المزمور الثمانون

النور الإلهي والكنيسة المتألمة

 

مع اختلاف الدارسين على المناسبة التي من أجلها وُضع هذا المزمور، إلا أن الغالبية يرون أنه مزمور الكنيسة المتألمة، والتي تعاني من التأديب الإلهي بسبب الخطايا. إنها في حاجة إلى الجالس على الكاروبيم ليشرق عليها بنور وجهه، فتنعم بالرحمة الإلهية. إنها الكرمة المحبوبة لدى الله غارسها، والمحتاجة على الدوام إلى رعايته، فهو القادر أن يتعهدها.

يرى القديس أغسطينوس أن هذا المزمور خاص بمجيء ربنا ومخلصنا يسوع المسيح وبكرمته (كنيسته). أو كما يقول إن هذا المزمور يخص المسيح وكَرْمه؛ الرأس والجسد؛ الملك والشعب؛ الراعي وقطيعه. يحوي كل سرّ الأسفار المقدسة، المسيح والكنيسة. إن كانت الكنيسة في وسط ضيقاتها المستمرة تشعر كما لو كانت في ظلمة التجارب، فإن رأسها السماوي هو شمس البرّ الذي يشرق عليها ويهبها الاستنارة.

1. لتنر ظلمتي                     1-3.

2. يا لمرارة التأديب!             4-7.

3. نحن من غرس يمينك!       8-13.

4. اطلع علينا وتعهدنا           14-19.

 

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى السَّوْسَنِّ.

شَهَادَةٌ. لآسَافَ. مَزْمُورٌ

جاء العنوان في الترجمة السبعينية: "لآساف في الآخرة. شهادة على المتغيرين؛ تسبحة على الأشوريين".

يقول الأب أنثيموس أسقف أورشليم: [يخبر هذا المزمور بتحويل الأمور وتبديلها. ما كان مزمعًا وقوعه بعد زمان هذا حُرر في عنوانه للتمام من أجل المتغيرين. وأما قوله: من أجل الأشوري فيدل على أنه يتضمن سبي الإسرائيليين بيد الأشوريين. وأما أثناسيوس الجليل فقال: إن الأشوري معناه المحال الذي تعبد له اليهود لصلبهم المسيح[1].]

 

1. لتنر ظلمتي

يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ اصْغَ،

يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ،

يَا جَالِسًا عَلَى الْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ [1].

يرى البعض أن كلًا من الاسمين "إسرائيل" و"يوسف" يشير إلى الشعب كله.

رعاية الله لإسرائيل تعني اهتمام الله بشعبه الذي حرره من عبودية فرعون، وقيادته ليوسف الذي تآمر عليه إخوته واغتالوه كالذئاب المفسدة للرعية. الله الذي كان يرعى إسرائيل القديم هو الذي لا يزال  يرعى الكنيسة "إسرائيل الجديد".

v   لقد بيع، وكان الثمن بخسًا، ثلاثين من الفضة (مت 26: 15). لكنه هو يشتري العالم بثمن عظيم وهو دمه (1 كو 6: 20، 1 بط 1: 19). قيد كشاة للذبح (إش 53: 7)، إلا أنه يرعى إسرائيل (مز 80: 1)، والآن يرعى أيضًا العالم كله[2].

القديس غريغوريوس النزينزي

"يوسف" تعني "إضافة الله"، فتشير الكلمة إلى الأمم الذين جذبهم الراعي الصالح إلى كنيسته كأعضاء فيها. يقول السيد المسيح: "ولي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراعٍ واحدِ" ( يو 10: 16).

v   تفسير اسم (يوسف) يفيدنا كثيرًا، فهو يعني "زيادة". فقد جاء بحقٍ لكي ما يزيد القمح الذي يُقدم للموت وتضاعف (يو 12: 24)، أي كي يزيد شعب الله[3].

القديس أغسطينوس

جاءت كلمة "يقود" هنا تشير إلى الماضي (2 صم 6: 3)، كما إلى الحاضر (جا 2: 3)، وإلى المستقبل (إش 11: 6).

"يا جالسًا على الكروبيم أشرق": يقول المرتل: "الرب قد ملك، ترتعد الشعوب، هو جالس على الكاروبيم، تتزلزل الأرض" (مز 1:99).

في سفر حزقيال دعا النبي المخلوق الحيّ كاروبًا. والعجيب أن الكاروب ارتبط بخلاصنا ارتباطًا وثيقًا.

ظهر في أول أسفار الكتاب المقدس ممسكًا سيفًا ملتهبًا نارًا يحرس طريق الفردوس حتى لا يدخل الإنسان إلى شجرة الحياة. إذ لا تقدر طبيعة الإنسان الساقطة أن تقترب من سرّ الحياة. كما ظهر في آخر أسفار الكتاب المقدس مع الأربعة وعشرين قسيسًا السمائيين، يشتركون في تسبحة الحمل التي هي تسبحة خلاصنا (رؤ 9:5)، إذ صار للإنسان حق الدخول إلى السماء عينها، وقد تمجدت طبيعته في المسيح يسوع الحمل الحقيقي. أما بين بدء الكتاب ونهايته فيظهر أيضًا كاروبان على تابوت العهد في خيمة الاجتماع والهيكل علامة الحضرة الإلهية، وكان الله يتحدث مع موسى من خلالهما.

أما وجود كاروبين فوق تابوت العهد حيث يمثل عرش الله، فيشير إلى أن الله الساكن وسط شعبه يتحدث معهم ويعاملهم خلال الرحمة والحب.

