع إلى أرضه بغنى جزيل، وقلبه على العهد المقدس، فيعمل ويرجع إلى أرضه" [28].

عاد أنطيوخس إلى أرضه، سوريا، ولم يملك مصر، لكنه حمل غنى كثيرًا منها، ثم عاد ليشن حربًا ضد أورشليم والهيكل المقدس، وضد كل اليهود. لقد اضطر أن يترك أورشليم كما ترك الكثير من الخزائن كما جاء في (2 مك 5: 2)، حيث صنع الله عجائب. ضمَّ ما اغتصبه من الهيكل إلى ما سلبه من مصر، وعاد إلى سوريا حاملاً في داخله الرغبة في مقاومة العهد المقدس، أي يقاوم الله نفسه.

"وفي الميعاد يعود ويدخل الجنوب، ولكن لا يكون الآخر كالأول.

فتأتي عليه سفن من كتّيم،

فييئس ويرجع ويغتاظ على العهد المقدس،

ويعمل، ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس" [29-30].

إذ تمت المعاهدة بين أنطيوخس وابن أخته وجلسا معًا على مائدة واحدة، بدون سبب هيأ أنطيوخس جيشه وكسر العهد ودخل مصر واستولى على جزءٍ منها، كما حاصر الإسكندرية وأخذ الملك الولد مسبيًا، في ذلك الوقت جاءت إرسالية رومانية برئاسة Publuis أو  Popilusمن كتيم، التي يُقصد بها مقدونيا واليونان وإيطاليا. استقبله أنطيوخس بلطف شديد كعادته، لكن بوبيلس لم ينخدع بل طلب منه كأمر مجلس السناتور أو الشيوخ الرماني أن يترك مصر فورًا. طلب منه مهلة ليتشاور مع أصدقائه ومشيريه، لكن بوبيلس في حزم رسم دائرة حول الملك بالعصا التي في يده، وطلب منه أن يدعو مشيريه ويتفاهم معهم فورًا قبل خروجه من الدائرة، وإلاَّ أعلن الحرب ضده حالاً. لم يستطع أنطيوخس أن يتردد بل سلّم نفسه في أيدي السيناتور ورجع عن مصر. هذا الواقع التاريخي أعلنه الملاك لدانيال النبي.

لم يُحقق أنطيوخس أطماعه في مصر، وعاد في خزي لمجرد كلمة صدرت من السناتور الروماني، فعاد ليوجه كل طاقاته ضد أورشليم والهيكل المقدس؛ في هذه المرة جاء إلى أورشليم بصورة أكثر عنفًا وشراسة من المرة السابقة. عاد يبحث عن خونة للهيكل "تركوا العهد المقدس" من اليهود يستخدمهم ضد الشعب اليهودي والمقدسات الإلهية. وقد تحقق ذلك كما جاء بالتفصيل في (2 مك 3-5).

"وتقوم منه أذرع، وتنجِّس المقدِس الحصين،

وتنزع المحرقة الدائمة، وتجعل الرجس المُخرِّب" [31].

الأذرع التي وقفت مساندة لأنطيوخس هي لأولئك الذين خانوا الله ونسوا الشريعة، فكانوا مساندين للملك الشرِّير ضد الحق الإلهي (2 مك 4).

سمع اليهود خطأ أن أنطيوخس قُتل ففرحوا جدًا ولما سمع بالأمر في طريق عودته عبر بأورشليم وتصرَّف بقسوة شديدة معهم.

التجأ اليهود إلى روما للمساندة فأرسلت روما جيشًا بينما اتجه أنطيوخس لمقاومة القوى اليهودية تحت قيادة المكابيِّين [29]. خضع أنطيوخس لروما ووعد بحفظ السلام، لكن ما أن عادت القوات الرومانية حتى خان الوعد [30]، وساعده في ذلك بعض الخونة من اليهود.

بخداعه المعروف لم يمنع عبادة الله الحيّ، لكنه بدأ أولاً بممارسة العبادات الوثنية في داخل الهيكل جنبًا إلى جنب مع عبادة الله. دنَّس الهيكل حيث وضع تمثال جوبتر أولمبياس Jupiter Olympius فيه، بعد ذلك وأوقف العبادة اليهودية، وأقام نفسه إلهًا، وذبح خنزيرًا على المذبح. ثار الأمناء الأتقياء ضده تحت قيادة أسرة المكابيِّين الأبطال، فقُتل منهم الآلاف. ما فعله يُحسب "رجسه خراب للهيكل" رمزًا لرجسة الخراب التي ستحدث في أواخر الدهور والتي أشار إليها السيِّد المسيح (مت 25: 24).

"والمتعدُّون على العهد يغويهم بالتملُّقات.

أمّا الشعب الذين يعرفون إلههم فيقْوون ويعملون" [32].

