في الحياة الأبدية

  • التناول من الأسرار المقدسة أمرٌ واجب وحيوي لكل مسيحي، ولكن الكنيسة ممثلة في آبائها تصر على ممارسة سر التوبة والاعتراف للراغبين في التناول، وتؤكد على المتناولين ضرورة الحضور للقداس مبكرًا، وتطالب المتخاصمين بالصلح مع من خاصموه أولًا. أليس غرض الحضور هو الت

    فيما يلي نقدم الرد على هذه التساؤلات في أربعة أجزاء: الأولعن عظمة، وقدسية السر، والثانيكيفية الاستعداد للتناول من السر، والثالثعن اتفاق مناداة الكنيسة لشعبها بالاستعداد لتناول المقدسات مع روح الكتاب المقدس، والأخير عن أهمية عدم الاعتماد على الفكر البشري القاصر في اجتذاب نفوس الناس لله.

    الجزء الأول: عظمة السر، ووجوب الاستعداد قبل التناول منه:

    أولًا: عظمة، وقدسية التناول من الأسرار المقدسة:

    • سبب عظمة السر:

    إن عظمة وقدسية التناول من الأسرار الإلهية تكمن في الاتحاد بالرب الذي يهبنا جسده الحقيقي لنأكله، ودمه الحقيقي لنشربه كقوله: "مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَق وَدَمِي مَشْرَبٌ حَق. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يو٦: ٥٤- ٥٦). لقد أكد الرب حقيقة أكل جسده، وشرب دمه بتقريره حقيقة حرمان من يتناوله من الحياة الأبدية كقوله: "فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ" (يو٦: ٥٣).

    • مهابة الرب، والخشوع أمامه تعتمد على الإيمان، لا رؤيا العيان:

    إن حضور الله في سر الإفخارستيا حقيقة يراها كل مؤمن بالإيمان، وبالتالي يصلي في خشوع، ومهابة تليق بالله الحاضر على المذبح. لقد أعطى المجوس الطفل يسوع المهابة والخشوع اللائقين به، ومع أنهم رأوه بالعيان كطفل بسيط بين أحضان أمه العذراء، ذلك إلا أنهم بالإيمان صدقوا ما أعلنته لهم السماء. لقد أدركوا عظمة جلاله، ومجده الفائق؛ فسجدوا له في خشوع كقول الكتاب: "وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا" (مت٢: ١١).

    • الرمز يشير للحقيقة:

    أمر الله بني إسرائيل بضرورة عمل الفصح الذي كان يرمز للتناول من جسد الرب ودمه، وكل نفس لا تعمل الفصح وتأكله كانت تقطع من شعبها: أي لا تُحسب ضمن شعب الله كقوله: "لكِنْ مَنْ كَانَ طَاهِرًا وَلَيْسَ فِي سَفَرٍ، وَتَرَكَ عَمَلَ الْفِصْحِ، تُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا، لأَنَّهَا لَمْ تُقَرِّبْ قُرْبَانَ الرَّبِّ فِي وَقْتِهِ. ذلِكَ الإِنْسَانُ يَحْمِلُ خَطِيَّتَهُ" (عد٩: ١٣). فما بالنا عاقبة الاستهانة والتهاون في تناول جسد الرب ودمه!

    • مهابة، وعظمة حضور الله في السر:

    كرامة الآباء تقتضي أن يتعامل معهم أبناؤهم بالاحترام اللائق، وإن فعل الأبناء غير ذلك يحسب هذا إهانة، وكذلك أيضًا هيبة أي سيد، أو رئيس تقتضي أن يتعامل معه خدامه، ومرؤسيه بما يليق به من كرامة، واحترام. لقد أكد الوحي الإلهي ضرورة حفظ كرامة الله كأب، وهيبته كسيد للخليقة كلها قائلًا: "الابْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟ قَالَ لَكُمْ رَبُّ الْجُنُودِ..." (ملا١: ٦). إن التعامل باستهانة مع الأسرار المقدسة يمثل استهانة بالرب الحاضر على المذبح أثناء القداس الإلهي.

    • أمثلة كتابية عن وجوب مهابة الله:

    صاحب ظهور الرب يسوع المسيح لشاول الطرسوسي (معلمنا بولس) نور مبهر وصوت عظيم من السماء فسقط على وجهه في خوف ورعدة، ويخبرنا الكتاب أن معلمنا يوحنا الحبيب سقط كذلك على وجهه ساجدًا كميت عند رجلي الرب يسوع المسيح عندما رأه في مجد عظيم، وهو منفي في جزيرة بطمس. إن الرب الذي ظهر لشاول الطرسوسي في الطريق، أو ليوحنا الحبيب في منفاه هو هو الحاضر معنا على المذبح بجسده، ودمه الأقدسين، وهذا ما يستوجب الاستعداد لتناول هذه الأسرار، والتعامل معها بخوف، ورعدة كقول الكتاب: "... تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ" (في٢: ١٢).

    ثانيًا: ضرورة الاستعداد لتناول المقدسات:

    • حضور القداس لا يكفي وحده لتحصيل البركات:

    حقًا إن الغرض من حضور القداس الإلهي هو التناول من الأسرار الإلهية، لكننا نتناول الأسرار المقدسة لتحقيق غاية أسمى، وهي الاتحاد بالرب، والثبات فيه، وأيضًا غفران خطايانا، ونوال الحياة الأبدية. فما الفائدة إن تناول الإنسان الأسرار، ولكنه لم يحصل على غايته من تناولها؟ لقد أكد معلمنا بولس الرسول أن بعضًا ممن يتناولون من الأسرار باستهانة لا ينالون بركات هذا السر المقدس، بل يقعون تحت التأديب واللعنة لأجل تهاونهم، وعدم توبتهم؛ كقول الكتاب:"مِنْ أَجْلِ هذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ. لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا" (١كو11: 30-31).