أيضًا وجود اثنين يشير إلى دور السمائيين من نحونا: الصلاة لأجلنا والعمل كخدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 14:1). ورسم شكل الكاروب على ستائر الخيمة والحجاب (خر 27-25) يقترب من شكل الإنسان مجنحًا ليعلن عن اقتراب الطبيعة البشرية إلى الحضرة الإلهية.

لقد عرف الإنسان الكاروب، فصار ليس غريبًا عن البشرية. لهذا عرفته الأمم ولاسيما الكلدانيون، وإن كانوا قد أضفوا عليه أشكالا من عندياتهم كما فعل سائر الأمم في كل الحقائق الإيمانية التي تسلموها شفاهًا بالتقليد، وصبغوها بفكرهم المنحرف.

إذن حين نرى الكاروب نتذكر طبيعتنا البشرية التي تمتعت بالخلاص من خلال اتحادها مع الله الآب في المسيح يسوع ربنا بواسطة روحه القدوس. أما وجوهه الأربعة فتشير إلى تقديس طبيعتنا الجديدة من كل جوانبها: العقلية (إنسان) والروحية (النسر) والعمل (الثور) والسلطان (الأسد).

تبع القديس إكليمنضس السكندري فيلون اليهودي قائلًا إن كلمة "كاروب" تعنى "معرفة". فاسم "الشاروبيم" يعني فيضًا من المعرفة أو تدفقًا من الحكمة. لذا فهم يشيرون إلى قوة المعرفة وإلى رؤية الله. يتأملون في جمال اللاهوت في أول إعلاناته، يتمتعون بحكمة إلهية. يفيضون بينبوع حكمتهم على من هم أقل منهم. وكأنه من خلال المعرفة الروحية تصير حياتنا مركبة تحمل الله داخلها.

هذا ما قبله أيضا القديس جيروم الذي رأى في الكاروب رمزًا لمخزن المعرفة التي تعمل في طبيعتنا لترفعها وتنطلق بها بين القوات السماوية. تعمل في طبيعتنا المتسلطة على الشهوات كأسد، وتحلق في الأمور العلوية كنسر، وتعمل مجاهدة كالثور، وبتعقل كإنسانٍ. هذه المعرفة نغترفها من الأناجيل الأربعة، إذ يقول نفس القديس: [متى ومرقس ولوقا ويوحنا هم فريق الرب الرباعي، الكاروبيم الحقيقيون، أو مخزن المعرفة؛ فإن جسدهم مملوء عيونًا ومتلألئ كالبرق... أقدامهم مستقيمة ومرتفعة، ظهرهم مجنح، مستعدون للطيران في كل الاتجاهات، كل واحدٍ منهم يمسك بالآخر، يتشابك الواحد مع غيره، كالبكرات وسط البكرات يتدحرجن على طول الخط، يتحركن حسب نسمات الروح القدس[4].]

v   الكاروبيم هم كرسي مجد الله، وترجمتهم "كمال المعرفة". الله يجلس على كمال المعرفة. فإن كنا نفهم الكاروبيم أنهم قوات علوية، وقوات سماوية، إلا أنكم إن أردتم يمكنكم أن تكونوا كاروبيم. فإن كان الكاروبيم هم عرش الله، اسمعوا ما يقوله الكتاب المقدس: "نفس البار هي كرسي الحكمة". تقولون: كيف نصير نحن في كمال المعرفة. من يحقق هذا؟ لديكم الوسيلة لتحقيق هذا: "المحبة هي تكميل الناموس" (رو 13: 10). كما يقال: "الله محبة" (1 يو 4: 8)[5].

القديس أغسطينوس

يوضح لنا القديس غريغوريوس النزينزي ماذا يعني القول: جلوس الله على الكاروبيم.

v   بعض الأشياء المذكورة في الكتاب المقدس ليست حقائق (بل رموز)، وبعض الحقائق غير مذكورة، وبعض الأشياء غير الحقيقية غير مذكورة، وبعض الأشياء حقيقية ومذكورة. هل تريدون مني أمثلة تثبت ذلك؟ أنا مستعد لأقدمها لكم. نقرأ في الإنجيل أن الله يتغافى (ينام) (مز 44: 23)، و"يستيقظ" (إر 31: 26)، ويغضب (مز 79: 5؛ قارن إش 5: 25)، و"يمشي" (تك 3: 8)، و"جالس على عرش فوق الكاروبيم" (إش 37: 16؛ مز 80: 1)، ومع ذلك هل كان الله يتأثر بالعاطفة؟ وهل سمعتم من قبل أن الله كائن جسدي؟ هذه صورة عقلية غير حقيقية. الحقيقة هي أننا قد استخدمنا أسماء مشتقة من الخبرة البشرية وطبقناها - بقدر ما استطعنا - على جوانب من الله. فعلى سبيل المثال، فإن انعزال الله عنا - لأسباب يعلمها هو - بشكل يكاد يكون عدم نشاط لا يبالي بنا هو ما نسميه "نوم" الله، فإن النوم البشري له خاصية عدم النشاط والسكون. وعندما يتغير الحال ويقوم الله فجأة بعمل ما في صالحنا، نسمي هذا استيقاظه. والاستيقاظ ينهي النوم كما أن النظر إلى شخص ما ينهي التحول بالنظر بعيدًا عن هذا الشخص. وقد جعل عقاب الله لنا هو "غضبه"، لأن العقاب ينتج من الغضب. ونسمي عمل الله في أماكن مختلفة "سيرًا"، لأن السير هو الانتقال من مكان إلى مكان، جاعلًا هذه الأماكن شبه مسار له. ونتحدث أيضًا عن "جلوس الله على العرش"، وهذه أيضًا لغة بشرية، فالإله لا يبقى ويسكن في مكان بقدر ما يسكن في القديسين. ونسمي حركة الله السريعة "طيرانًا" (مز 18: 10)، ومراقبته لنا هي "وجه الرب" (مز 4: 6، 34: 16)، وعطاءه وأخذه هما "يد الرب" (مز 145: 16). وفي الواقع فإننا نصف كل قدرة أو عمل لله بصورة مماثلة من الناحية الجسدية[6].