يوضح الملاك كيف انقسم الكهنة وأيضًا الشعب إلى فريقين، فريق خدعته تملقات أنطيوخس، وآخر تمسكوا بمعرفة الله فيهبهم الله قوة وفهمًا أكثر. وكما يقول القديس جيروم: [إنه لا يشك أحد بأن هذا سيحدث أيضًا في أيام ضد المسيح، حيث يقاومه كثيرون ويهربون منه في اتجاهات كثيرة. ويفسِّر اليهود هذه الأمور عن خراب الهيكل على يديّ فسبسيان وتيطس، ويقولون إن كثيرين ممن أقامهم عرفوا ربهم وقتلوا من أجل حفظهم شريعته[265]].

يقول القديس جيروم: [نقرأ في المكابيِّين أنه وُجد من تظاهروا بأنهم أوصياء على شريعة الله، وأخيرًا دخلوا في عهد مع الأمم... لكن في رأيي هذا سيحدث في أيام ضد المسيح حين تبرد محبة الكثيرين. عن هؤلاء يقول ربنا في الإنجيل "ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعلَّه يجد الإيمان على الأرض؟! (لو 18: 8)[266]].

"والفاهمون من الشعب يُعلِّمون كثيرين.

ويعتزُّون بالسيف وباللَّهيب وبالسبي وبالنهب أيامًا.

فإذا عثروا يُعانون عونًا قليلاً، ويتصل بهم كثيرون بالتملُّقات" [33-34].

رفض الحكماء بين الشعب (غالبًا من الكهنة) تملُّقات أنطيوخس وعلَّموا كثيرين أن يستهينوا بكل وسائل العذابات سواء كان القتل بالسيف أو الحرق بالنار أو سبيهم أو نهب ممتلكاتهم، حاسبين هذه كلها أمجادًا وكرامة.

هنا دعوة لاتباع المخْلصين والأمناء في علاقتهم بالله، وعدم الانسياق وراء المتملِّقين أيَّا كانت رتبتهم أو مركزهم. كما هي دعوة للكهنة والقادة أن يقبلوا السيف ويستهينوا بالنار ولا يفقدوا إخلاصهم لله وتمسكهم بالوصية الإلهية، فإنهم وإن بدوا كأنهم قد سقطوا، وليس من عونٍ إلا القليل، مثل المكابيِّين الذين لم يلتصق بهم إلاَّ القلة القليلة الأمينة، يلزمهم ألاَّ يهتموا بالأمجاد الزمنية والمديح.

"وبعض الفاهمين يعثرون امتحانًا لهم للتطهير وللتبييض إلى وقت النهاية.

لأنه بعد إلى الميعاد" [35].

هنا يؤكد أنه يسقط بعض الفاهمين، ولعلَّه يقصد هنا السقوط بالسيف أو بالحرق بالنار، لكن هذا لا يعني عدم مساندة الله لهم، إنما يسمح بذلك لخلاصهم، من أجل تزكيتهم في النهاية، حيث يتطهرون ويبيضون بعمل الله فيهم أثناء معاناتهم من الضيق. يُحسبون شهداء عبروا النيران فتنقوا كالذهب الخالص.

هكذا كان الله يُهيِّئ نفوس المكابيِّين ومن على شاكلتهم ليس منذ لحظة ولادتهم، بل وقبل خلقتهم... حتى متى تحرَّكوا للعمل وشاهدوا المقاومة يرجعوا إلى نبوات دانيال فيتشددوا ولا يخافوا.

يقول القديس هيبوليتس الروماني: [صار أنطيوخس ملكًا على سوريا، ملك في السنة 107 من مملكة اليونان. وفي نفس الوقت أثار حربًا ضد بطليموس ملك مصر وغلبه ونال سلطانًا. في عودته من مصر صعد إلى أورشليم في سنة 103، حاملاً معه كل كنوز بيت الرب، واتجه إلى أنطاكية. بعد عامين أرسل الملك جابيًا للضرائب إلى مدن اليهودية ليجبر اليهود على ترك شرائع آبائهم ويخضعهم لسنن الملك. جاء وحاول أن يُلزمهم بذلك، قائلاً: "تعالوا، وتمموا أوامر الملك فتحيون". أما هم فأجابوا: "لا نأتي ولا نتمِّم أوامر الملك، إننا نموت طاهرين؛ فقام بذبح ألفًا من النفوس" (1 مك 2: 33). بهذا تحقق ما قاله دانيال: "ويعثرون بالأتعاب والمجاعة والسيف والسبي" (دا 11: 33). ويضيف دانيال: "يعانون عونًا قليلاً" (دا 11: 34). إذ قام متياس في ذلك الحين ويهوذا المكابي لمعاونتهم وتخليصهم من أيدي اليونان[267]].

فجأة تحولت الرؤيا إلى نهاية الأزمنة ومجيء ضد المسيح في تفصيل عن شخصه وأعماله الشرِّيرة.