    • خروف الفصح رمز لسر الإفخارستيا:

    لقد أكدت شريعة العهد القديم ضرورة الاستعداد بالطهارة قبل أكل خروف الفصح كقول الكتاب: "وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي تَأْكُلُ لَحْمًا مِنْ ذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ الَّتِي لِلرَّبِّ وَنَجَاسَتُهَا عَلَيْهَا فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا" (لا٧: ٢٠). وإن كان الأمر كذلك مع الرمز (الفصح) فما بالنا كم يكون الاستعداد للمقدسات الحقيقية الإلهية (جسد الرب ودمه الحقيقيين)؟! إن تحقيق هدفنا الأسمى بنوال البركات يحتاج استعدادًا!

    • الاستعداد ضرورة، لا غنى عنها:

    إن وجود الإنسان في حضرة الله يحتاج الاستعداد اللائق للمثول أمامه كإله وملك عظيم، ولهذا يعلمنا الكتب المقدس أن الاستعداد للقاء الرب ضرورة لا غنى عنها. لقد أرسل الله أعظم نبي (أعظم مواليد النساء) يوحنا المعمدان، ليعلم الناس أهمية وكيفية الاستعداد قبل تجسده، وحلوله بين الناس كقول الكتاب: "هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ" (ملا٣: ١).

    • الاستعداد يُهيئ الإنسان للحصول على البركات:

    حضور الرب وسط شعبه أعظم فرصة لنوال البركات. إن الملك إذا حضر في أي مكان من ربوع مملكته، لابد أن يُشَجِّع، ويُكافئ المجتهدين، ولذلك نراه يهب العطايا للمخلصين منهم كقول الكتاب: "لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ" (مت٢٥: ٢٩)، ولكنه أيضًا لا يمكنه التغاضي عن المتهاونين دون مجازاتهم. فكيف له أن يرى الشر ويتغاضى عنه؟! إن مسؤولية الملك نحو شعبه، وصلاحه، توجب عليه العمل بالحق، وعدم التهاون مع الشر. لقد أكد الوحي الإلهي قبل تجسد المسيح الرب حرصه على ضرورة استعداد شعبه بالتوبة؛ حتى يمكنهم التمتع بالبركات، بدلًا من أن تلحق به اللعنات، بسبب خطاياهم قائلًا: "هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ" (ملا4: 5-6).

    • خطورة عدم الاستعداد لملاقاة الرب الملك:

    لقد كانت التوبة هي المشورة الإلهية، التي تُعِدُّ كل نفس للتمتع ببركات حضور الله، وقد لصق الكتاب المقدس تهمة رفض مشورة الله الخلاصية بالفريسيين، والناموسيين، الذين رفضوا التوبة، والاعتراف بخطاياهم أمام المعمدان قائلًا: "وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ وَالنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ اللهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ" (لو٧: ٣٠). لقد كان ذلك سببًا كافيًا لفقدانهم البركات، لأنهم تقابلوا مع الملك الحق، وهم في خطاياهم، وهكذا صدق فيهم قول عاموس النبي: "لِذلِكَ هكَذَا أَصْنَعُ بِكَ يَا إِسْرَائِيلُ. فَمِنْ أَجْلِ أَنِّي أَصْنَعُ بِكَ هذَا، فَاسْتَعِدَّ لِلِقَاءِ إِلهِكَ يَا إِسْرَائِيلُ" (عا٤: ١٢).

    إن من يرفض الاستعداد الروحي لملاقاة الله معطي البركات، عليه أن يستعد للقاء الله الديان العادل. في الجزء التالي نناقش أهم وسائل، وأسس الاستعداد لتناول المقدسات.

    الجزء الثاني: كيفية الاستعداد لنوال بركات السر المقدس:

    أولًا: المعرفة الإلهية من خلال قراءة الكتاب في القداس الإلهي:

    • الكتاب المقدس هو أساس معرفة الرب يسوع، والشاهد له:

    يبدأ القداس الإلهي في الكنيسة القبطية بقداس الموعوظين، الذي يُقرأ فيه أجزاء من رسائل معلمنا بولس الرسول (البولس)، ومن الرسائل الجامعة (الكاثوليكون)، ومن سفر أعمال الرسل (الإبركسيس)، ثم جزء من سفر المزامير، وأخيرًا جزء من الإنجيل (البشائر الأربع)، ثم عظة تتضمن شرح وتفسير لكلمة الله، هذا بخلاف قراءة جزء من سفر المزامير يسبق قراءة الإنجيل في الليلة السابقة في صلاة رفع بخور العشية، وأيضًا في صلاة رفع بخور باكر صباحًا قبل بدء القداس الإلهي. لقد أدركت الكنيسة تعاليم إنجيلها، والتي تؤكد أنه يستحيل على من لم يعرف الرب يسوع المسيح من خلال الكتاب المقدس أن ينال البركات الإلهية المذخرة في سر التناول (الإفخارستيا)، ولهذا حرصت الكنيسة على طاعة قول الرب يسوع المسيح: "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي" (يو٥: ٣٩).

    • تنقية النفس استعدادًا للتناول من الأسرار:

    قراءات قداس الموعوظين تمثل جزءًا هامًا من القداس الإلهي، لأن النفس في حاجة قبل التناول أن تُعد، وتتنقى بالمعرفة الإلهية كقول الكتاب: "أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ" (يو١٥: ٣). لقد حذر الله في القديم من الهلاك القادم على شعبه بسبب جهلهم، وعدم معرفتهم به قائلًا: "لِذلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، وَتَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ، وَعَامَّتُهُ يَابِسِينَ مِنَ الْعَطَشِ" (إش٥: ١٣).

    • الشريعة والوصايا الإلهية في الكتب المقدسة هي الدافع للتوبة:

    إن الكتاب المقدس بعهديه هو كنز المعرفة الإلهية، وهو أساس الاستعداد لنوال كل البركات الإلهية، وهو أيضًا الدافع الأول والمحرك للتوبة، والرجوع لله. لقد أقام الله كهنة، وأنبياء، وخدام في العهد القديم، والجديد ليكرزوا بكلمة الله لشعبه كقول الكتاب: "فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟" (رو١٠: ١٤).