القديس غريغوريوس النزينزي

v   "لم يكن لهما موضع في المنزل" (لو 2: 8). الذي أوجد كل الأرض لم يكن له موضع هنا... وكانت تقوته باللبن الذي يعول الكل ويهب حياة لكل كائن حي، وقمّطت بالخرق ذاك الذي يصون المسكونة كلها... واضطجعت في المزود، الجالس فوق الشاروبيم (مز 80: 1).

أشرق نور سماوي حول ذاك الذي يضيء المسكونة كلها.

جنود السماء أسمعته التسابيح، هذا الممجّد في السماء من قبل الدهور.

نجم بضيائه قاد الآتين من بلاد بعيدة إلى ذاك الذي افتقر من أجلنا!

أما والدة الإله فقد حفظت هذا الكلام وخبّأته في قلبها كمن يتقبّل كل الأسرار...

إن مدحك أيتها العذراء الفائقة القداسة يفوق كل مديحٍ، بسبب تجسّد يسوع ربنا الذي له المجد مع الروح القدس والآب، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين[7].

القديس غريغوريوس صانع العجائب

ما أروع ما يقوله القديس أغسطينوس في تعليقه على هذه العبارة، وهو أن الله يطلب أن نسأله كي يأتي، وهو ينتظر لكي يأتي، ويشتاق أن يأتي!

قُدَّامَ أَفْرَايِمَ وَبِنْيَامِينَ وَمَنَسَّى أَيْقِظْ جَبَرُوتَكَ،

وَهَلُمَّ لِخَلاَصِنَا [2].

يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا رمزيًا لهذه الطلبة أن يظهر الله قدام أفرايم وبنيامين ومنسى.

v  أفرايم معناها "مثمر"، وبنيامين "ابن اليمين"، ومنسى "من هو كثير النسيان". إذن لتظهر قدام من هو مثمر، ابن اليمين، الكثير النسيان، حتى لا يعود ينسى بعد بل تحل أنت في ذهنه لتخلصه[8].

القديس أغسطينوس

يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن المرتل ذكر هؤلاء الأسباط الثلاثة لأحد الأسباب التالية:

أ‌.       لأن الله وعد بأن يكثرهم، فيذكره المرتل بوعده ويلتمس تحقيقه.

ب‌.  اتفقت هذه الأسباط مع سوريا لمحاربة يهوذا، فيطلب المرتل الخلاص من أذيتهم.

ج‌.  تتقدم هذه الأسباط الشعب من الجهة القبلية (شمالًا).

v  بهذا القول يبين جهارًا انتظاره مجيء ابن الله بالجسد على الأرض ليصنع خلاصًا للجميع من الأشوري المغري للشر، الذي هو الشيطان.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يَا اللهُ أَرْجِعْنَا،

وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ [3].

إن كان البعض يجد صعوبة في تجسد الله الكلمة وحلوله بيننا لأجل خلاصنا، فإن الإنسان يحمل ناموسًا طبيعيًا يشتاق أن يرى الله. فلا ندهش إن كانت البشرية حين انحرفت عن عبادة الله صنعت الأصنام وحسبتها آلهة. فقد أرادت أن ترى الله بعينيها. وموسى النبي بعد خبرة سنوات طويلة في معاملات الله معه يطلب أن يرى مجده (خر 33: 16-18). وفي سفر نشيد الأناشيد تتساءل العذارى: "أين ذهب حبيبك أيتها الجميلة بين النساء؟ أين توجَّه حبيبك، فنطلبه معك" وجاءت الإجابة: "حبيبي نزل إلى جنته إلى خمائل الطيب ليرعى في الجنات ويجمع السوسن" (نش 6: 1- 2). لقد نزل إلى عالمنا ليرعى قلوبنا، بكونها جناته المملوءة بخمائل الطيب والسوسن. يريد أن يتجلى في أعماقنا، ينير بوجهه علينا فنخلص.

الطلبة هنا هي توسل لكي نتمتع بازدهار عمل الله ورعايته ونعمته.

v     نحن ابتعدنا عنك، ولن نرجع ما لم أنت تردنا.

"أنر بوجهك فنخلص" هل له وجه مظلم بأية وسيلة؟ ليس له وجه مظلم، لكنه وضع أمامه سحابة من الجسد، كما لو كانت حجابًا من الضعف. عندما عُلق على الشجرة لم يُنظر إليه كما عُرف بعد عندما جلس في السماء... لقد غطيت وجهك، وكنا نحن مرضى. أنر وجهك ذاته، فنصير أصحاء[9].

القديس أغسطينوس

v  ارددنا يا الله إلى ما كنا فيه من الحرية والراحة. وأما وجهه فهو ابنه الوحيد الذي لم يزل مثله وشعاع مجده وصورة أقنومه. فلما تجسد ظهر لنا وجهه ورأيناه عيانًا.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v   هذا هو السبب أن الحب الذي يتوق نحو رؤية الله، حتى وإن كان ينقصه الحكم (السليم)، يحمل روح التقوى. هذا هو السبب الذي جعل موسى يتجاسر ويقول: "إن وجدت نعمة في عينيك أرني وجهك" (راجع خر 33: 16-18). أخيرًا هذا هو السبب أن الأمم صنعوا الأصنام، ففي خطأهم أرادوا أن يروا بعيونهم ما يعبدونه[10].

