الأصحاح السادس

المركبات وتتويج يهوشع

ختم زكريا النبي القسم الخاص بالرؤى بهاتين الرؤيتين الثامنة والتاسعة، واحدة خاصة بالمركبات الأربع تكشف عن دينونة الشر، والأخرى خاصة بتتويج يهوشع أي تكليل البر في المسيح يسوع.

1. رؤيا المركبات الأربع             [1-8].

2. رؤيا تتويج يهوشع               [9-15].

1. رؤيا المركبات الأربع:

يبدو أن هذه الرؤيا هي امتداد للرؤيا الأولى الواردة في الأصحاح الأول، حيث رأى الراكب على فرس أحمر بين شجر الآس في الظل وخلفه خيل حمر وشقر وشهب، أما هنا فرأى "أربع مركبات خارجة من بين جبلين والجبلان جبلا نحاس، في المركبة الأولى خيل حمر، وفى المركبة الثانية خيل دهم (سوداء) وفى المركبة الثالثة خيل شهب (بيضاء)، وفى المركبة الرابعة منمرة شقر" [1-3].

لكن الرؤيا الأولى تُشير إلى خطة الله الخلاصية بتجسد الكلمة القادم على فرس أحمر بعد أن أعدت له بقية الخيل الطريق، أما هنا فتُشير الرؤيا إلى خطة الله التأديبية للشر خارج أورشليم ومساندة الله للمؤمنين ضد إبليس وحروبه.

لقد رأى أربع مركبات خارجة من بين جبلين، غالبًا ما يقصد بهما جبل المريا وجبل الزيتون، وكأن المركبات قد خرجت إلى وادي يهوشفاط، الذي يعني: "وادي يهوه يقضى. أو يدين" وهو الوادي الذي يجمع فيه الرب كل الأمم ليحاكمهم هناك بسبب إذلالهم لشعبه (يوئيل 2: 3)[42]. لقد تهيأت المركبات الأربع الإلهية هذه التي هي: "أرواح السماء الأربع خارجة من الوقوف لدى سيد الأرض كلها" [15]. لتحقيق خطة الله التأديبية خارج أورشليم حتى لا يُعاين الأشرار مجد أورشليم ولا يدخلوا إليها بل يؤدبون خارجًا في هذا العالم أو يحرمون أبديًا من أورشليم بينما ينعم أولاد الله بالمجد الأبدي الداخلي. ولعله لنفس السبب يأتينا رب المجد في اليوم الأخير على السحاب فلا يلتقي معه الأشرار في مجده إنما يرونه مرهبًا ومخيفًا، أما الأبرار فيدخلون معه إلى العرس الأبدي.

الجبلان المحيطان بالوادي هما: "جبلا نحاس" [1]، لا يقدر أحد أن يفلت منهما. وقد قيل عن السيد المسيح "رجلاه شبه نحاس النقي كأنهما محميتان في أتون" (رؤ 1: 15)، من يختفي فيه ويتحد معه يدك الأرض تحت قدميه ولا تقدر أشواكها وحسكها أن تمسه (تك 3: 18) محطمًا اللعنة تحته بالمسيح يسوع ربنا. هكذا يكون رجال العهد القديم والجديد كجبلين من نحاس يدكون الشر في وادي يهوشفاط ويدينونه بالرب.

ويرى القديس ديديموس الضرير أن النحاس يُشير إلى تعاليم السوفسطائيين والهراطقة التي ليست إلاَّ نحاسًا يطن أو صنجًا يرن (1 كو 13: 1)، ليس لهم المحبة الإلهية فينطبق عليهم قول الرسول: "إن كنت أتكلم بلسان الناس والملائكة ولكن ليس ليّ محبة فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن". وكما أن الحديد يُشير إلى التمرد والجمود فإن النحاس يُشير إلى إخفاء الخطأ وراء المظهر كجبلين من نحاس- وكأنه يليق بنا أن نهرب من هذا الوادي، وادي الهراطقة المخادعين بكلماتهم الفاقدة للحب الحقيقي لئلا ندخل تحت دينونة الله الرهيبة.

أما ألوان المركبات الإلهية فتُشير إلى تأديبات الله ضد الشر ومعاونته لشعبه ضد إبليس وأعماله الشريرة:

أولاً: المركبة الأولى بخيلها الحمر تمثل الحروب الروحية التي فيها يُجاهد المؤمن ضد الشر حتى الدم (12: 4)، فيهلك الشر لحساب بنيان الملكوت الداخلي.