    ثانيًا: التوبة والاعتراف:

    حياة التوبة والنقاوة هي الاستعداد الأمثل للتواجد في حضرة الله. إن التوبة هي معرفة الإنسان بضعفه، واعترافه بخطاياه أولًا، ثم بعد ذلك يأتي تغيير موقف الإنسان تجاه الله من البعد عنه، إلى الاقتراب والرجوع إليه، والخضوع له وطاعة وصاياه. لقد ارتبطت التوبة، والنقاوة بالاعتراف بالخطايا. إن أعظم مثال لذلك هو توبة واعتراف شعب الله، وقبولهم معمودية التوبة على يد يوحنا المعمدان، لإعدادهم للتمتع ببركات تجسد ابن الله، وحضوره وسطهم. لقد اشار الكتاب المقدس لعظمة هذه الرسالة بقوله: "وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا" (لو١: ١٧).

     

     13

    • ضرورة اعتراف الإنسان بضعفه، وخطاياه:

    لقد أتى المُخلصين من الشعب الخاضعين لمشورة الله إلى معمودية يوحنا المعمدان تائبين مقرين ومعترفين بخطاياهم كقول الكتاب: "وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ" (مر١: ٥). وهكذا أشار علينا الوحي الإلهي بضرورة الاعتراف بخطايانا قائلًا: "مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ" (أم٢٨: ١٣).وكيف يتمتع إنسان ببركات حضور الله وهو محكوم عليه بالفشل مُقَدًّمًا بسبب كتمانه لخطاياه، وعدم المجاهرة بها؟!

    ثالثًا: شركة المؤمنين ومحبتهم بعضهم بعض:

    • أعضاء الجسد الواحد يشتركون في شركة جسد المسيح:

    لقد أكد الوحي الإلهي أن أفراد الكنيسة يمثلون جسدًا واحدًا للمسيح ولهذا يحيون في حب، وشركة مع بعضهم البعض، وإلا فكيف يتفق خصام الأعضاء بعضها مع بعض في شركة جسد الرب يسوع المسيح كقول الكتاب: "كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا، أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ الْمَسِيحِ؟ الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟ فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ، جَسَدٌ وَاحِدٌ، لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ" (١كو١٠: ١٦- ١٧).

    • الصلح مع القريب ومحبته:

    عَلَّمَ الرب تلاميذه أن الصلح مع القريب، ومحبته له أولوية، وأهمية أكثر من تقديم الذبائح والتقدمات لله قائلًا: "فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ" (مت٥: ٢٣- ٢٤). إنَّ رضا الله، ونوال مواعيده مرتبط بمحبة القريب، ولذلك يصلي الشماس أثناء القداس الإلهي مطالبًا الحضور بتقبيل بعضهم بعضًا بقبلة مقدسة، لعل من يحمل في قلبه ضغينة، أو خصامًا لأخيه ينتبه أولًا لمصالحة أخية، وبالطبع من يرفض مصالحة أخيه يكون مخالفًا لوصية الرب، ومدانًا، وليس له الحق في التقدم للتناول من الأسرار المقدسة.

    الجزء الثالث: الاستعداد لتناول المقدسات يتفق مع التعاليم الإنجيلية:

    الاستعداد بالتوبة والاعتراف والمعرفة الإلهية، ومصالحة القريب يتوافق مع تعاليم الكتاب المقدس الأصيلة بحسب قول الكتاب في سفر الأعمال: "وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَأْتُونَ مُقِرِّينَ وَمُخْبِرِينَ بِأَفْعَالِهِمْ، وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ السِّحْرَ يَجْمَعُونَ الْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ الْجَمِيعِ..." (أع١٩: ١٨- ١٩). لقد مارست الكنيسة الأولى في زمن رسل المسيح الأطهار التعليم جنبًا إلى جنب مع التناول بحسب قول سفر أعمال الرسل القائل: "وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَّلَوَاتِ" (أع٢: ٤٢)، وهكذا يشهد الكتاب المقدس في الآية السابقة بتلازم التعليم، والشركة: أي المحبة، والصلح مع التناول من جسد الرب، ودمه، الذي هو كسر الخبز.

    الجزء الرابع: على فهمك لا تعتمد:

    اجتذاب الناس بالتساهل، وعدم التدقيق في السلوك والالتزام بالتعاليم الإنجيلية الأصيلة هو اعتماد على الحيل البشرية، التي تَضر ولا تُفيد، ومُخَالفة لقول الكتاب القائل: "تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ" (أم٣: ٥). لقد وردت كلمة توكل في النص السابق في الترجمة الإنجليزية هكذا trust أي ثق. أننا نثق أن الله له غيرة على خلاص كل أحد، وهو أحكم بما لا يقاس من البشر، ولذلك نحن نثق في وصاياه وأوامره التي ننفذها بدقة.

    ومع هذا أعطت الكنيسة كهنتها السلطان لدراسة كل حالة على حدة، واتخاذ ما هو صالح، ومناسب للبنيان دون التهاون في مبادئ وتعاليم الإنجيل، لأن الكنيسة لا يمكنها التنازل عن تعاليمها الإنجيلية الأصيلة.

    الخلاصة:

    إننا نختتم الرد على هذا السؤال بكلمات الوحي الإلهي الحق القاطعة، والتي لا تحتمل الشك: "وَلكِنْ لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَهكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ. لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاق يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ" (١كو١١: ٢٨- ٢٩).

