الأصحاح السابع

رفض الطبيب

يحاجج الرب شعبه في صراحة ووضوح متقدمًا إليهم كطبيب يشفي جراحاتهم، بعد أن يفضحها ويعلنها للمريض حتى يقبل العلاج، لكن للأسف رفضوا الطبيب الحقيقي وعلاجاته.

1. الطبيب يعلن المرض 1-2.

2. مرض القيادات3-7.

3. مرض الشعب 8-12.

4. رفض الطبيب 13-16.

1. الطبيب يعلن المرض

إذ يتقدم الله كطبيب للنفوس يود علاجها، يضطر أن يعلن المرض ويكشف عن مداه وخطورته حتى يتقبل المرضى علاجه. "حينما كنت أشفي إسرائيل، أعلن إثم إفرايم وشرور السامرة، فإنهم قد صنعوا غشًا؛ السارق دخل والغزاة نهبوا من الخارج" [ع1].

جاء ليشفي إسرائيل بوجه عام فأعلن إثم إفرايم، السبط الذي أخذ مركز الصدارة في الشر، وفضح شرور السامرة التي هي العاصمة. إنه كطبيب لا يجامل ولا يداهن لكنه يفضح المرض حتى يمد يده بالمشرط ليقطع بحزم لكن في حب. يعلن إثم السبط الأكثر شرًا والمدينة الأكثر فسادًا دون مجاملة على حساب الشفاء! أما عن نوع المرض الذي أصابهم فهو "أنهم قد صنعوا غشًا"، وهذا هو أخطر ما يصيب الإنسان أن يفعل غشًا، يغش الناس وربما يغش نفسه ويخدع ضميره، ظانًا أنه قادر أيضًا أن يغش الله. قلبه مملوء لصوصية أما ثيابه فكهنوتية، مدينته كجلعاد في مظهرها تضم رجال الله "اللاويين"، لكن في حقيقتها تضم "فاعلي الإثم" (6: 8). هكذا غلف إسرائيل إثمه بتقديم تقدمات وذبائح لله وممارسة بعض العبادات، أما قلبه فكان مبتعدًا ومرتدًا عن الله.

إن كان إسرائيل أراد أن يغش الآخرين بمظاهر خارجية، لكن الفساد الداخلي حمل انعكاساته على التصرفات الظاهرة أيضًا، وبينما يحاول الخداع بمظهره يتحطم في الداخل والخارج، إذ يقول: "السارق دخل والغزاة نهبوا في الخارج" [ع1]. لقد تسلل المرض كالسارق إلى الداخل حيث الأعماق الخفية، فانفتح الباب للغزاة في الخارج. صار الإنسان بكليته فاسدًا، يحتاج إلى شفاء القلب والفكر والنية في الداخل، وإلى علاج السلوك الظاهر والمعاملات الواضحة.

أخطر ما في مرضهم ليس المرض في ذاته وإنما تجاهلهم له، فظنوا فيه أمرًا تافهًا لا يحتاج إلى تذكره، وإن الله نفسه لا يهتم به، لذلك يقول: "لا يفتكرون في قلوبهم أني قد تذكرت كل شرهم، الآن قد أحاطت بهم أفعالهم، صارت أمام وجهي" [ع2]. إن كانت خطاياهم مخفية عن أعينهم، أو لا تشغل فكرهم، لكنها قائمة أمام وجه الله، يذكرها لكي ينزعها عنهم.

لعلهم يسألون: لماذا يعلن الله إثم إفرايم ويفضح شرور السامرة؟ يجيب: "الآن قد أحاطت بهم أفعالهم" [ع2]. كأنه يقول لهم لا تغضبوا عليَّ لأني أكشف ضعفاتكم بل بالحري اغضبوا على أنفسكم لأنكم تسلكوا هكذا، فأنا وإن كنت أفضح إنما لكي أشفي جراحاتكم، أما أنتم فبتجاهلكم لها تجعلون مرضكم عديم الشفاء!

2. مرض القيادات

في الأصحاح الرابع أعلن محاكمته للكهنة بسبب عدم المعرفة، ورأينا أنهم يمثلون القلب الذي بعدم نقاوته لا يقدر على معاينة الله، فيدخل بالجسد كله إلى ظلمة الجهل وعدم المعرفة. هنا يدين الملك والرؤساء، حيث يشير الملك إلى الإرادة الإنسانية، بفسادها وشرها تدير الإنسان كله نحو الشر والفساد، والرؤساء يشيرون إلى مراكز القيادة في النفس وما تحمله من طاقات ومواهب.