بطرس خروسولوجوس

رئيس أساقفة رافينا

 

2. يا لمرارة التأديب!

يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ،

إِلَى مَتَى تُدَخِّنُ عَلَى صَلاَةِ شَعْبِكَ؟ [4]

جاءت الترجمة السبعينية وأيضًا القبطية: "أيها الرب إله القوات؛ إلى متى تسخط على صلاة عبدك؟"

الله هو الكائن القدير الذي يُدبر كل الأمور كما يليق، حينما يُخفى وجهه نصير في اضطراب شديد. صمت رهيب.عندما يتأخر في استجابة الصلاة نظن أحيانًا أنه يرفض طلباتنا، ونتساءل "إلى متى؟" (مز 4: 2).

v   الآن أنا عبدك. كنت تسخط على صلاة عدوك، فهل لا تزال تسخط على صلاة عبدك؟ لقد أرجعتنا، ونحن نعرفك، فهل لا تزال تسخط على صلاة عبدك؟ واضح أنك تغضب بالحق كأبٍ يُصلح، وليس كقاضِ يدين. واضح أنك تغضب هكذا، إذ مكتوب: "يا بنيَّ، إن أقبلت لخدمة الرب، قف في البرّ والمخافة وأعدد نفسك للتجربة" (راجع سي 2: 1). لا تظن أن غضب الله قد عبر لأنك رجعت. سخط الله يعبر عنك، إنما فقط لكي لا تُدان أبديًا. لكنه يجلد كل ابنٍ يقبله (عب 12: 6)[11].

القديس أغسطينوس

يدعو الله هنا "إله الصباؤوت" أو "رب الجنود". فإن كانت الطغمات السماوية ذات قدرة عجيبة، كم يكون ربها وخالقها؟

إذ يؤجل الله استجابة الصلاة يظن الإنسان كأن غضب الله حجب الصلاة عن الله فلم يصغ إليها.

قَدْ أَطْعَمْتَهُمْ خُبْزَ الدُّمُوعِ،

وَسَقَيْتَهُمُ الدُّمُوعَ بِالْكَيْلِ [5].

صورة لمرارة النفس حين تنهمر الدموع على الخبز بسبب شدة الحزن، فتصير طعامًا أو شرابًا للشخص.

يرى البعض أن المعنى هنا إما أن جيراننا يصارعون ضدنا، أو يصارعون فيما بينهما بسببنا. وفي كلا الحالتين نصاب بالكثير من الأذى.

يرى القديس أمبروسيوس أنه يلزم أن تكون الدموع بكيلٍ، أي في حدود معينة لا نتعدها، لئلا تصير هذه الدموع مهلكة للنفس. فقد خشي القديس بولس لئلا يهلك الزاني التائب من فرط الحزن (2 كو 2: 7).

v   سيعطينا الله "خبز الدموع" ويسقينا "الدموع بالكيل" [٥]، هذا الكيل يكون حسب أخطاء كل واحد[12].

العلامة أوريجينوس

v  حتى خبزنا نأكله بالبكاء، وكأسنا تمتلئ بالدموع، كأنها ملء كيل؛ بمعنى أن دموعنا مُكالة وتقَّدر بآثامنا.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v  ما هو الكيل؟ اسمع الرسول: "الله أمين، الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1 كو 10: 13). الكيل هو حسب قدرتكم. الكيل هو أن تتدربوا لا أن تتحطموا[13].

القديس أغسطينوس

v   مادام البكاء له معانٍ مختلفة فإن الضحك يلزم أن يُفهم تبعًا لهذا. فالبكاء ليس له معنى واحد،  ولا أيضًا الضحك. أحيانًا يُمدح الضحك، وأخرى يُوبخ. هكذا أيضًا يلزمنا أن نفهم البكاء بنفس الطريقة، فالضحك الممتدح يتطابق مع الحزن الممتدح، وبنفس الطريقة بالنسبة للضحك المذموم والبكاء.

غالبًا الحياة التي تنكب بالأكثر على الشهوة، أكثر من محبة الله هي ضحك بطريقة،ٍ يصير بها الضحك نفسه إلهًا. كما يحسب البعض بطونهم آلهة، وآخرون محبة المال، فإنه يوجد من يحب التسلية ويود أن يكون فكاهيًا. وبهذا يبني مذابح للضحك حاسبًا إياه إلهًا، مقدمًا ذبائح له...

على أي الأحوال يوجد ضاحك يستحق المديح. يقول الله: "يملأ فاك ضحكًا" (أي 8: 21) (بلا شك) بواسطة ضاحك مستحق المديح. هذا يطابق ثمر الروح الذي هو الفرح، لأن "ثمر الروح هو محبة، فرح، سلام" (غل 5: 22). الضاحك الذي يطابق الضحك بالفرح ممتدح.  أي حزن يضاد هذا النوع من الضحك، ويقاوم فرح الروح القدس مستحق للذم. مثل هذا الحزن لن يسند أورشليم (لو 19: 41؛ 23: 28)... ولماذا الأمر هكذا؟ لأنه لا يتوب في الوقت اللائق بالتوبة[14].