  • هل سينعم الكثيرون من البشر، ممن ولدوا فاقدي الإدراك الذهني بالنعيم الأبدي، بالرغم من عدم إدراكهم للمفاهيم الإيمانية، التي تُمَكَّن الإنسان من اختيار الطريق إلى الحياة الأبدية؟

    الخلاص، والتمتع بالحياة الأبدية (الملكوت) يلزمه أمور عديدة كالمعمودية، والتوبة، والإيمان العامل بالمحبة، وتبعية الرب بكل القلب و... و...و... وكل هذه الأمور تحتاج الإدراك الذهني، ولهذا قد يتشكك البعض في تمتع محدودي الإدراك الذهني (المعوقين ذهنياً) بالملكوت، لكن الحقيقة التي لا يجب ألا ننساها هي: أن الملكوت أولاً وأخراً هبة: أي نعمة يعطيها الله الواهب الحياة بحسب كرمه، وغنى محبته اللامتناهية كقول الكتاب: "وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ ­ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ" (أف٢: ٥). دعونا نفند عدم صحة هذه الشكوك من خلال مناقشة بعض الأمور اللازمة للخلاص، والتي يتخيل البعض أنها تقف عائقاً في تمتع أحباءنا بالملكوت السماوي، ثم نؤكد بعد ذلك كرم الله وعطائه لإخوته الأصاغر، وذلك من خلال النقاط التالية:

    أولاً: قبول الدعوة الإلهية والإيمان:

    • الإيمان أساس البنوة لله:

    الإيمان شرط أساسي للبنوة لله، لأنه دليل على قبول دعوة الله، والتجاوب معها كقول الكتاب: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ." (يو١: ١٢). ولكن الإيمان يحتاج من الإنسان لسماع كلمة الله (الكرازة) وتصديقها كقول الكتاب: "فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟" (رو١٠: ١٤). وهنا يتبادر للذهن سؤال هام، وهو: كيف يحسب من لم يدرك مفاهيم، وحقائق الإيمان ضمن جماعة الأشرار (المحرومين من التمتع بالملكوت)، بسبب عدم مقدرته على الفهم؟! إن الإجابة بالطبع لابد أن تكون: حاشا لله أن يعاقب من لم يقترف ذنبا. أما الحرمان من الملكوت فهو محفوظ للأشرار، الذين رفضوا الله النور الحقيقي بإرادتهم واختيارهم كقول الكتاب: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً." (يو٣: ١٩).

    • أحباؤنا:

    نخلص مما سبق بأن أحبائنا لن يأتوا إلى الدينونة، لأنهم لم يحبوا الظلمة أكثر من النور، وفي ذات الوقت ليس من العدالة أن يحرم أحباءنا من الملكوت، لأنهم، لم ينالوا فرصة اختيار قبول الدعوة الإلهية للملكوت أو رفضها. فمن يدري، لو كان لهم إمكانية الاختيار لقبلوا دعوة الله، وآمنوا، وبالتالي صاروا ورثة للملكوت.

    ثانياً: الأعمال الصالحة:

    • الأعمال الصالحة ضرورية للخلاص، والتمتع بالملكوت، وذلك لأنها:

     12 01

    ١. ثمرة للإيمان الصادق:

    لا يكفي أن يكون الإنسان مؤمناً دون أن يرتبط إيمانه بالأعمال الصالحة التي تعبر عن إيمانه، وإلا حكم على إيمانه بأنه ميت، وذلك بحسب شهادة الكتاب القائل: "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ." (يع٢: ٢٦).

    ٢. جميع أعمال البشر هي على سبيل دين:

    أننا نحن المؤمنون مديونين لله الذي أحبنا، وأسلم ذاته فداء عنا، ولهذا نحن مدينون له بالمحبة، وتنفيذ وصاياه الإلهية. إن كل أعمالنا ليست تفضلاً، بل هي على سبيل دين كقول الكتاب: " لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ." (رو١٣: ٨). إننا مهما اجتهدنا في العمل الصالح، لن نوفي ما علينا لله من دين، حين سفك دمه الثمين لأجل خلاصنا على عود الصليب.

    ٣. التمتع بالملكوت هو مكافأة الله لعبيده الخاضعين له:

    لقد خلق الله كل إنسان لغرض ما كقول الكتاب المقدس: "لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا." (أف٢: ١٠). ومع أن الإنسان مديون لله، لكن الله المحب العادل، والسخي في عطائه يجازي الإنسان على أعماله. لقد أكد الكتاب المقدس أن الله يجازي كل إنسان بحسب تعبه، لأن الفاعل مستحق أجرته كقوله: "لأَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ: "لاَ تَكُمَّ ثَوْرًا دَارِسًا"، وَ"الْفَاعِلُ مُسْتَحِق أُجْرَتَهُ" (١تي٥: ١٨). لقد أعلن الله هذا المبدأ الإلهي على فم حزقيال النبي، عندما تنبأ عن مكافأة الله جنود نبوخذ ناصر، الذين تمموا مشيئة الله في عقاب مملكة صور، قائلاً: "يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ اسْتَخْدَمَ جَيْشَهُ خِدْمَةً شَدِيدَةً عَلَى صُورَ. كُلُّ رَأْسٍ قَرِعَ، وَكُلُّ كَتِفٍ تَجَرَّدَتْ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ وَلاَ لِجَيْشِهِ أُجْرَةٌ مِنْ صُورَ لأَجْلِ خِدْمَتِهِ الَّتِي خَدَمَ بِهَا عَلَيْهَا. لِذلِكَ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَبْذُلُ أَرْضَ مِصْرَ لِنَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ، فَيَأْخُذُ ثَرْوَتَهَا، وَيَغْنَمُ غَنِيمَتَهَا، وَيَنْهَبُ نَهْبَهَا فَتَكُونُ أُجْرَةً لِجَيْشِهِ." (حز٢٩: ١٨- ١٩).