4. نهاية الأزمنة – ضد المسيح:

[36-39] تقدم نفس الشخصية الواردة في (دا 7: 8؛ 9: 26) عن "القرن الصغير"، هنا يدعوه الملك الذي يعمل حسب إرادته [36].

ويفعل الملك كإرادته ويرتفع ويتعظَّم على كل إله،

ويتكلَّم بأمورٍ عجيبةٍ على إله الآلهة،

وينجح إلى إتمام الغضب لأن المقْضي به يُجرى.

ولا يُبالي بآلهة آبائه، ولا بشهوة النساء، وبكل إله لا يبالي،

لأنه يتعظَّم على الكل" [36-37].

اختلف اليهود في تفسيرهم للنص السابق، فالبعض ظن أن الملاك يتحدث عن أنطيوخس إبيفانس وآخرون ظنوا أن الحديث هنا عن الرومان مثل فسبسيان وابنه تيطس، أو الدولة الرومانية ككل. أما آباء الكنيسة فرأوا أن الحديث هنا عن ضد المسيح وليس عن أنطيوخس، لأن ما ورد بعد ذلك لا ينطبق عليه. وإن كان البعض رأى أن الحديث عن الدولة الرومانية المتشامخة، التي أقام بعض الأباطرة أنفسهم آلهة، وطلبوا من الشعب السجود لتماثيلهم وصورهم.

يضع هذا الشخص السالك بإرادته الذاتية فوق كل شيء مثل لوسيفور (إش 14: 13-14)، حتى فوق الله نفسه. يمثل تمجيد لذاته، الأمر الذي يقاومه الإيمان المسيحي.

ينسب لنفسه كرامات إلهية وينطق بعجائب (تجديفات) ضد الله، إله الآلهة. إذ قيل أنه لا يبالي بإله آبائه، هذا دعي البعض بالقول أن ضد المسيح سيكون يهوديًا جاحدًا للإيمان.

ما جاء هنا عن ضد المسيح بكونه حاكمًا يعيد إقامة الدولة الرومانية وأنه يقاوم اليهود جعل البعض يظنون أنه مسيحي  جاحد الإيمان.

الكلمة العبرية "إله آبائه" هيElohim  وهي التي تترجم آلهة بهذا يظن أنه يحتقر كل الديانات التي لآبائه. الإله الوحيد الذي يؤمن به هو القوة والعنف، إله القدرة العسكرية.

أما "شهوة النساء" فكما يقول القديس جيروم: [إنه يوجد تفسيرين لهذا التعبير، أما أنه يُقصد به طلب شهوة النساء أو حجد هذه الشهوة كما سيفعل ضد المسيح الذي سيتظاهر بالعفة لكي يخدع الكثيرين[268]. يرى البعض أنها تُشير هنا إلى رغبة اليهوديات أن يحبلن بالمسيَّا. وربما تعني أنه لا يبالي بالنساء ورغباتهن. يُقال أن  هتلر  كان من هذا النوع.  في القرن السادس عشر وُجد رأيان رفضهما كالفن، الأول هو أن المقصود هنا هو "البابا" إذ جاء في الفصل السابع من المجلد الأول للمجامع قوانين البابا Siricius حيث قيل إن الذين في الجسد لا يسرُّون الله، حاسبين أن الزواج أقرب إلى الزنا. أما الرأي الثاني فهو الرغبة في النساء حيث يُسمح للشخص بالارتباط بأكثر من زوجة شرعيًا. ويرى البعض أن الحديث هنا عن الأباطرة الرومان الذين اشتهروا بكراهيتهم لزوجاتهم ولجنس النساء بوجه عام.

يقول القديس جيروم: [إن النص هنا ينطبق على ضد المسيح وليس على أنطيوخس لأن الأخير حاول أن يُلزم اليهود والسامريِّين أن يُعيِّدوا لآلهته، وأنه أقام تماثيل لآلهة اليونان، أما ضد المسيح فهو لا يبالى بآلهة آبائه، بل يُقيم نفسه إلهًا.

"ويكرم إله الحصون في مكانه،

وإلهًا لم تعرفه آباؤه

يُكرمه بالذهب والفضة وبالحجارة الكريمة والنفائس.

ويفعل في الحصون الحصينة بألَّه غريب.

من يعرفه يزيده مجدًا،

يُسلطهم على كثيرين،

ويقسم الأرض أُجرة" [38-39].

يتحدث هنا عن "ضد المسيح"، الإله الذي لم يعرفه آباؤه وهو يعني "نفسه"، إذ ينسب لنفسه الكرامات الإلهية، ويطلب كل غنى وسلطان لذاته، فهو الإله الغريب. وسيقدم هدايا للذين يخضعون له، وينخدعون به.