القديس ديديموس الضرير

v   يعلمنا بولس الرسول ألاَّ نهجر أولئك الذين ارتكبوا خطية للموت، إنما نلزمهم بخبز الدموع (التي للتوبة)، لكن ليكن حزنهم معتدلًا. وهذا هو ما تعنيه عبارة: "سقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5). فحزنهم يجب أن يكون بكيلٍ، لئلا يبتلع التائب من فرط الحزن (2 كو 2: 7). وذلك كما قال لأهل كورنثوس: "ماذا تريدون، أبعصا آتي إليكم، أم بالمحبة وروح الوداعة؟!" (1 كو 4: 21). إنه يستخدم العصا، لكن بغير قسوةٍ، إذ قيل: "تضربه أنت بعصا، فتنقذ نفسه من الهاوية" (1 مل 23: 14)[15].

وماذا يقصد الرسول بالعصا، ظهر عند طعنِهِ ضد خطيَّة الزنا (١ كو ٥: ١)، منذرًا ضد الفسق بالأقرباء المحرَّم الزواج بهم، معنِّفًا كبرياءهم، إذ تكبر هؤلاء الذين كان يلزمهم أن يحزنوا. وأخيرًا في حديثه عن المُذنب أمر بعزله عن الجماعة وتسليمه للشيطان، ليس لأجل هلاك نفسه، بل لهلاك جسده.

القدِّيس أمبروسيوس XE "القديس امبروسيوس"

v   ينبغي أن نعظ الذين يحزنون بسبب أفعالهم الشريرة بطريقةٍ، أما الذين يبكون علي خطايا الفكر فبطريقة أخرى.

علي الذين يبكون الأفعال الشريرة أن يتطهروا بحزنٍ كاملٍ وحقيقيٍ، لئلا يتورطوا ويصيروا مدينين بالأكثر بفعل الشرور، وكذلك بسبب شح دموع الندم. يقول الكتاب: "وسقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5)[16]، بمعني أنه ينبغي علي الروح أن تشرب في ندمها علي الشهوة دموعًا بنفس النسبة التي تحولتْ بها عن الله، فأصابها الجفاف بسبب الخطيئة[17].

الأب غريغوريوس (الكبير)

جَعَلْتَنَا نِزَاعًا عِنْدَ جِيرَانِنَا،

وَأَعْدَاؤُنَا يَسْتَهْزِئُونَ بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ [6].

مما يزيد مرارة نفوسهم أن جيرانهم صاروا يسخرون بهم، وقد نشأ نزاع بين جيرانهم وبعضهم البعض، ربما لأن كل أمة تود أن تغتصب أكبر قدر من الغنائم، أو تستخدم أراضيهم كمراعٍ لغنمهم.

v  كان جيران العبرانيين في ذلك الزمان هم الأدوميون والموآبيون والعمونيون، هؤلاء كانوا يستهزئون بهم، لكن الآن صاروا هزءًا لجميع أعدائهم.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يرى القديس أغسطينوس أن جيراننا هم الأمم الذين إذ نكرز لهم بالسيد المسيح أنه مات وقام من الأموات، يرون في هذا تناقض، ويدخلون في نزاع. لكن المتنازعين يُغلبون، وعوض النزاع يؤمنون.

أعداؤنا كانوا يستهزئون بنا قائلين: "من هم أولئك الذين يعبدون ميتًا ويسجدون للمصلوب؟" الآن يقبلون الإيمان، ويرجعون إليه

يَا إِلَهَ الْجُنُودِ أَرْجِعْنَا،

وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ [7].

جاءت العبارة هنا مطابقة للعبارة الثالثة، بل وتتكرر للمرة الثالثة في العبارة 7، وفي نهاية المزمور [19]. إنها السؤال الأول للمؤمن في وسط متاعبه أن يشرق الله بنور وجهه عليه، والسؤال المستمر في الحياة، بل والأخير حتى في لحظات تسليم روحه وعبوره من هذا العالم. ليس شيء أفضل من التمتع بنور وجه الله واهب الإنارة والمجد والخلاص الأبدي.

يعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة وما يشبهها، قائلًا إنه إن كان الرجوع إلى المسيح يتحقق بالإيمان، فإنه لا يستطيع أحد أن يأتي إليه ما لم يُعط هذا من الآب[18].

v   عندما يقول الله "ارجعوا إلىّ... فأرجع إليكم" (زك 1: 3)، تحثنا إحدى الفقرتين للرجوع إلى الله فتنتمي إلى إرادتنا، بينما يعد الله في الأخرى بالاقتراب إلينا وهذه تخص نعمته. قد يظن البيلاجيون أنهم يجدون هنا تبريرا لفكرهم الذي يتقدمون به بمباهاة، قائلين إن نعمته تعطى حسب استحقاقنا... هذا الفكر مغاير لإيمان الكنيسة الجامعة وغريب عن نعمة المسيح. كما لو أنه يرجع إلينا حسب استحقاقنا، فتوهب لنا نعمته برجوعه إلينا... وقد فاتهم أن رجوعنا إلى الله هو نفسه عطية منه، وإلا ما كان يُقال في الصلاة: "يا إله الجنود أرجعنا"، و"ألا تعود أنت فتحيينا" و"أرجعنا يا إله خلاصنا" (مز80: 7؛ 85: 6، 4)... لأن اقترابنا إلى المسيح ماذا يعني سوى أن نؤمن به، ومع هذا يقول: "لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يعط من أبي" (يو 6: 65)؟![19]

القديس أغسطينوس

v   تخضع القوات العلوية والأرضية جميعًا لقدرتك أيها الرب الإله. نقدر أن نقهر أعداءنا، وتعيدنا إلى ما كنا عليه، بظهورك فقط.

        الأب أنثيموس لأورشليمي

 

3. نحن من غرس يمينك!

كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ.