     

     

    • أحباؤنا:

    إن أحبائنا لم يدركوا المفاهيم الإيمانية، ولذلك لن يُسألوا عن الأعمال كثمرة للإيمان، مع أنهم مدينون كغيرهم من المؤمنون بحب الله، وفدائه لهم، لكنهم غير قادرين على تنفيذ وصايا الله، ليس لتقصير، ولكن ذلك لظروفهم الصحية. أما من جهة الأعمال التي خلقهم الله لأجلها فهم يتممونها على أكمل وجه، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل فيما يلي:

    • عظمة ما قدمه أحبائنا:

    هؤلاء الأحباء قد عانوا كثيراً، وأكملوا أعمالهم كما أرادها الله لهم؛ فلماذا لا ينعمون هم أيضاً بالمكافأة حسب وعد الله بعدم إضاعة أجر من يقدم كأس ماء بارد لمحتاج كقوله: "وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ". (مت١٠: ٤٢). فهل تضيع أجرة معاناتهم، وهم كانوا سبباً في نوال الملكوت للكثيرين. لقد قدم أحبائنا خدمات جليلة لحساب المحبة، والتعاطف، والرحمة، وأيضاً هم عظة على ضعف البشر، وهم أيضاً سبب شكر لله من الأصحاء على ما هم فيه من نعمة الصحة. هم عظة صامتة، بسببها سينعم كثيرون بالملكوت. أفلا ينعمون هم أيضاً بالملكوت؟! وهل كان ممكناً عمل الرحمة بدونهم؟! ما أعظم ما يقدمه أحبائنا من دروسٍ رائعة تهيء الكثيرون للملكوت.

    ثالثاً: التمتع بالخلاص والملكوت لن يكون إلا على سبيل الهبة والنعمة:

    • البشر جميعهم تحت الحكم والقصاص، ويستحقون الهلاك بسبب خطاياهم:

    إن تمتع القديسين بالنعيم الأبدي، ليس هو على سبيل أعمالهم البارة، لأن أعمال الإنسان لا تكفيه لنوال الملكوت. أما من يدعي أنه سيفوز بالملكوت بسبب أعماله فهو مخدوع، لأن الوحي الإلهي يحذره قائلاً: "أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ." (رو٤: ٤). إن خطية واحدة من خطايا الناس أجرتها الموت، لذلك طالب الكتاب من يريد الخلاص بمجهوده الشخصي (أي بدون عمل النعمة) بالثبات في جميع الوصايا قائلاً:... مَكْتُوبٌ: "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ". (غل٣: ١٠). أما كسر وصية واحدة من وصايا الناموس فهو تعدي على الناموس بجملته كقول معلمنا يعقوب الرسول: "لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ. لأَنَّ الَّذِي قَالَ: "لاَ تَزْنِ"، قَالَ أَيْضًا:"لاَ تَقْتُلْ". فَإِنْ لَمْ تَزْنِ وَلكِنْ قَتَلْتَ، فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّيًا النَّامُوسَ." (يع٢: ١٠- ١١).نخلص مما سبق باستحالة تمتع الإنسان بالنعيم الأبدي بسبب خطاياه كقول الكتاب: "كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: "أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ."(رو٣: ١٠-١٢).

    • التبرير وغفران الخطايا نعمة من الله تستحق الشكر:

    غفران خطايا البشر هو هبة مجانية من الله الحنون الرؤوف، ولا يوجد من يمكنه أن يغفر الخطايا إلا الله وحده. لقد أنعم الرب يسوع على المفلوج، والمرأة الخاطئة بالمغفرة. أنها العطية العظمى من الله لبني البشر، لأنها تنجي من الهلاك الأبدي، ولهذا طوب داود النبي كل من تمتع بنعمة غفران خطاياه قائلاً: "كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضًا فِي تَطْوِيبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَحْسِبُ لَهُ اللهُ بِرًّا بِدُونِ أَعْمَال: "طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ." (رو٤: ٦- ٧).

    • أحباؤنا:

    أحبائنا مثل باقي البشر في حاجة إلى خلاص الرب وغفرانه. إنهم غير مسؤولين عن تصرفاتهم، ولا حتى عن أخطائهم
    الخاصة بطبيعة حالهم. ولكنهم بحسب المنطق البشري الضعيف
    أفضل حالاً ممن تعدى على الوصايا الإلهية مراراً، وتكراراً، وفي هذا يكونون قد تفوقوا على من لهم معرفة، وإدراك. أما بالنسبة لتبريرهم من خطايا عدم المعرفة فنثق أن الله يبررهم، لأنه يغفر للجميع حسب كثرة رحمته. ولماذا لا يغفر الله لهم أيضاً خطاياهم؟!

    رابعاً: كرم الله وكثرة جوده نحو أحبائنا:

    • العظماء يعطون حسب كرمهم، وعظمتهم:

    حينما يعطي العظماء فهم يعطون بحسب غناهم، وليس بحسب استحقاق من يعطونه. لقد ذكر الكتاب المقدس بعض الأمثلة عن ملوك أعطوا بكرم تأكيداً لعظمتهم، وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة على ذلك:

    • الملك أحشويروش الذي كان زوجاً لأستير اليهودية

    وَعَمِلَ الْمَلِكُ وَلِيمَةً عَظِيمَةً لِجَمِيعِ رُؤَسَائِهِ وَعَبِيدِهِ، وَلِيمَةَ أَسْتِيرَ. وَعَمِلَ رَاحَةً لِلْبِلاَدِ وَأَعْطَى عَطَايَا حَسَبَ كَرَمِ الْمَلِكِ." (أس٢: ١٨).

    فَقَالَ لَهَا الْمَلِكُ: "مَا لَكِ يَا أَسْتِيرُ الْمَلِكَةُ؟ وَمَا هِيَ طِلْبَتُكِ؟ إِلَى نِصْفِ الْمَمْلَكَةِ تُعْطَى لَكِ". (أس٥: ٣).

    • هيرودس الملك الذي قتل يوحنا المعمدان

    "دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: "مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ. وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ "مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي". (مر٦: ٢٢- ٢٣).

    • كثرة جود الله، وكرمه الغير محدود:

    أما كرم الله، وسخائه فهو بحسب عظمته، وغناه الغير المحدود، وذلك كقول الكتاب: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." (في٤: ١٩).