ثانيًا: المركبة الثانية بخيلها الدهم (السوداء)، علامة ما تسببه الحرب من موت لإبليس وهلاك لأعماله الشريرة.

ثالثًا: المركبة الثالثة بخيلها الشهب (البيضاء) وهى تتبع المركبة السابقة فموت الشر هو حياة للفضيلة الطاهرة. أو كما يرى القديس ديديموس الضرير أن الخيل السوداء تُشير إلى آلات غضب الله "حيث ينفتح الشر على كل سكان الأرض" (أر 1: 14) لتليها الخيل البيضاء علامة الفرح بعد التجربة، فيقول المؤمن: "لا تشمتي بيّ يا عدوتي، إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور ليّ، أحتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه حتى يقيم دعواي ويجرى حقي، سيخرجني إلى النور وسأنظر بره" (مى 7: 8-9). هكذا إذ ينتفع بتأديبات الرب يسبح قائلاً: "أباركك يارب لأنك مارست غضبك عليَّ لخلاصي، أرددت وجهك ورحمتني" (إش 12: 1).

رابعًا: الخيل المنمرة الشقر القادمة من الجنوب تُشير إلى الثمر المتنوع الذي تفيض به النفس في داخلها بممارستها التوبة بعد التأديب، إذ تقول العروس: "تعالي يا ريح الجنوب هبي على جنتي فتقطر أطيابها" (نش 4: 16).

هذه هي المركبات الأربع بخيلها التي صدر إليها الأمر الإلهي: "اذهبي وتمشي في الأرض، فتمشت في الأرض، فصرخ عليَّ وكلمني قائلاً: هوذا الخارجون إلى أرض الشمال قد سكنوا روحيّ في أرض الشمال" [7-8]. الله في محبته يطلق مركباته للعمل في الأرض خطته الإلهية، وإذ تسقط أرض الشمال (بابل) رمز إبليس تحت العقوبة تسكن روح الله من جهة أولاده. يا للعجب سمح لأرض الشمال أن تكون أداة تأديب قاسية لهم لا تسكن روحه ويستريح قلبه حتى يرى شعبه قد رجع إلى الراحة في أورشليم الجديدة تحمل ثمارًا متنوعة وفيض خيرات بلا كيل. وكأن الله الذي يؤدب يسمع أنيننا وكأنه يئن مع أنيننا، ولا يستريح حتى نستريح نحن فيه. وقد لاحظنا في دراستنا لسفر هوشع كلمات الرب نفسه الذي يسمح بالضيق، قائلاً: "قد انقلب عليَّ قلبي، قد اضطرمت مراحمي جميعًا لا أجرِ حمو غضبي، لا أعود أخرب أفرايم، لأني الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط" (هو 11: 8-9).

2. رؤيا تتويج يهوشع:

في الأصحاح الثالث صدر الأمر بخلع الثياب القذرة ليلبس يهوشع ثوبًا مزخرفًا وعمامة طاهرة (3: 4-5) وكان في ذلك إعلان لتتويجنا فيه، بالصليب مزق خطايانا مقدمًا لنا ذاته سرّ البر والغلبة، أما هنا فيتوج يهوشع بإكليل من فضة وذهب ويتوج معه القادمون من السبي، وكأن غاية هذه الرؤيا إبراز تتويج الكنيسة التي كان أعضائها قبلاً تحت السبي فصاروا في أورشليم الجديدة. يمكننا القول أن الرؤيا الأولى تُشير إلى السيد المسيح قبل صعوده فقد كلل على الصليب وتكللت الكنيسة فيه، والرؤيا الثانية بعد الصعود فقد صار للكنيسة أن تتكلل به ويتكلل المسيح فيها داخليًا. وكما قال القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كان يعمل قبل الصعود باسم الكنيسة المختفية فيه ولحسابها، أما بعد الصعود فاختفى هو فيها لتعمل لحسابه وباسمه.

ويلاحظ في هذه الرؤيا الآتي:

أولاً: لم يُذكر اسم يهوشع بين أسماء القادمين من السبي، قد توج هو أولاً بمفرده، بكونه رمزًا لربنا يسوع الذي حلّ بيننا على أرضنا دون أن يسقط تحت سبي الخطية، ولا أن يجد إبليس موضعًا له فيه. لقد غلب أولاً وكلل كبكر الراقدين وارتفع إلى بيته السماوي لكي به وفيه ننعم نحن بالإكليل.

