الأصحاح الأول

رؤيتا الخيل والقرون الأربعة

بعد أن افتتح السفر بدعوة للتوبة بكلمات مملؤة رقة تتناسب مع شعب انسحق بالذل في السبي قدم لنا في هذا الأصحاح رؤيتين مبهجتين تخصان إقامة هيكل الرب فينا.

1. دعوة للتوبة                      [1-6].

2. رؤيا الخيل                        [7-11].

3. غيرة الرب على بيته             [12-17].

4. رؤيا الأربعة قرون                [18-21].

1. دعوة للتوبة:

حدد النبي تاريخ نبوته بالشهر الثامن في السنة الثانية لداريوس (520 ق.م)، قائلاً: "في الشهر الثامن في السنة الثانية لداريوس كانت كلمة الرب إلى زكريا بن برخيا بن عدّو النبي، قائلاً" [1]. هنا يذكر النبي اسمه واسمي والده وجده، ولعل ذكر اسم جده لأنه هو الذي قام بتربيته بعد وفاة والده، ولأنه كان مشهورًا وسط العائدين من السبي (نج 12: 1، 4، 7).

كانت دعوة الرب إليهم هي: "قد غضب الرب على آبائكم... هكذا قال رب الجنود ارجعوا إليَّ يقول رب الجنود فأرجع إليكم يقول رب الجنود" [2-3]. ويلاحظ هنا:

أولاً: في هذه الدعوة لم يذكر تفاصيل خطايا آبائهم الماضية، إذ لم يرد أن يجرح مشاعرهم بعد دخولهم فى ذل السبي... وإنما أراد حتى في حثهم على التوبة أن يسندهم ويشجعهم ويرفع من روحهم المعنوية.

ثانيًا: لعله قصد هنا بآبائهم الأجيال السابقة للسبى التي لم تسمح للأنبياء الحقيقيين بل سارت وراء الأنبياء الكذابة فانتهى الأمر بسبي إسرائيل ثم يهوذا. وربما قصد بهم الذين رجعوا من السبي منذ حوالي 15 عامًا، الذين أهملوا في بناء الهيكل وانهمكوا في ملذاتهم الأرضية (حجى 1)، هؤلاء الذين فى غيرتهم رجعوا من السبي إلى أورشليم مع زربابل، لكنهم إذ لم يرجعوا بقلوبهم للرب توقف العمل وخسروا حياتهم الروحية. لذلك يؤكد الرب: "ارجعوا إليَّ... فأرجع إليكم". إنه قبل الرجوع إلى المكان يطلب رجوع القلب إليه، أما من جهته فهو مستعد بل ومشتاق أن يرجع إلينا ويبني هيكله الروحي فينا. هذا هو نداء الله المستمر لنا، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله في طول أناته ينتظر الخاطئ، قائلاً: "ارجعوا إلى فأرجع إليكم"[7]]. كما يقول: [برجوعنا الكامل إلى الله نجده مستعدًا كقول النبي: "نجده مستعدًا كالفجر" (هو 6: 3 الترجمة السبعينية). الله ليس بغائب بل هو حاضر في كل موضع ونحن بانحرافنا نفقده، إذ قيل: "في العالم كان والعالم به كُونَ والعالم لم يعرفه" (يو 1: 10) لقد كان في العالم والعالم لم يعرفه لأنه عدم نقاوة أعيننا تجعلنا لا نراه[8]]. كما يقول: [لقد تركك الله بكونك أنت هو التارك. أنت الذي سقطت عنه أما هو فلا يسقط عنك[9]...].

إذن الرجوع إلى الله ليس مجرد تغيير المكان، أي ترك بابل والذهاب إلى أورشليم، بل هو تغيير مركز النفس بالنسبة لله، فعوض أن تعطيه القفا بأعمالها الشريرة تعطيه الوجه مقتربه إليه روحيًا. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [يجب ألاَّ يُفهم هذا الافتراق وهذا الاقتراب انه يتحقق في مكان معين، إنما خلال موقف الروح واستعدادها[10]].