يرى البعض أن هذا ينطبق أيضًا على الدولة الرومانية التي رفضت عبادة الله الحيّ، وكان إلهها هو القوة والحصون المنيعة، وحب السلطة مع طلب الجزية والمكاسب المادية من الدول التي تستعمرها. لقد أقام الأباطرة لأنفسهم أو لآلهتهم تماثيل من الذهب والفضة والحجارة الكريمة والنفائس. كانوا يحسبون أنفسهم أعظم وأقوى من الآلهة، ليس من يقدر أن يبلغ إليهم. وكانوا أيضًا يتطلَّعون إلى "روما" بكونها الإله الذي يجب تكريمه فوق كل الآلهة.

لم يكن يجسر اليونانيُّون على مهاجمة الآلهة أيّا كانت، أما الرومان فكثيرًا ما كانوا يتظاهرون بتكريم حتى الآلهة الغريبة للشعوب الأخرى، لكنهم أيضًا كانوا يسخرون بالآلهة وينادون بإنكارها حاسبين أن دولتهم وكيانهم فوق كل اعتبار.

"ففي وقت النهاية يُحاربه ملك الجنوب،

فيثور عليه ملك الشمال بمركباتٍ وبفرسانٍ وبسفن كثيرةٍ،

ويدخل الأراضي ويجرُف ويطمو.

ويدخل إلى الأرض البهية،

فيعثر كثيرون، وهؤلاء يفلتون من يده أدوم وموآب ورؤساء بني عمون.

ويمد يده على الأراضي، وأرض مصر لا تنجو.

ويتسلَّط على كنوز الذهب والفضة وعلى كل نفائس مصر.

واللوبيُّون والكوشيُّون عند خطواته.

وتفزعه أخبار من الشرق ومن الشمال،

فيخرج بغضبٍ عظيمٍ ليخْرب وليحرم كثيرين.

وينصب فسطاطه بين البحور وجبل بهاء القدس ويبلغ نهايته ولا معين له" [40-45].

[40-45] تقدم لنا بعض أحداث الأيام الأخيرة التي للملك المعتد بذاته وغيره.

يلاحظ أنها تقدم لنا ثلاثة شخصيات:

1. الملك المعتد بذاته "ضد المسيح".

2. ملك الجنوب (مصر).

3. ملك الشمال (سوريا).

يقول القديس جيروم: [إننا نقرأ أن أنطيوخس حقق هذا جزئيًا، لكن إذ نلاحظ ما جاء بعد ذلك تفصيليًا "وسيعبر على اللوبيِّين (الليبيِّين) والكوشيِّين (الأثيوبيِّين)" فإن مدرستنا تصر أن يناسب ذلك بالأكثر ضد المسيح. فإن أنطيوخس لم يفتتح ليبيا قط، هذه التي يفهمها أغلب الكتَّاب على أنها شمال أفريقيا، ولا أثيوبيا[269]].

سيُقيم ضد المسيح مركزه في أورشليم، ويمتد سلطانه إلى البحار [45]، خاصة البحر الأبيض المتوسط والبحر الميِّت. سيُقيم مركزه على الجبل البهي المجيد، أي جبل صهيون. ومع كل ما يبلغه من قوة وسلطان فإنه لن يقدر أحد أن يسنده؛ سينهار ضد المسيح أمام إيليا وأخنوخ اللذان يسندان الكنيسة في عصره ويهيِّئان المؤمنين لمجيء السيِّد المسيح الأخير.

يقول القديس جيروم: [مدرستنا الفكرية تصر على أن ضد المسيح سوف يهلك في نفس البقعة التي فيها صعد الرب إلى السماء (جبل الزيتون)[270]].

 

 


من وحي دانيال 11

ليعبر التاريخ، ولتأتِ آخر الأزمنة!

 

v   في قبضتك التاريخ كلُّه،

وليس شيء مخفيًا عنك.

يقوم جبابرة وينهار آخرون.

تُقام عهود، يحفظها البعض، ويكسرها آخرون.

مملكة تصارع مملكة،

والتاريخ يطوي هذه وتلك.

v   ليعبر التاريخ وينطوي بكل أحداثه،

ولتأتي آخر الأزمنة.

سيبث ضد المسيح كل سمومه؛

لكن مسيحنا الغالب قادم حتمًا!

لتأتٍ أيُّها الغالب، وليتمجَّد مؤمنيك!

[258] C. Larkine: The Book of Revelation, p. 113.

[259] St. Justin: Apol. 1: 10.

[260] PL 25: 701.

[261] PL 25: 703.

[262] PL 25: 703.

[263] PL 25: 706.

[264]  PL 25: 707.

[265] PL 25: 717.

[266] PL 25: 716.

[267] AN Frs., vol. 5, p. 183.

[268] PL 25: 719B.

[269] PL 25: 721.

[270] PL 25: 723.