ثانيًا: طلب الرب من زكريا النبي أن يأخذ فضة وذهبًا من حلداى وطوبيا ويدعيا أهل السبي ويعمل تيجانًا ويضعها على رأس يهوشع الكاهن العظيم، هذه الفضة والذهب سبق فاستولى عليها العدو من أورشليم وبيت الرب وحُملت إلى السبي مع المسبيين لتستخدم لحساب مملكة بابل، والآن مع عودة المسبيين تُرد الفضة والذهب لاستخدامها في بيت الرب لمجد الله. وكأن الإنسان إذ تسبيه الخطية تتحول طاقاته الجسدية والنفسية والمادية لحساب الشر، وبعودته إلى حضن الله يتقدم بكل هذه الأمور لتكون آلات برّ لمجد الله.

ثالثا: أسماء الرجال الذين يقومون بجمع الفضة والذهب من المسبيين هي:

أ. حلداى أو خلداى وتعني "خالد"، ويدعى أيضًا "حالم" [14]، وتعنى "صحة أو قوة".

ب. "طوبيا" وتعني "الله طيب".

ج. "يدعيا" وتعنى "يهوه يعرف"، وهو زعيم الكهنة الراجعين من السبي (نح 12: 6).

هكذا عمل الثلاثة معًا ليرد للرب الفضة والذهب لتكون تيجان مجد للكنيسة في عريسها الواحد يهوشع. بمعنى آخر إن كانت فضتنا وذهبنا غير مقدسين فلنتطلع إلى "الخلود" أو الحياة الباقية لتهبنا صحة النفس وقوة الروح فننطلق بكل طاقتنا لتقديمها قربانًا للرب. أما سر تقديس هذه الطاقات والمواهب والإمكانيات فهي طيبة الرب وحنانه الذي يترفق بنا ويقبل عطايانا، إنه يعرفنا كأولاد له ويقبلنا إليه فنتعرف نحن عليه ونقبله فينا. في اختصار نحن في حاجة إلى إدراك الخلود والأبدية وقبول حنان الله ومعرفته!

 رابعًا: جاءوا بالفضة والذهب إلى بيت يوشيا بن صفنيا [10] قبل تحويلها إلى تيجان. ولما كانت كلمة "يوشيا" تعني "الذي يخلص" وكلمة "صفنيا" تعني "يهوه يخفى أو يكنز[43]"؛ وكأن تقديس طاقتنا يلزم أن يتحقق في بيت " لذي يخلص" أي الكنيسة هيكل الرب مخلصنا، هذا الذي يعمل فينا سريًا في داخل القلب، فيكنزنا كجواهر ثمينة معدة للحياة الأبدية. الله لا يريد لنا المظاهر الخارجية التي تفقدنا بهاءه فينا، إنما يُريد لنا الحياة الخفية المجيدة فنحسب كنوزًا ثمينة في عينيه!

خامسًا: إذ جُمعت الفضة والذهب صارت تيجانًا وليست تاجًا واحدًا، وضعت جميعها على رأس يهوشع... وكأن كل تاج ينعم به مؤمن يلبسه العريس نفسه. يقول العلامة أوريجانوس عن الشهداء أن يسوع المسيح هو الذي يدعوهم للإكليل وهو الذي يحارب معهم، وهو الذي يتسلمه فيهم. هكذا يتجلى السيد فى كنيسته فيحسب كل إكليل لنا إكليلاً له. ويقول القديس ديديموس الضرير: [أنظر كيف يمكن للسيد المسيح الكاهن العظيم أن يأخذ على رأسه تيجان الكل، فإن المؤمنين جميعهم يمثلون جسد السيد المسيح وأعضاؤه، فقد قيل بالحق، للذين يكونون جماعة الكنيسة: "أما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (1 كو 12: 27)، بين هذه الأعضاء البعض هم أياد نشيطة ؛ وآخرون "غير متكاسلين في الاجتهاد" (رو 12: 11) وهم الأرجل؛ وآخرون لهم عقل زكى هم الأعين، ومنهم من يدبر حسنًا ويتممون مسؤليتهم كما يجب فيمثلون الرأس رمزيًا... إذن من المعقول أن رأس الكاهن العظيم تأخذ كل التيجان].

وللقديس ديديموس الضرير تفسير آخر لهذه التيجان الكثيرة التي توضع على رأس السيد المسيح، إذ يقول: [تأمل كيف يأخذ يسوع وحده تيجان كثيرة، إذ حارب كل الحروب حتى النهاية "مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية" (عب 4: 15)].