ثالثًا: يسألهم الاتعاظ بما حدث مع آبائهم: "آباؤكم أين هم؟! والأنبياء هل أبدًا يحيون؟!" [5]. ربما قصد أنه سبق فأنذر آباءهم بالأنبياء لكن إلى حين، فإذ رفضوا الإنذار هلكوا وخسروا الأنبياء. ويرى القديس ديديموس الضرير أنه يقصد بالأنبياء هنا الأنبياء الكذبة الذين خدعوا آباءهم بقولهم لهم: "سلام سلام ولا سلام" (أر 11: 8). هلكوا مع الأنبياء الكذبة الذين خدعوهم، فاختفى المضلون والذين تركوا أنفسهم ينخدعون بأكاذيبهم.

رابعًا: في دعوته بالرجوع دعي الله "رب الجنود"، مكررًا اسمه ثلاث مرات في عبارة واحدة [3]. فمن ناحية يتقدم الرب إليهم كرب الجنود، ليعلن مسئوليته عن العمل فلا يخافون من المقاومين، إذ هو قادر أن يتمم العمل بهم إن خضعوا له كجنود روحيين لقائدهم. أما تعبير "رب الجنود" ثلاث مرات عند عودته للتوبة إنما هو تأكيد لعمل الثالوث القدوس في حياتهم، فلا يقدر الإنسان أن يرجع إلى الله ما لم يختبر محبة الآب الباذلة، ونعمة الابن خلال الصليب، وشركة الروح القدس واهب المغفرة.

خامسًا: يؤكد هذا السفر المبدأ الهام الذي سبق فأعلنه الله في كتب الأنبياء قبل السبي أن ما يحل بهم هو تأديب من قبل الرب، ولكنه في نفس الوقت ليس إلاَّ ثمرة طبيعية للخطية... "كطرقنا وأعمالنا كذلك فعل بنا" [6]. فالإنسان هو الذي يلقى بنفسه تحت التأديب كثمرة أفعاله.

سادسًا: إن كان آباؤهم قد هلكوا بسبب التصاقهم بالشر، فإن من يلتصق بالباطل يصير باطلاً؛ فالعلاج هو الالتصاق بالحق ليحيا أبديًا. هكذا يُقدم الله كلمته، أي الحق، لنلتصق به فلا نموت... "ولكن كلامي وفرائضي التي أوصيت بها عبيدي الأنبياء أفلم تدرك آباءكم؟!" [6]. وكما يقول أشعياء: "يبس العشب، ذبل الزهر، أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (أش 40: 8).

2. رؤيا الخيل:

 بعد بدء نبوته بثلاثة شهور حلّ شهر شباط الذي فيه تفرخ الأشجار وتفوح رائحة شجر الآس الطيبة. ولعل النبي كان يقضى اليوم كله في واد قريب منه، يسقط راكعًا تحت ظلال شجر الآس، ودموعه لا تجف، صارخًا: "يارب إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟!" [12]. كان وسط نحيبه يتجه بقلبه نحو الهيكل الذي صار خرابًا وإلى الشعب الذي جاء منذ حوالي 15 عامًا لبناء الهيكل لكن كل واحد انهمك في أعماله الخاصة ومصالحه الشخصية. كان النبي ككاهن يئن مشتاقًا إلى عودة الهيكل بطقوسه الروحية التي لم يمارسها منذ ولادته حتى تلك اللحظات. لذلك في الليل وهبه الله هذه الرؤيا: "رأيت في الليل وإذا برجل راكب على فرس أحمر وهو واقف بين الآس الذي في الظل، وخلفه خيل حمر وشقر وشهب. فقلت: يا سيدي: ما هؤلاء؟ فقال ليَّ الملاك الذي كلمني أنا أريك ما هؤلاء. فأجاب الرجل الواقف بين الآس وقال: هؤلاء هم الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض. فأجابوا ملاك الرب الواقف بين الآس وقالوا: قد جُلنا فى الأرض وإذا الأرض كلها مستريحة وساكنة" [8-11].