يقول: "بشرهم يُفرحون الملك وبكذبهم الرؤساء" [ع3]. هذه أبشع صورة للقيادة التي لا تتسم بالشر فحسب وإنما تسر بشر الآخرين وكذبهم... لذا يقول: "جميع ملوكهم سقطوا، ليس بينهم من يدعوا إليَّ" [ع7]. كأن فرحهم لا يشبع حياتهم ولا يسند نفوسهم بل هو فرح زمني مؤقت يدفعهم للسقوط ويحرمهم من الإلتجاء إلى الله، فيخسرون مصدر حياتهم وفرحهم الحق.

يصف هؤلاء الملوك والرؤساء (أو قيادات الإنسان الداخلية) في شرهم هكذا: "كلهم فاسقون كتنور محمى من الخباز" [ع4]. النفس المتنجسة تصير كتنور متقد، تلهبها الشهوات الشريرة والعواطف غير المضبوطة. يقول القديس جيروم: [كلهم فاسقون قلوبهم كتنور (الترجمة السبعينية)، كتنور لا يمكن أن تطفئه مراحم الله مع الصوم الشديد (بسبب عدم توبتهم). إنها السهام النارية (أف 6: 16) التي يجرح بها الشيطان البشر، ويجعلهم كمن في نار، هذه التي أشعلها ملك بابل ضد الثلاثة فتية... لكن ظهر رابع في شكل ابن الله يهدئ الحرارة المرعبة ويجعل لهيب الأتون الناري باردًا[48].]

ويرى القديس جيروم أن هذا الأتون الناري الذي تلهبه الشهوات الشريرة لا يمكن أن يطفئه إلاَّّ الروح القدس الناري، فيحرق النار الفاسدة ليلهب نار الله المقدسة داخل القلب، إذ يقول: [لو لم يلتهب القلب بالروح القدس ما استطاع أن يغلب الشهوة، فإن روح الرب ألهبه وحرق نار الشهوه[49]]! ويتحدث أيضًا عن النار المقدسة قائلاً: [لنصِل إلى الرب الذي يحوّل أيه قساوة فينا إلى لطف، ويمحو خطايانا، فنصير كنار يُنزع عنا برود إبليس الذي في قلبنا وننمو في الدفء بالروح القدس، هكذا مع وجود أيضًا حرارة شديدة طبعًا...[50]]

لم يصيروا هم تنورًا متقدًا فحسب، وإنما حتى مكائدهم وتدابيرهم الشريرة الخفية تصير كالتنور: "لأنهم يقربون قلوبهم في مكيدتهم، كل الليل ينام خبازهم وفي الصباح يكون محمي كنار ملتهبة" [ع6]. كما أن الخباز يلقي بالحطب داخل التنور ويذهب لينام بالليل فيجده في الصباح ملتهبًا، هكذا هؤلاء الأشرار يلقون بالوقود - المشورات الشريرة - وفي بلادة ينامون كل ليلهم وفي الوقت المناسب يجدون التنور ملتهبًا.

"كلهم حامون كالتنور وأكلوا قضاتهم" [ع7]. أكلوا القلة القليلة من الصالحين الذين يدينون تصرفهم الشرير... صاروا نارًا آكلة لا للشر وإنما للقضاة العادلين.

3. مرض الشعب

 إذ كشف عن القيادات التي صارت كتنور محمى ملتهب بوقود الشهوات الشريرة، يأكلون قضاتهم الصالحين، يكشف للشعب أيضًا عن مرضهم، قائلاً:

ا. "إفرايم يختلط بالشعوب، إفرايم صار خبز مَلَّة لم يقلب" [ع8]. إذ نُزعت الحدود التي تفصل إفرايم عن الشعوب الوثنية مع أن الله سبق فأكد: "الشعب يسكن وحده" (عد 23: 9)، أما هم فقد "اختلطوا بالأمم وتعلموا أعمالهم" (مز 106: 35). إنها صورة مرة للكنيسة التي تحمل روح العالم في داخلها، لا تعرف التزامها كخادمة للملكوت إنما تحيا بفكر أرضي زمني، حقًا يليق بالكنيسة ألا تعتزل العالم في كبرياء ولا تقف موقف المبرر لذاته وإنما تنحني كسيدها بالحب لتغسل كل قدم وتفتح قلبها لكل إنسان وتحنو على كل بشر، لكي ترفع الكل إلى الحياة السماوية لا لكي تنزل هي إلى الفكر الترابي الجسداني.