طَرَدْتَ أُمَمًا وَغَرَسْتَهَا [8].

هذا التشبيه لكنيسة العهد القيم كما لكنيسة العهد الجديد كثيرًا ما ورد في الكتاب، وهو تشبيه محبوب ورائع، يكشف عن اعتزاز الله ورعايته لشعبه فالكرمة نبات ضعيف ويحتاج إلى رعاية، وثمره محبوب وغزير. ولكن متى صار عقيمًا لا يصلح لشيءٍ. 

v   لا يريد الله أن يغرسنا في مصر (محبَّة العالم)، ولا في أماكن فاسدة شرِّيرة، لكنه يريد أن يُقيمنا في جبل ميراثه. ألا تبدو الكلمات: "وتجيء بهم وتغرسهم" (مز 80: 8) كأنما يتحدَّث عن أطفالٍ يقودهم إلى المدرسة، حتى يتثقَّفوا بكل أنواع العلوم؟!...

لنفهم كيف يفعل هذا. "كرمة من مصر نقلت، طردت أممًا وغرستها. هيَّأت قدَّامها فأصَّلت أصولها، فملأت الأرض. غطَّى الجبال ظلَّها وأغصانها أرز الله" (مز 80: ٩-١١)...

إنه لا يغرسها في الوديان، بل على الجبال، في أماكن مرتفعة وعالية.

لا يريد أن يترك الخارجين من مصر في الحضيض، إنما يقودهم من العالم إلى الإيمان.

يريد أن يقيمهم على المرتفعات. يريدنا أن نسكن في الأعالي، لا أن نزحف على الأرض.

لا يريد ثمرة كرمته تلمس الأرض، إنما يريد أن تنمو كرمته دون أن تشتبك فروعها مع أيَّة شجيرة، بل تلتصق بأرز الله العالي المرتفع. أرز الله في رأيي هم الأنبياء والرسل، فإننا إن التصقنا بهم نحن الكرمة التي نقلها الله من مصر، تنمو أغصاننا مع أغصانهم. إن كنَّا نتكئ عليهم نصير أغصانًا مغروسة برباطات الحب المتبادل، ونأتي بلا شك بثمرٍ كثيرٍ[20].

العلاَّمة أوريجينوس

v   بما أن الكرمة إذا كانت مثمرة فإن صاحبها يسيجها ويحرسها أكثر من كل حديقة، وإن فسدت ثمرتها يترك فترة مُهملة، هكذا حدث مع الإسرائيليين.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v   إن ضعف شخص غير راغب في التمسك بعظمتها (الكنيسة)،  يزعم أنها غصن ضعيف، تلك التي قهرت جميع الملوك، وألقت حّلا علي العالم بأجمعه! بالمعاناة ازدادت قوتها.

مبارك هو ذاك الذي صيرها أعظم من كرمة مصر (مز 80: 8)[21].

القديس مار افرام السرياني

هَيَّأْتَ قُدَّامَهَا فَأَصَّلَتْ أُصُولَهَا،

فَمَلأَتِ الأَرْضَ [9].

اهتمام الكرّام بكرمه يجعله يتقدمها، أي لا ينتظر ما تطلبه، بل يسعى لتحقيق كل احتياجاتها لمساعدتها على الإثمار، حتى تتعمق جذورها، وتقدر على القيام بدورها. بهذا تبسط الكرمة فروعها، وكأنها تود أن تملأ الأرض بثمارها.

غَطَّى الْجِبَالَ ظِلُّهَا،

وَأَغْصَانُهَا أَرْزَ اللهِ [10].

ما هذه الظلال التي غطت الجبال، والغصون التي غطت أرز الله إلا أن الأولى تشير إلى الناموس. الظلال التي قبلتها الجبال بفهمٍ روحيٍ خلال نعمة العهد الجديد، والأغصان هي النبوات التي أدركتها الكنيسة وتظللت بها.

تشير الجبال إلى رجال الإيمان في العهد الجديد، وأرز الله إلى القوات السماوية. فبمجيء حكمة الله المتجسد تكشفت حقائق الناموس الروحية والنبوات أمام المؤمنين والسمائيين.

v   إن الكرام هو المعلم، وله في ذلك اختباراته الكثيرة في نقل الكروم "كرمة من مصر نقلت. طردت أمما وغرستها" (مز 8:80) "غطى الجبال ظلها وأغصانها أرز الله" (مز 80: 10). أنشدت العروس بهذه الكلمات لتظهر حبها العريس واستعدادها للقاء العريس في مجيئه... والعريس كامن دائمًا في أعماق قلبها... بين ثدييها يبيت (نش 1: 13).

العلامة أوريجينوس

مَدَّتْ قُضْبَانَهَا إِلَى الْبَحْرِ،

وَإِلَى النَّهْرِ فُرُوعَهَا [11].

انتشرت الكرازة إلى كل المسكونة، فغطت لا الجبال والأرز فحسب، بل وامتدت أغصانها إلى المحيطات والأنهار.

يقصد بالبحر هنا البحر الأبيض المتوسط، وبالنهر نهر الفرات (تك 15: 18؛ تث 11: 24؛ يش 1: 4؛ مز 72: 8).

فَلِمَاذَا هَدَمْتَ جُدْرَانَهَا،

فَيَقْطِفَهَا كُلُّ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ [12]

لقد فقد إسرائيل القديم جدرانه، فلم يعد يتمتع بالحضرة الإلهية والوعود الإلهية ولا الفهم الروحي، واستطاعت الشياطين أن تفسد ثماره، هذه التي صارت كعابري الطريق.