سادسًا: هذه التيجان التي وضعت على رأس عريسنا وحده يقدمها لنا، فيهب لكل واحد أكاليل فضائل كثيرة، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [ليس عجيبًا أن توضع تيجان كثيرة على رأس واحد، فلكل فضيلة تاجها، أو بالأحرى كل فضيلة هي في ذاتها تاج، فالإنسان الكامل يملك تيجان كثيرة... طالما الفضائل مترابطة معًا فإن من يمتلكها يتزين بتيجان كثيرة].

سابعًا: مادة التيجان هي الفضة والذهب، أما الفضة فتُشير إلى كلمة الله (مز 12: 6) والذهب إلى الروح أو الحياة السماوية، وكأنه يليق بنا أن نتهيأ لهذه الأكاليل خلال كلمة الله العاملة فينا والفكر الروحي السماوي.

ثامنًا: ما هو التاج الذي نلبسه في جوهره إلاَّ التقاء بالرب نفسه، وكما قيل بإشعياء النبي: "في ذلك اليوم يكون رب الجنود إكليل جمال وتاج بهاء" (إش 28: 5)، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [الرب هو نفسه مكافأة المجد، يوهب للذين مجدوا الله في أجسادهم (1 كو 6: 20)، الذين لهم روح الخضوع للآراء المحفوظة (كنسيًا) والتقاليد التقوية].

تاسعًا: يدعى السيد المسيح في هذه الرؤيا بالرجل والغصن الشرق في نفس الوقت، ففي الترجمة السبعينية قيل: "هوذا الرجل الغصن الشرق اسمه". وقد سبق لنا الحديث عن هذه الألقاب في الأصحاح الثالث. وفيما يلي تعليق القديس ديديموس الضرير على هذه العبارة: [هكذا قال رب الجنود: هوذا الرجل الغصن الشرق اسمه، يخص مخلصنا الآتي إلى هذا العالم، فهو الرجل بكونه ابن مريم... لكنه النور الحقيقي وشمس البر (الشرق). في اتفاق مع هذا النص يقول أرميا: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا وهذا هو اسمه الذي يدعوه به: "الرب برنا" (أر 23: 5-6). بالحق هو غصن البرّ الذي ينبت من داود... هذا الغصن هو شمس البر وقد ارتفع من داود، هذا الذي وُلد من أرض داود حسب الجسد (رو 1: 3)، كما قيل بإشعياء النبي: "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا" (إش 10: 11)... "هوذا الرجل...".

هنا يعلن عن العريس الذي له العروس، فيدعوه "الرجل". هذا ما يظهره الرسول عندما يكتب إلى أهل كورونثوس: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)... عن هذا الرجل يشهد يوحنا المعمدان أعظم مواليد النساء (مت 11: 11) قائلاً: "يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي" (يو 1: 30) وقد أعلن هذا الرجل بقوله: "من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح من أجل صوت العريس" (يو 3: 29). هذا الذي يظهره النبي أنه "الغصن"... إنه الغصن من الأعالي، غصن من النور الحقيقي، شمس البر (ملا 3: 20) أشرق للذين كانوا في الظلمة وظلال الموت (لو 1: 78) لكي يبدد الظلمة وينزع الموت فنعبر إلى الحياة (يو 5: 24). إذ نصير نورًا في الرب، وكما هو مكتوب "لأنكم كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور للرب" (أف 5: 8).

ويعلق العلامة أوريجانوس على تسميته "الشرق" بقوله أن الشرق نوعان: شرق حق يضئ لنا، هذا الذي يقول: "أنا نور العالم"، وشرق مضلل مثل نور الأشرار الذي ينطفئ (أى 18: 5). وكنور الشيطان المخادع الذي يظهر في شبه ملاك نور (2 كو 11: 4).

عاشرًا: قيل عن السيد المسيح "ومن مكانه ينبت" [12]، فإن كان من أجلنا صار الغصن، فإنه ينبت واهبًا إيانا حياة حقيقية. وكما يقول المرتل: "الحق من الأرض ينبت" (مز 85: 11). جاء إلى أرضنا وهو الحق القادر أن يحملنا فيه فيرفعنا عن الأرض ويقيم فينا بيته السماوي، لذا يكمل القول: "ويبني هيكل الرب" مكررًا هذه العبارة مرتين، من ناحية لأن رقم 2 كما سبق فقلنا يُشير إلى "الحب"[44]، فبالحب يرفعنا عن الأرض ويقيمنا بيتًا سماويًا وهيكلاً حيًا له، ومن ناحية أخرى يعلن عمله مع اليهود كما مع الأمم فيقيم الكل معًا.