 

بهذه الرؤيا يعلن الله عن تدبيراته الخلاصية واهتمامه ببيته الروحي هذا وقد أعطاه الله ملاكًا يكلمه، هذا الذي رافقه في كل الرؤى، يدخل معه في الحوار ويفسر له ما غمض عليه. كأن الرب أراد أن يؤكد مساندة السماء له وخدمة الملائكة للبشر (عب 1: 14).

الآن، من هو هذا الرجل الراكب على فرس أحمر، الواقف بين الآس، الذي في الظل ويدعى: "ملاك الرب".

تعبير "ملاك الرب" غالبًا ما يشير إلى الله نفسه[11] إذ يظهر كملاك أو مُرسل لأجل الإنسان، إذ كلمة "ملاك" تعنى "رسول"، وقد جاء في التلمود البابلي: "هذا الرجل ليس إلاَّ القدوس المبارك، إذ قيل: "الرب رجل حرب". ويقول القديس ديديموس الضرير: [الراكب على فرس أحمر هو الرب المخلص المتجسد، والفرس الأحمر هو الجسد الذي لبسه. لقد رآه النبي "وهو واقف بين الآس الذي في الظل" أي بين الجبال المظللة. الجبال هي العهدان. معي جبال خصبة ومظللة بسبب غنى الأفكار وكثرة نصوص الكتاب عن المتجسد].

 يمكننا القول بأن النبي نظر هذه الرؤيا "في الليل" [8]، أي خلال العهد القديم حيث لم يكن بعد قد ظهر السيد المسيح شمس البر الذي حوّل ليل العالم إلى نهار. رآه خلال النبوات، لذا رآه في الظل، لم يتحقق مجيئه بعد. رآه رجلاً راكبًا على فرس أحمر إذ تجسد فصار إنسانًا، يتقدم إلينا بعمله الإلهي خلال الصليب حيث الدم المبذول، وكما قال أشعياء: "من ذا الآتي من أدوم بثياب حُمر... ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة؟! قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 1-3).

رأى النبي خلف السيد المسيح خيل حمر وشقر وشهب، قال عنهم السيد "هؤلاء هم الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض" [10]. بمجيء السيد المسيح إلينا للخلاص انفتحت السماء وتحول السمائيون إلى خدمة الإنسان لحساب العريس السماوي، وصاروا كمن يجولون فى الأرض لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14).

ولعل هؤلاء الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض هم الرجال العهد القديم الذين هيأوا الأرض لاستقبال الكلمة المتجسدة خلال تعاليمهم ونبواتهم، هؤلاء الذين سبقوه في الطريق لكنهم يبقون خلفه بكونه ربهم ومخلصهم أما إجابتهم: "قد جُلنا في الأرض وإذا الأرض كلها مستريحة وساكنة" [11]. فتُشير إلى تهيئة الأرض لاستقبال المسيا المخلص، إذ صار الطريق مُعدًا والزمن مناسبًا لنزوله.

إن كان الراكب على الفرس الأحمر يرمز لكلمة الله المتجسد، فهذه الخيل المختلفة الألوان ربما تعنى الأعمال الإلهية، وكأن النبي يعلن للشعب اليهودي في ذلك الحين أن الله قدم أعمالاً متنوعة وهيأ لهم بكل وسيلة جوًا من الهدوء، فالأرض كلها ساكنة ومستريحة ليس من يقاوم ولا من يدير مكائد ضدهم فعليهم أن يسرعوا في بناء بيت الرب. وبنفس المعنى نقول أن النبي يعلن بأن السيد المسيح قد أرسل لنا خيله الحمر والشقر والشهب، مقدمًا لنا كل موهبة سماوية وعطية إلهية لكي يجعل أرضنا أي جسدنا ساكنًا وهادئًا لا يقاوم الروح بل يعمل معها لحساب مجد الله. إنه وقت للعمل، فيه يليق بنا تكريس كل طاقتنا الروحية كما الجسدية للبناء الروحي أورشليمنا السماوية.