الله نفسه هو حصننا الذي يحمينا ويسيج حولنا. في شكوى الشيطان ضد أيوب قال: "أليس أنك سيجت حوله، وحول بيته، وحول كل ما له من كل ناحية. باركت أعمال يديه، فانتشرت مواشيه في الأرض" (أي 1: 10).

يُفْسِدُهَا الْخِنْزِيرُ مِنَ الْوَعْرِ،

وَيَرْعَاهَا وَحْشُ الْبَرِّيَّةِ! [13]

يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن خنزير الغاب وحمار الوحش هما نبوخذ نصر وأنتيخوس وأمثالهما وعلى الخصوص الشيطان الذين استحوذ عليهم.

يرى القديس أغسطينوس الخنزير القادم من الوعر يشير إلى الأممي الذي كان اليهود يحسبونه نجسًا كالخنزير، وهو قادم من الوعر أو من الغابة وليس من الكرمة (كنيسة اليهود).

 

4. اطلع علينا وتعهدنا

يَا إِلَهَ الْجُنُودِ ارْجِعَنَّ.

اطَّلِعْ مِنَ السَّمَاءِ وَانْظُرْ،

وَتَعَهَّدْ هَذِهِ الْكَرْمَةَ [14].

إن كان اليهود يئنون بسبب دخول الأمم الإيمان فإن المرتل من جانبه يرى دخولهم إلى الإيمان عطية إلهية، حيث يتطلع رب القوات من السماء ويتعهد هذه الكرمة الحقيقية.

تحتاج الكنيسة كما كل مؤمنٍ فيها إلى نظرات الرب، فهي تبعث قوة ورجاءً وفرحًا. نظراته في حقيقتها هي افتقاد إلهي ورعاية فائقة. نظرة الله تحمل فيها عملًا إلهيًا فعالًا.

v   يسأل النبي الله أن يعيد نظره على هذه الكرمة، بكونه كرَّامًا وطبيبًا، فلأنها بشرية ومريضة محتاجة إلى نظر طبيب وتعهده لها. وإما لأنها شُبهت بالكرمة وفسدت فتحتاج إلى غرسها ليصلحها ويقطع ما هو خالٍ منها، ويُبقى على ما هو مثمر فيها، ويقتل الدود الذي هو بأرض جذورها، الذي هو الشيطان مفسدُ الإيمان.

 الأب أنثيموس الأورشليمي

وَالْغَرْسَ الَّذِي غَرَسَتْهُ يَمِينُكَ،

وَالاِبْنَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ [15].

جاء في الترجمات السبعينية والقبطية والفولجاتا والسريانية الخ. "وعلى ابن الإنسان" أي على المسيا المخلص.

إن كانت يمين الله تشير إلى الابن الكلمة، فإنه بتجسده وصلبه غرس الكرم الإلهي، أي الكنيسة. هذا وقد أختاره الآب بكونه موضع سروره، ومخلصًا ورأسًا للكنيسة "العرس الإلهي".

هِيَ مَحْرُوقَةٌ بِنَارٍ مَقْطُوعَةٌ.

مِنِ انْتِهَارِ وَجْهِكَ يَبِيدُونَ [16].

إذ يغرس الله الكنيسة بالمسيح يسوع، أي بيمينه، يحرق الشرور التي كانت للأمم ويبيدها بنار روحه القدوس. قبوله للأمم لا يعني تهاونه مع الخطية والفساد، فهو محب لكل البشر، ولا يطيق الخطية والشر! النار الإلهية تهب استنارة للتائبين الراجعين إليه، وتحرق الشرور والآثام. صار اليهود – الكرمة القديمة - محترقة كما بلهيب الغضب الإلهي، بعد أن أصروا على جحد الإيمان بالمسيا المخلص.

v   أحرق نبوخذنصر هيكل هذه الكرمة، وجاء إلى مدينتها وأهلكها. كذلك الذين حاربوها من بعده وذلك بسبب غضبك. أما الرومان فبسبب غضب ابنك الذي يُقال عنه إنه وجهك وصورة أقنومك فصلبوه.

الأب أنثيموس الأورشليمي

لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَى رَجُلِ يَمِينِكَ،

وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِك [17].

َ يرى كثير من الدارسين أن الحديث هنا عن السيد المسيح، ابن الإنسان، آدم الثاني. فقد أقامه الآب، وهو موضع سروره، والمختار مخلصًا للعالم.

فَلاَ نَرْتَدَّ عَنْكَ.

أَحْيِنَا فَنَدْعُوَ بِاسْمِكَ [18].

إذ جلس مسيحنا عن يمين الآب كبكر لنا، التهبت قلوبنا بالحب الإلهي والاشتياق للانطلاق إلى أحضان الإلهية، نتمتع بالحياة الأبدية، ونمجد اسمه القدوس. نجد بهجتنا في العبادة والتسبيح وانطلاق القلب إلى السماء.

v   إننا يا رب قد بعدنا منك يا أيها الحياة الحقيقية، وبسبب بعدنا قد متنا بآثامنا، فالآن هب لنا حياتنا ولا نعود نبتعد عنك كالأول. ولا نُدعي باسم أي بشر أي يهودًا (من يهوذا)، ولا بأسماء سائر القبائل (الأسباط)، بل نُدعي باسمك أي مسيحيين.

الأب أنثيموس الأورشليمي

يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ أَرْجِعْنَا.

أَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ [19].

v   يعيد النبي القول تأكيدًا واستعجالًا لمجيء ابن الله ووجهه إلى العالم، ويشرق على البشرية ويتمم الخلاص للكافة.