أما قوله: "صار خبز مَلَّة لم يُقلب" فيشير إلى الخبز الذي لم يُقلب قبل إدخاله إلى الفرن، فيكون ظاهره مختمر أما الجزء الأسفل فغير مختمر، لذا بدخوله الفرن يتشقق الجزء العلوي أما الجزء السفلي فيصير "ملبدًا غير هاش". هكذا صار إفرايم له وجه متدين حين يقدم ذبائح وتقدمات وممارسات تعبدية، أما الوجه الخفي فيحمل ارتدادًا عن الله. الرياء يجعل من الإنسان "خبز مَلَّة لم يُقلب" ما يظهره الوجه العلني يضاد ما يحمله الوجه الخفي.

يشبه الإنسان الشرير خاصة المرائي بخبز مَلَّة لم يُقلب، هذا الذي يدخل به إبليس كخباز إلى التنور المُحمى الملتهب بنار الشهوات. بينما يدخل السيد المسيح بجسده إلى تنور حبه الإلهي، فيحمل فيه جراحات الحب وعلامات الصليب ليقدمه لنا "الخبز النازل من السماء" (يو6)، إذ بإبليس على النقيض يود أن يقتنصنا نحن ليدخل بنا إلى تنور شره ليجعل منا خبز مَلَّة لم يقلب يشتهيه هو ويلهو به ويهزأ به!

ب. "أكل الغرباء ثروته وهو لا يعرف" [ع9]. من هم هؤلاء الغرباء إلاَّ الملوك من الأمم الذين إِتكأ (اتكل) عليهم شعب الله ليخلصوهم، فإذا بهم يلتهمونهم ويسلبونهم ثروتهم، كما جعلهم "ملك آرام كالتراب للدوس" (2 مل 13: 7).

وكما فعل بهم فرعون مصر وأيضًا ملوك آشور... فمن لا يرجع إلى الله مخلصه يصير غنيمة للغرباء.

هؤلاء الغرباء في الواقع هم إبليس وشياطينه وأعماله (الخطايا) فهم يأسُرون النفس التي تفتح لهم الباب ويسلبونها أثمن ما لديها، حياتها الأبديّة. هكذا يُحسب إبليس غريبًا لأنه ليس بالخالق لكنه ينسب لنفسه العالم، ويود أن يملك كل نفس ليجعل منها خبز مَلَّة لم تقلب، يدخل بها إلى تنوره المحمى بالنار ليأكله ويلهو به!

ج. "وقد رش عليه الشيب وهو لا يعرف" [ع9].، أيّ انتشرالشيب فوق رؤوسهم وهم لايدركون... دخلوا في حالة من الشيخوخة الروحيّة، وصاروا قريبًا من الاضمحلال (عب 8: 13) وكما يقول الأب موسى: [هناك بعض عبروا إلى الشيخوخة بالفتور والكسل[51].]

أما المؤمن التقي فلا يشيخ قلبه قط، وإنما وإن كان إنسانه الخارجي يفنى لكن الداخل يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16)، إنه كالنسر يتجدد شبابه (مز 103: 5). مثل هذا يحمل لا شيبة الرأس أو القلب المحطمة للجسد أو النفس، إنما شيبة الحكمة، أي خبرتها الطويلة كقول الحكيم: "شيب الإنسان هو الفطنة، وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة، لا يكون بشيبة الرأس بل بحكمة الحياة الفاضلة، وبلوغ طريق الكمال في المسيح يسوع ربنا.

د. سقوطهم في كبرياء والاعتداد بالذات عوض الاتكال على الله: "وقد أذلت عظمة إسرائيل في وجهه وهم لا يرجعون إلى الرب إلههم ولا يطلبونه مع كل هذا" [ع10]، الأمر الذي سبق فوبخهم عنه (هو 5: 5).