هذه هي الرؤيا الأولى التي رفعت زكريا من دموعه اليومية في وادي الآس تحت الظلال لتدخل به إلى وادي عمل الله المُعلن خلال التجسد والصلب! بهذا نُزع زكريا من ضيقة نفسه إلى السلام الحقيقي والراحة، لذا قال: "الأرض كلها مستريحة وساكنة".

ليتنا لا نفهم الأرض مستريحة وساكنة بمعنى الخمول والتراخي وإنما بمعنى التمتع بسلام الله الفائق، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [الروح العاقلة تحمل طاقة تحركها في نشاط مستمر، لكنها إذ تعمل من أجل الخير تظل هادئة ومستريحة بلا اضطراب وتمتع بالسلام الداخلي الذي تبعثه مخافة الله... وكما هو مكتوب: "وأما المستمع ليّ فيسكن آمنًا ويستريح من خوف الشر" (أم 1: 33)].

في المسيح يسوع ربنا تصير نفوسنا وأيضًا أجسادنا، أي سمواتنا الداخلية وأرضنا مستريحة، إذ تتقدس به وتفرح بالرغم من حملها صليبه والدخول معه قبره.

3. غيرة الرب على بيته:

 إن كان زكريا النبي قد قضى سنوات يتأمل خراب الهيكل بدموع لا تجف، يسأل الله من أجل إعادة بناء الهيكل، فإن ربنا يسوع المسيح هو الشفيع الكفاري وحده الذي يصرخ بدمه الكريم من أجل قيام مقدساته في البشرية، إذ قيل "فأجاب ملاك الرب وقال: يارب الجنود إلى متى لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟!". لقد سقطت البشرية تحت سبى عدو الخير سنينًا هذه مقدارها ولم يكن يستطع أحد أن يشفع فيها إلاَّ ذاك الذي قدم دمه كفارة عن خطايانا، جالبًا الرحمة الإلهية بإيفائه دين العدل الإلهي بالصليب. ولم تكن شفاعته كلامًا مجرد بل عملاً مملوء حبًا وفعّالاً، أمكنه به أن ينزع عن المؤمنين به الغضب الإلهي ويدخل بهم إلى مراحم الله ليُقام فيهم هيكله المقدس السماوي. هذا هو الكلام الطيب وكلام التعزية الذي أعلنه الملاك المرافق له [13].

 بالصليب يقول الرب: "غرت على أورشليم وعلى صهيون غيرة عظيمة، وأنا مغضب بغضب عظيم على الأمم المطمئنين، لأنى غضبت قليلاً وهم أعانوا الشر. لذلك هكذا قال الرب: قد رجعت إلى أورشليم بالمراحم فبيتي يُبنى فيها يقول رب الجنود ويُمد المطمار على أورشليم. نادِ أيضًا وقل: هكذا قال رب الجنود: إن مُدني تفيض بعد خيرًا والرب يعزى صهيون بعد ويختار بعد أورشليم" [14-17]. فمن الجانب التاريخي تحقق ذلك حرفيًا، فبعد سبى يهوذا سبعين عامًا أعلن الله غيرته على مدينته وشعبه، وإذ كانت الأمم مطمئنة أنها أذلت شعب الله تمامًا وخربت أرض الموعد وحطمت الهيكل المقدس؛ بعضها قام بالدور الرئيسي كالبابليين والآخر شارك بالعمل كالأدوميين أو بالشامتة... لكن فيما هم مطمئنون رجع الرب إلى أورشليم ليقيم بيته من جديد ويسمح بمدّ المطمار (آله قياس الحائط) لا للهدم كما كان عند السبي بسبب انحراف الحوائط وإنما لإقامة المباني والتعمير، وهكذا يفيض على شعبه بالخير ويعلن محبته ورعايته له.