الأب أنثيموس الأورشليمي

v   في عهد ربنا كان قد أشرق نور عظيم، ليقتل الظلمة التي أعمت العالم في موضعها.

أشرق ضياء الآب شعاعه على السفليين، ليُضاء بإشراقه الدرب الكئيب للسائرين عليه.

نزل شمس البرّ، ومشى على الأرض، فانهزمت الظلال الكثيفة من بهائه (مل 2: 4).

نشر أشعته على الجهات وأبهجها، فاستنارت المسكونة، التي كانت كئيبة قبل أن يشرق.

طرد الضلالة التي كانت منتشرة في جميع الشعوب، وأظهر للعالم سبيل الحياة ليسير عليها.

رش الشفاء على البشرية التي كانت مريضة، وانطفأت آلام المرضى العديدة.

صبّ شفاءه على المجروحين، وثبتهم، ونفخ في ضيقات الضعفاء وأطفأها.

وسكب موهبته ليثري العالم من معوناته، وفتح خزائنه، فنهب كل محتاجٍ واغتنى.

العميان يرون، والمشلولون يتعافون، والشياطين يُطردون، والمنحنون ينتصبون.

أعطى السمع للصم، والنور لمن هم بلا نور، وطهر البرص، وأعطى الغفران للخطاة.

نزل كالمطر على أرض اليهودية المريضة، ونبتوا من الأسرة كالجذور المريضة (هو 6: 3).

طرد الشياطين الذين تسلطوا على الإنسانية، وبروح فمه زجر الأذى من الكثيرين.

كان يشفي مجانًا، وهم ينكرون جميله ولا يغضب، ويضمد الجروح، ويشتمونه بأسئلتهم.

أبغضه الشعب بينما كان شفاؤه عزيزًا، وكان يلام بينما كانت معوناته عديدة.

الشعوب الغرل آمنوا به وبمعوناته، والشعب المختون تشكك من شفائه[22].

القدِّيس مار يعقوب السروجي XE "مار يعقوب السروجي"

 

من وحي مز 80

من ينير ظلمتي سواك؟!

v     إلهي، تئن أعماقي في داخلي،

فقد سيطرت الظلمة عليّ.

بحبك طأطأت السماء ونزلت إليَّ، يا شمس البرّ.

حملتني على منكبيك،

وقبلتني عضوًا في جسدك.

أشرقت على الصليب على الجالسين في الظلمة.

بهاؤك حطم متاريس الهاوية.

حبك ملأ نفوسنا بالرجاء.

v     صعدت إلى السماء، وأصعدت قلوبنا معك.

تُرى هل ننعم بالنور الإلهي ما لم تشرق أنت علينا.

هل يمكن للجسد أن يستريح ما لم يستقر معك، أيها الرأس العجيب؟

هل يمكن للكرمة أن تحمل ثمارًا بدون الكرّام؟

هل للقطيع أن يتحرك ما لم يتقدمه راعيه؟

هل للكنيسة وجود بدونك؟

يا جالسًا على الكاروبيم ثبتنا فيك.

لتقم من نفوسنا مركبة سماوية.

v     لقد حجبت الغيمة صلواتنا إلى حين.

لتصغِ إليها يا راعي إسرائيل وقائد يوسف.

إنها لا تسألك شيئًا سوى أن تقتنيك.

لا تطلب منك توسلاتنا سوى أن نرجع إليك.

إلى متى؟ لتضئ بنورك علينا، فنستنير.

أنقذنا من عبودية رئيس قوات الظلمة،

كما أنقذت شعبك من عبودية فرعون.

لتغرسنا في جنبك المطعون،

فتلتهب أحشاؤنا بنار حبك.

v     حوطنا بروحك القدوس كسياجٍ ناريٍ.

فلا يقتحمنا خنزير الوعر،

ولا يرعى فينا وحش البرية.

أنت هو سور خلاصنا وملجأ نفوسنا.

أنت حياتنا وبهجتنا ومجدنا.

لتكن يدك معي فأصرخ مع يعبيص:

"ليتك تباركني، وتوسع تخومي،

وتكون يدك معي،

وتحفظني من الشر، حتى لا يتبعني" (1 أي 4: 14).


 

 

[1] الراهب القس صموئيل السرياني: تفسير المزامير سنه 1988.

[2] Oration 29, On the Son, 20.

[3] On  Ps 79 (80).

[4] On Ps., hom 10.

[5] On  Ps 79 (80)

[6] العظة اللاهوتية الرابعة رقم 30 عن الابن، 22.

[7] البشارة بالتجسد الإلهي، 2005، تعريب القمص تادرس يعقوب ملطي ونادية أمين مرقس، عظة 2.

[8] On  Ps 79 (80)

[9] On Ps 79 (80).

[10] Sermon 147.

[11] On Ps 79 (80).

[12] In Lev. 8.

[13] On Ps 79 (80).

[14] Commentary on Ecclesiastes 71: 4.

[15] On Repentance, 1.

[16] بإخضاعهم وإذلالهم من قِبَلْ الأشوريين، أعطي الرب الشعبَ اليهودي فيضًا من الدموع، فصارت لهم خبزًا: "صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا" (مز 42: 3).

[17] Pastoral Care, 3:29.

[18] On Grace and Free Will, 10.

[19] Grace & Freewill, 10.

[20] In Exod. hom 6:10.

[21] ترانيم ضد جوليان عن الكنيسة 1: 9، تعريب عايدة بشاي.

[22] الميمر 17 على الكنعانية (مت 15: 21-28؛ مر 7: 24-30) (راجع نص بول بيجان والدكتور بهنام سوني).