حادي عشر: الهيكل الذي يبنيه هنا من المؤمنين سواء من أصل يهودي أو أممي يجلس فيه كملك وكاهن في نفس الوقت، الأمر الذي لم يكن ممكنًا في هيكل سليمان ولا في الهيكل الذي أقامه زربابل إذ كان الملوك من سبط يهوذا والكهنة من سبط لاوى، أما الهيكل الجديد فحلّ فيه الرب ليملك علينا ويكهن لحسابنا. "وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلط على كرسيه ويكون كاهنًا على كرسيه وتكون مشورة السلامة بينهما كليهما" [13]. بملكوته وكهنوته يحطم إبليس ويهب السلام لشعبه. يقول القديس ديديموس الضرير: [إنه كرسى مضاعف: كرسى المملكة وكرسى الكهنوت أيضًا... كرسى كلي القدرة كما جاء في الأمثال: "الملك الجالس على كرسى القضاء يذرى بعينيه كل شر" (أم 20: 8)، وأيضًا: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب الاستقامة قضيب ملكك" (مز 44: 7؛ عب 1: 8)، "يجلس الرب ملكًا" (مز 29: 10). أما من جهة الكرسي الكهنوتي فجاء في الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر" (عب 7: 26) وأيضًا: "لنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عونًا في حينه" (عب 4: 16). ما يسميه "عرش النعمة" هو عرش الكاهن القدوس البار بلا دنس. إذن يقصد أنه أخذ عرش داود أبيه لكي يملك كل الدهور ولا يكون لملكه نهاية (لو 1: 33) وفى نفس الوقت كهنوته لا يزول (عب 7: 24)... فيحكم على الكرسي المضاعف؛ إنه الوحيد الذي له كرسي الملك والكهنوت معًا].

ثاني عشر: يتحدث عن التيجان التي يتمتع بها هؤلاء الرؤساء أنها تكون "تذكارًا في هيكل الرب" [14]، وفى الترجمة السبعينية يقول: "يقتنون تسبحة في هيكل الرب". فالنصرة بربنا يسوع المسيح تولد فينا طبيعة التسبيح الداخلي وفرح الروح، فتتحول حياتنا كلها إلى تسبحة. يقول القديس ديديموس الضرير: [نقدم تعاليم الأعمال الصالحة تسبحة ننشدها، وتنبعث فينا الأفكار اللذيذة كمن يضرب على العود وبالدف. نلعب على العود باستلامنا تعاليم الزهد: "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية" (كو 3: 5)، "حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع" (2 كو 4: 10)، خلالها يصير الإنسان مرفوضًا وعبدًا فيكون كالدف المصنوع من جلد الحيوانات الميتة. بهذا الدف يضرب العذارى الخمس الحكيمات الحاملات سرجًا مضيئة كقول المزمور: "من قدام المغنون، ومن وراء ضاربو الأوتار، في الوسط فتيات ضاربات الدفوف" (مز 68: 25). هذه الدفوف التي استخدمتها العبرانيات بعد الخروج من مصر وعبور بحر سوف وعلى رأسهن مريم (النبية) أخت موسى وهرون... لم يكن ممكنًا في مكان صحراوي كهذا أن تجد العبرانيات عددًا من الدفوف يكفى لآلاف الفتيات لكن المؤكد والحق أنهن وجدن دفوفًا رمزية هذه التي نتحدث عنها، وهى ممارسة التقوى لسنين طويلة].

ثالث عشر: إذ يبني الرب هيكله الجديد يفتح أبواب العمل للجميع، إذ يقول: "والبعيدون يأتون ويبنون هيكل الرب" [15]، مشيرًا إلى الأمم الذين كانوا بعيدين وغرباء، قد صاروا بحياتهم الجدية في الرب بناءً روحيًا في الهيكل الجديد.

وكما جاء في إشعياء: "وبنو الغريب يبنون أسوارك وملوكهم يخدمونك... وتنفتح أبوابك دائمًا، نهارًا وليلاً لا تغلق، ليؤتى إليَّ بغنى الأمم وتُقاد ملوكهم" (إش 60: 10-11).

[42] راجع تفسير يوئيل 1983، ص 36-41.

 

[43] New Westminster Dic, P 1021.                   

[44] ST. Augustine: In Ioan tr 17: 6.