تحقق هذا حرفيًا في القرن السادس ق.م، لكنه تحقق بصورة أكمل وبفكر أعمق في العصر المسيانى، حيث صعد الرب على صليبه يبسط يديه بالبركة للبشرية محطمًا سبى إبليس واهبًا الخير الحق للمؤمنين به، وكما يقول القديس بولس: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء!؟" (رو 8: 32). رجع إلينا بمراحمه ليقيم هيكله فينا، قائلاً: "ملكوت الله في داخلكم". مدّ يده بالمطمار ليبنى وينمى حياتنا الداخلية، فتفيض من ثمر روحه القدوس بركات و تعزيات (يو 15: 26) تكشف عن اختياره لأورشليمنا الداخلية عروسًا له.

 ما هو هذا البيت الذي يشغل قلب الله؟

 أولاً: الكنيسة التي يقيمها الرب عروسًا له، هذه التي أشار إليها الرسول بقوله: "ولكن إن كنت أبطئ فلكي تعلم كيف يجب أن تتصرف في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحيّ عمود الحق وقاعدته" (1 تى 3: 14).

ثانيًا: يقول القديس ديديموس: [إن هذا البيت هو الجسد ربنا يسوع المسيح الذي قلبه مسكنًا له واحدًا مع اللاهوت بلا اختلاط ولا انفصال، هذا الذي قال عنه "انقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه... كان يقول عن هيكل جسده" (يو 2: 19، 21). هذا البيت الذي أعلن عنه سفر الأمثال: "الحكمة بنت بيتها" (أم 9: 1)].

ثالثًا: يختم القديس ديديموس حديثه عن هذا البيت بقوله: [كما يجب أن نضيف أن كل مؤمن هو أيضًا بيت مبني ليكون هيكلاً لله. يقول الكتاب: "أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (1 كو 3: 16). يقول المخلص نفسه بوضوح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23)].

4. رؤيا الأربعة قرون:

حسب القانون العبري يبدأ الأصحاح الثاني من هذا السفر بهذه الرؤيا الثانية الخاصة بظهور الأربعة قرون التي بددت يهوذا وإسرائيل وأورشليم حتى لم يرفع إنسان رأسه [21]، ثم ظهور أربعة صناع قاموا لبث الرعب وطرد هذه القرون التي للأمم.

ربما كان زكريا النبي في خلوته يتطلع إلى كل اتجاه من اتجاهات المسكونة ليرى الأمم وكأنهم يضربون أورشليم بقرنهم بلا توقف ولا رحمة. لقد ألف اليهود رعاية الغنم وأدركوا ضربات القرون للوحوش القرنية كيف تقتل الغنم وتبدده، لهذا يقول المرتل: "خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب ليّ" (مز 22: 21). ويتحدث دانيال النبي عن القرن الذي حارب القديسين فغلبهم حتى جاء القديم الأيام (دا 7: 21-22). هكذا صارت القرون إشارة إلى القوة والسلطان، إذ يقول الرب في ميخا: "قومي ودوسي يا بنت صهيون لأني أجعل قرنك حديدًا، أظافرك أجعلها نحاسًا فتسحقين شعوبًا كثيرين وأحرم غنيمتهم للرب وثروتهم لسيد كل الأرض" (مي 4: 13).