    • مسرة قلب الله:

    إن الله في طبيعته يسر أن يعطي الجميع بسخاء كقول الكتاب: "وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا،" (أف٣: ٢٠). وأيضاً قوله: "وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ." (يع١: ٥)

    • حب الله، وعطائه العظيم لإخوته الأصاغر:

    ينظر الله للضعفاء والمساكين ليرفعهم، ويصنع بهم عظائم وعجائب. لقد شهدت وتغنت العذراء القديسة مريم بذلك قائلة: "أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ." (لو١: ٥٢- ٥٣). وشهد الرب الصادق، والأمين بهذا بوعد ثابت لا يتزعزع قائلاً: "لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ." (لو١٢: ٣٢). إن أحبائنا قد يكونوا كباراً في أعمارهم، لكنهم أطفال في بساطتهم؛ فلماذا لا ينطق عليهم وعد الرب للأطفال بالملكوت؟ والقائل: "فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ: "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ." (مر١٠: ١٤).

    الاستنتاج:

    إن أحباءنا هم جزء هام من جسد البشرية، ولهم مهام، وعمل في طريق خلاص الكثيرين، وهم أيضاً ضمن جماعة الأطفال المتضعين الموعودين بالملكوت، فلماذا لا يهب الله الكريم، والسخي في عطائه ملكوته لهم أسوة بجميع البشر المديونين بثقل خطاياهم وآثامهم؟!

     

     ملحوظة هامة: سنطلق على محدودي أو فاقدي الإدراك الذهني (ومن في وضعهم) خلال الإجابة لقب أحبائنا، وذلك على سبيل التبسيط.

  • هل لن يكون لدى الإنسان في الحياة الأبدية إمكانية للتفكير بحرية في الشر؟ وألا يعتبر ذلك تحكمًا في حرية الأمناء من البشر، الذين ينتظرون المكافأة من الله؟ وهل يجبر الله بني البشر على التسبيح الدائم في الملكوت؟ ألا يعتبر ذلك أيضًا نوعًا من العبودية؟!

    تخيلات غير واقعية تمامًا:

    يتخيل صاحب السؤال أن أفكار الشر هي مجرد أفكار حرة، لا علاقة لها بقلب أو داخل الإنسان، ويتناسى صاحب السؤال أن الفكر يعبر عن شهوة قلب الإنسان، وما يريد فعله، ودائمًا ما يُتوج وينتهي بالفعل كقول الكتاب: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا. لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ"(يع١: ١٥- ١٦).أو قد يتخيل أن الأبرار في السماء يعيشون في كبت، وأنهم يسلكون في حياة الفضيلة مجبرين كعبيد؛ بينما هم يشتهون أن يفكروا بالشهوات والرغبات غير المقدسة، لكنهم لا يقدرون لأنهم مُجبرون على حياة القداسة. إننا نتساءل هل يصح أن يستغل القديسون في ملكوت السماوات الحرية الموهوبة لهم من الله في التفكير بالشرور؟ وعندما يفكرون بالشرور هل ستنتهي بهم الأفكارالشريرة لفعل الشر؟ أم سيظلون في تحرق وضيق، لأنهم غير قادرين الحصول على ما يشتهونه. فيما يلي نشرح ضلال تلك التخيلات:

    أولًا: حياة القداسة هي مطلب وشوق الأبرار:

    • تبعية الأبرار لله هي اختيارهم الحر:06

    الأبرار قرروا واختاروا الحياة الأبدية، ودليل اختيارهم هو جهادهم، وصبرهم وهم على الأرض، وقد أكد الرسول العظيم بولس ضرورة الجهاد المقدس، لأن ذلك بالطبع دليل تفضيل القديسين للحياة الأبدية على الحياة الأرضية الزائلة قائلًا: "لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ"(عب 12: 4). وأكد أيضًا أن الأكاليل، التي سنفوز بها في السماء لابد أن يسبقها الجهاد الروحي، وتتميم السعي، وحفظ الإيمان قائلًا: "قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا"(٢تي٤: ٧- ٨).

    ·        الرب يهبٌ إكليل البر لمن يطلبه فقط:

    لن يهب الرب إكليل البر (القداسة الدائمة) إلا لمن يطلبه من أعماق قلبه، لأن الله يهب الإنسان سؤل قلبه كقول المرنم:"لِيُعْطِكَ حَسَبَ قَلْبِكَ، وَيُتَمِّمْ كُلَّ رَأْيِكَ"(مز4:20).إن من يرفض الحياة الأبدية لن يجبره الله على التمتع بها؛ لأن الأبرار سيحيون هناك في قداسة وطهارة على الدوام (إكليل البر).      إن الله يريدنا أن نشتهي الطهارة حبًّا فيه كقوله: "اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي" (يو21:14). لقد فاز الأبرار بإكليل البر؛ لأن أحكام الرب، ووصاياه كانت مطلبهم، وموضوع جهادهم في حياتهم على الأرض. وقد خصص مرنم المزامير المزمور المائة والتاسع عشر لإظهار شوق وحرص أبناء الله القديسين لتتميم كل وصايا الله بأمانة.. وفي السطور التالية نذكر بعضًا من أعداد هذا المزمور الرائع:

    ١. "بِكُلِّ قَلْبِي طَلَبْتُكَ. لاَ تُضِلَّنِي عَنْ وَصَايَاكَ. خَبَأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْك"َ(مز١١٩: ١٠- ١١).

    ٢. "انْسَحَقَتْ نَفْسِي شَوْقًا إِلَى أَحْكَامِكَ فِي كُلِّ حِينٍ"(مز١١٩: ٢٠).

    ٣. "دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ، لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ. أَمِلْ قَلْبِي إِلَى شَهَادَاتِكَ، لاَ إِلَى الْمَكْسَبِ"(مز١١٩: ٣٥- ٣٦).

    • ليس من العدالة أن يعطيهم الله ما اشتهوا الخلاص منه:

    هم كانوا يئنون في الأرض من ضغط شهوات الجسد والخطيئة، وانتظروا بفارغ الصبر خلاصهم كقول الكتاب: "إِذًا أَجِدُ النَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى أَنَّ الشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي. فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ اللهِ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ. وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" (رو٧: ٢١- ٢٤).  وأيضاً قوله: "وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ... نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا"(رو23:8). فهل يطلبوا ما عانوا منه المرارة والشقاء؟! أو هل من العدالة أن يتسبب الله في شقائهم بإعطائهم ما هو ضد رغبتهم، كمكافأة لهم على محبتهم له؟!!