ه. "وصار إفرايم كحمامة رعناء بلا قلب، يدعون مصر، يمضون إلى آشور" [ع11]. لقد كانت مملكة إسرائيل هكذا تتخبط باستمرار، تركت عشها الحقيقي "هيكل الرب بأورشليم" وانطلقت إلى السامرة تقيم هيكلاً حسب هواها. وها هي الآن تتخبط، تارة تنطلق إلى فرعون مصر لتتحالف معه ضد ملك آشور، وأخرى تفعل العكس، وكلاهما يستغلانها لحسابه الخاص.

إنها حمامة رعناء بلا وقار ولا حكمة، كما أنها بلا قلب إذ لا تحمل فيها روح الحب لله الذي يسحبها إلى السموات في اِتجاه واحد بلا تخبط. أما الكنيسة الحقة فهي حمامة في محاجئ الصخر (نش 2: 14)، مختفية في السيد المسيح صخر الدهور، تسلك بوقار وحكمة وتحمل قلبًا يتسع لمحبة السمائييّن والأرضيين جميعًا!.

يعلق القديس جيروم على عبارة التي بين أيدينا، قائلاً: [لاحظ أنه يقارن إفرايم بحمامة غبية، إذ ترك إفرايم الهيكل وسكن في الغابات. فإن الحمام دائمًا يعيش في الأبراج أما إفرايم حمامتي فقد هجر الهيكل، ترك البيت ليعيش في الغابات، فصار يسكن في البرية[52].]

ليتنا لا نكون كالحمامة الرعناء التي لا تعرف لها مستقرًا، إنما ندخل إلى الرب خلال مذبحه المقدس فنلتقي به في ذبيحته الواهبة الخلاص، قائلين: "العصفور أيضًا. وجد بيتًا والسنونة عشًا لنفسها حيث تضع أفراخها، مذابحك يارب الجنود ملكي وإلهي، طوبى للساكنين في بيتك أبدًا يسبحونك" (مز 84: 3-4).

4. رفض الطبيب

إذ أكدّ الطبيب السماوي ضرورة الكشف عن الجراحات وإعلان المرض بالنسبة للقيادات كما للشعب، فإنهم لم يحتملوا هذا الأمر، فأعلنوا عصيانهم عليه. "ويل لهم لأنهم هربوا مني، تبّا لهم لأنهم أذنبوا إليَّ" [ع13]. تودّد إليهم ليشفيهم فحسبوه عدوًا لهم، فهربوا منه كما تهرب الحمامة الرعناء من الأبراج لتحيا تائهة بلا مأوى، بهذا أهانوا الله راعيهم وأذنبوا إليه. قابلوا محبته بالعصيان، ولطفه بالعداوة، إذ يعاتبهم، قائلاً: "أنا أفديهم وهم تكلموا عليَّ بكذب" [ع13]. ما هو الكذب الذي تكلموا به على الله؟ عندما سقطوا تحت الضيق رجعوا بالكذب، ولم يرجعوا إليه بالحق، إذ رجعوا لنزع الضيق عنهم أما قلوبهم فملتصقة بالزيغان... جاءوا من أجل البركات الزمنية من قمح وخمر، لكن قلوبهم مرتدة عن واهب العطايا. "لا يصرخون إليَّ بقلوبهم حينما يولولون على مضاجعهم، ويتجمعون لأجل القمح والخمر (بسبب انقطاع المطر عنهم) ويرتدون عني" [ع14].

كانوا يصرخون بشفاههم بكلمات كثيرة، أما قلوبهم فمبتعدة عن الله، وعلى العكس نرى موسى لا ينطق بكلمة من شفتيه والله يسمع صرخات قلبه الداخلية (خر 14: 15) ويستجيب لها.

الله يسندهم ويشدد أذرعهم، أما هم فيفكرون عليه بالشر [ع15]، لذلك لا يرجعون إلى العليّ ولا يطلبونه بقلوبهم، إنما خلال المظاهر الخارجية وحدها. إنهم "قد صاروا كقوس مخطئة"... يجتمعون معًا ويصرخون لكن عوض أن يضربوا بالقوس والسيف العدو يحطموا أنفسهم وطاقاتهم الداخلية "يسقط رؤساؤهم بالسيف من أجل سخط ألسنتهم" [ع16].

"هذا هو هزؤهم في أرض مصر" [ع16]، فإنهم يهربون إلى فرعون ويحتمون به فيصيرون في هزء وسخرية لأن الله قد تنحى عنهم.

[48] Ep. 130:10.

[49] Ibid.

[50] . Ibid.

[51] Cassion: Conf.

[52] On Ps. Hom 11.