ويلاحظ في هذه الرؤيا الخاصة بهذه القرون الأربعة الآتي:

أولاً: يرى البعض في هذه القرن الأربعة إشارة إلى الممالك التي أذلت الشعب وهى مملكة أشور وبابل، مملكة مادي وفارس، مملكة الكلدانيين، مملكة الرومان. وقد أرسل الله لكل مملكة صانع يبددها ويذلها، وها هي الممالك الأربع قد اندثرت تمامًا، إذ تحطمت قرونها وبقى عمل الله ناجحًا، وكما يقول المرتل: "لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل، قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه... الساكن في السماوات يضحك بهم والرب يستهزئ بهم" (مز 2). هذه المماليك أُشير إليها بالمعادن الأربعة والحيوانات الكبيرة الأربعة التي برزت من البحر الواحد تلو الآخر في رؤيا دانيال النبي.

ثانيًا: يرى العلامة أوريجانوس والقديس أغسطينوس وكثير من آباء الكنيسة أن رقم 4 يشير إلى جهات المسكونة الأربع أي إلى محبة العالم كما يشير إلى الجسد بكونه من تراب هذا العالم. وكأن هذه القرون التي تبدد "يهوذا وإسرائيل وأورشليم" [19]، "حتى لا يرفع إنسان رأسه" [21]، تعنى أن محبة العالم وشهوات الجسد تحطم يهوذا، أي اتحادنا بالسيد المسيح الخارج من سبط يهوذا، كما تحطم إسرائيل الجديد أى عضوتنا الداخلية ونقاوة قلبنا التي بها نعاين الله. بها لا يرفع الإنسان رأسه، بل ينحني بنفسه لتدفن فى التراب كما حدث مع صاحب الوزنة الواحدة (مت 25: 18)، عوض أن يرتفع بجسده إلى السماء تنحني نفسه مع شهوات جسده إلى الأرض.

ثالثًا: كما أثار الشيطان أربعة قرون ضد أورشليم أرسل الله أربعة صناع، وكأن الله يسند أولاده قدر ما يدخلون في تجارب أو ضيقات، كلما اشتدت حرب الشيطان أرسل بالأكثر عونًا. هذا هو عمل الله عبر العصور، فإذ كان فرعون عنيفًا أرسل الله موسى، وإذ كان آخاب شريرًا أرسل الله إيليا، وعندما ثار أريوس ضد الكنيسة أعدّ الله أثناسيوس الرسولى وهكذا. وما يدور على مستوى كنيسة العهد القديم أو العهد الجديد يتحقق كل يوم في حياة كل واحد منا.

رابعًا: يرى بعض الآباء أن القرون الأربعة هي حرب إبليس من كل جانب، هذه التي تقول عنها الرسول بولس: "فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولادة العال على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية فى السماويات" (أف 6: 12)، وقد احتاجت الكنيسة إلى الأناجيل الأربعة بكونها الصناع الذين يفسدون عمل إبليس بقرونه الأربعة. حقًا لقد استخدم الشيطان حربًا عنيفة بقرونه الأربعة لكن الأناجيل قدمت لنا صناعة جديدة للغلبة على الشيطان هو طريق الحب والوداعة، فنار إبليس التي يلهب بها قلوب الناس ضد المؤمن إنما يغلبها الحب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن النار لا تُطفأ بالنار بل بالماء، هكذا لا يُقاوم الشر بالشر بل بالخير.

والعجيب أنه بالرغم مما أتسم به الصناع الأربعة من وداعة ارتعبت القرون قدامهم، كما ارتعب هيرودس صاحب السلطان أمام القديس يوحنا المعمدان الأعزل (مر 6: 20)، وكما ارتعبت فيلكس الوالي أمام القديس بولس الأسير الواقف للمحاكمة أمامه (أع 24: 25)!.

[7] On Ps. 145.

[8] On Ps. 6:4.

[9] Sermons on N.T. Lessons 92:4.

[10] أقوال القديس ديديموس الضرير في الأصحاحات الخمسة الأولي مقتطفة عن ترجمتين، أحدهما للأستاذ مليكه حبيب والمرحوم الشماس يوسف حبيب، والثانية لمدام عايدة حنا بسطا.

 

[11] راجع تك 16: 7-13؛ خر 3: 2-6؛ قض 13: 9، 22.