    ثانيًا: لا وجود للعبودية أو للتسلط في ملكوت السماوات:

    • آلام العبودية المرة ونيرها القاسي:

    لا يمكن أن يعيش العبد حياة الفرح، لأن ما يعانيه من مرارة وذل، وثقل العبودية يصير له مصدرًا للحزن، ولا يترك له مجالًا للفرح، إن السادة القساة يتسلطون على عبيدهم، ويسخرونهم مستخدمين التهديد والوعيد والعنف والإيذاء، ولا يراعون إمكانيات، أو ضعف عبيدهم الجسدي. هم يريدونهم أن يتموا ما ألزموهم به، حتى ولو كان ذلك في غير مقدورهم.

    لقد أذل فرعون مصر شعب الله، وسخرهم ليقوموا بأعمال مملكته بقسوة بالغة وصفها الكتاب بقوله: "وَمَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ فِي الطِّينِ وَاللِّبْنِ وَفِي كُلِّ عَمَل فِي الْحَقْلِ. كُلِّ عَمَلِهِمِ الَّذِي عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِمْ عُنْفًا"(خر14:1).

    • الخطيئة عبودية، حتى ولو كانت مجرد فكر شرير فقط:

    الخطية عبودية مُرَّة، وما يعانيه الإنسان الآن من أفكار شريرة تهاجم الكثيرين لا يعبر عن تمتع بالحرية؛ لأن هذه الأفكار الشريرة الضاغطة على إرادته تضايقه مستغلة الشهوة ولذة الخطية؛ فتسبب له آلامًا نفسية. إن الأفكار الشريرة، التي يثيرها عدو الخير لا تتوافق مع الطبيعة المقدسة، التي وهبها لنا الله. وقد يلح الفكر بشدة على الإنسان حتى يستغرق كليةً في خيال مريض شرير يحرمه من التفكير في أي شيء آخر مفيد، وفي النهاية يصنع الشر الذي ليس من طبيعته. فأين إذًا هذه الحرية؟!! ألا يعتبر ذلك جحيمًا؟  لقد صدق الكتاب المقدس حين وصف السقوط في الخطية بالعبودية، لأن السقوط هو سيادة وغلبة للشهوة والخطية على إرادة الإنسان.

    وقد أكد معلمنا بطرس الرسول هذا المفهوم قائلًا: "... لأَنَّ مَا انْغَلَبَ مِنْهُ أَحَدٌ، فَهُوَ لَهُ مُسْتَعْبَدٌ أَيْضًا!"(٢بط٢: ١٩). فهل من المنطقي أن يستعبد الإنسان ثانية للخطيئة في الملكوت؟!

    ثالثًا: مسرة قلب الله أن نكون أبناءً محبوبين له، لا عبيدًا مجبرين على طاعته:

    • بنوتنا لله:

    رفع الرب من قدر البشر فجعلهم أحباء له، وأعلمهم مشيئته، بل أعطى المؤمنين به نعمة التبني، وأمرنا أن ندعوه في الصلاة قائلين: "يا أبانا الذي في السماوات…".

    لقد أكد الرب هذا المفهوم صراحة قائلًا: "أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ. لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي"(يو١٥: ١٤- ١٥).. ولذلك لا يجبرنا الله على تقديم الصلوات، ولا على حياة القداسة، لكننا نجاهد لنحيا مقدسين حبًّا فيه.. وحينما نسبحه فذلك انفعالٌ قلبيٌّ حقيقيٌّ يشهد لحبه، وعظمة صنيعه معنا، وحينما نمجده فذلك إحساسٌ وإدراكٌ لعظمته، وهكذا…

    ·       طاعة الله تختلف تمامًا عن طاعة العبيد لسادتهم، لأنها تنبع من القلب:

    يطيع العبيد أسيادهم، لأن ذلك واجبٌ فرض عليهم، وإن لم يطيعوا يجبرهم أسيادهم على طاعتهم، وليس من الضروري أن يقتنع العبد بقيمة، وأهمية ما يعمله، لأن ذلك لا يخصه في شيء. أما العيش بقداسة فمن المستحيل أن يكون هكذا، لأن حب الله هوالدافع له، وذلك يحتاج أيضًا لعمل الروح القدس، الذي يُقنعنا بعظمة الحياة المقدسة. إنها طاعة من القلب كقول الكتاب: "فَشُكْراً ِللهِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيدًا لِلْخَطِيَّةِ، وَلكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا" (رو٦: 17).

    • الله يعطينا حق الحرية في تبعيته، لذلك يدخل معنا في عهد:

    جمع يشوع النبي الشعب - استجابة لأمر من الرب - وطلب منهم أن يقرروا من يختارون ليعبدوه: هل الرب أم آلهةأخرى؟ قائلًا لهم: "وَإِنْ سَاءَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا الرَّبَّ، فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ: إِنْ كَانَ الآلِهَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمُ الَّذِينَ فِي عَبْرِ النَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ آلِهَةَ الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ أَنْتُمْ سَاكِنُونَ فِي أَرْضِهِمْ. وَأَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ"(يش15:24).  فاختار الشعب عبادة الرب قائلين: "حَاشَا لَنَا أَنْ نَتْرُكَ الرَّبَّ لِنَعْبُدَ آلِهَةً أُخْرَى، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنَا هُوَ الَّذِي أَصْعَدَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالَّذِي عَمِلَ أَمَامَ أَعْيُنِنَا تِلْكَ الآيَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَحَفِظَنَا فِي كُلِّ الطَّرِيقِ الَّتِي سِرْنَا فِيهَا وَفِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَبَرْنَا فِي وَسَطِهِمْ"(يش٢٤: ١٦- ١٧). ولكن النبي أكد لهم أن تبعيات هذا الاختيار الحر هو العيش في قداسة، وطلب منهم عدم إغضاب الرب بالرجوع عن عهدهم مع الله قائلًا لهم: "وَإِذَا تَرَكْتُمُ الرَّبَّ وَعَبَدْتُمْ آلِهَةً غَرِيبَةً يَرْجعُ فَيُسِيءُ إِلَيْكُمْ وَيُفْنِيكُمْ بَعْدَ أَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ". فَقَالَ الشَّعْبُ لِيَشُوعَ: «لاَ. بَلِ الرَّبَّ نَعْبُدُ». فَقَالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: "أَنْتُمْ شُهُودٌ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ قَدِ اخْتَرْتُمْ لأَنْفُسِكُمُ الرَّبَّ لِتَعْبُدُوهُ". فَقَالُوا: «نَحْنُ شُهُودٌ"(يش٢٤: ٢٠- ٢٢)، ولهذا طالبهم النبي بنزع تماثيل الآلهة الغريبة قائلاً لهم: "فَالآنَ انْزِعُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي فِي وَسَطِكُمْ وَأَمِيلُوا قُلُوبَكُمْ إِلَى الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ". فَقَالَ الشَّعْبُ لِيَشُوعَ: "الرَّبَّ إِلهَنَا نَعْبُدُ وَلِصَوْتِهِ نَسْمَعُ". وَقَطَعَ يَشُوعُ عَهْدًا لِلشَّعْبِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، وَجَعَلَ لَهُمْ فَرِيضَةً وَحُكْمًا فِي شَكِيمَ"(يش٢٤: ٢٣- ٢٥).

    أما نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، فقد دعانا الربلندخل معه في عهد جديد مقدس بدم المسيح ابن الله، تاركًا الاختيار لمن يريد، ويمكن أن نرى ذلك بوضوح مما رواه لنا القديس يوحنا الإنجيلي، عن رجوع بعضٍ من تلاميذ الرب عن تبعيته بسبب عدم قبول تعاليمه المقدسة، ولكن الرب تركهم لحرية اختيارهم، بل أكثر من هذا التفت الرب مخاطبًا تلاميذه الاثنى عشر مؤكدًا أنه لا يجبر أحد على تبعيته قائلًا: "أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟"(يو67:6). ولكن الاثنى عشر تلميذًا القديسين أكدوا ثبات اختيارهم على فم معلمنا بطرس الرسول القائل: "فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ:"يَارَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ"(يو٦: ٦٨).

    • محبتنا لله هي السر وراء خضوعنا له:

    لقد أحبنا الله محبة أبدية وأعطانا نعمة البنوة. إننا نحبه، ولهذا يدفعنا الحب للخضوع له، وطاعته أكثر من طاعة العبيد، الذين يطيعون مجبرين. إن أبلغ مثال يبين الفرق بين طاعة العبد المجبر، وطاعة من يحب هو ما ذكره سفر التثنية عن العبد العبراني، الذي يفضل البقاء مع سيده حبًّا فيه فيصير له عبدًا مؤبدًا، وذلك بالرغم من انتهاء فترة عبوديته قائلًا: "وَلكِنْ إِذَا قَالَ لَكَ: لاَ أَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ. لأَنَّهُ قَدْ أَحَبَّكَ وَبَيْتَكَ، إِذْ كَانَ لَهُ خَيْرٌ عِنْدَكَ، فَخُذِ الْمِخْرَزَ وَاجْعَلْهُ فِي أُذُنِهِ وَفِي الْبَابِ، فَيَكُونَ لَكَ عَبْدًا مُؤَبَّدًا. وَهكَذَا تَفْعَلُ لأَمَتِكَ أَيْضًا"(تث١٥: ١٦- ١٧). لقد دعي معلمنا بولس الرسول نفسه عبد يسوع المسيح ليؤكد استعداده لخدمته بتفانٍ، كما يطيع العبيد الأمناء سادتهم.

    وقد أكد معلمنا بطرس الرسول أيضًا على وجوب خضوعنا، وطاعتنا لله، الذي نحبه بملء الحرية في بلاغة قائلًا: "لأَنَّ هكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ: أَنْ تَفْعَلُوا الْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ النَّاسِ الأَغْبِيَاءِ. كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ اللهِ"(١بط٢: ١٥- ١٦). أننا أبناء الملكوت نتمتع بحب، وغنى أبينا السماوي ونحبه؛ ولهذا نخضع له، ونطيعه.

    الخلاصة:

    • أورشليم السمائية المقدسة هي مسكن الله مع الناس:

    وعد الكتاب المقدس الأبرار بالحياة الدائمة مع الله، وقد وصفها الكتاب أنها مسكن الله مع الناس.. وأكد الكتاب أيضًا على حضور الله الدائم، وسكناه مع الأبرار قائلًا: "وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا:"هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ"(رؤ3:21).. ولكن الله هو القدوس، الذي لا يطيق الشر؛ ولهذا لن يكون هناك شر أو أشرار في أورشليم السمائية كقول الوحي الإلهي: "وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا، إِّلاَّ الْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ"(رؤ27:21). وأيضًا قول معلمنا بطرس الرسول: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ"(١بط١: ٣- ٤). نستنتج مما سبق أنه لن يكون في الأبدية شرٌ سواء بالفكر، أو بالحواس، أو بالفعل.

    • أورشليم السمائية مدينة الفرح والحرية:

    إن الأبرار في ملكوت أبيهم لا يُجبرون على حياة القداسة، ودليل ذلك فرحهم الدائم، وتسبيحهم، وتهليلهم عن طيب قلب كقول القديس يوحنا الرائي: "وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنِيمَةَ إِّلاَّ الْمِئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ اشْتُرُوا مِنَ الأَرْضِ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً ِللهِ وَلِلْخَرُوفِ. وَفِي أَفْوَاهِهِمْ لَمْ يُوجَدْ غِشٌّ، لأَنَّهُمْ بِلاَ عَيْبٍ قُدَّامَ عَرْشِ اللهِ"(رؤ١٤: ٣- ٥). فهل يمكن لإنسان مجبر يشتهي الشر، أو النجاسة أن يتهلل هكذا؟ لقد نفى النبي ذلك بقوله: "لم يستطع أحد أن يتعلم الترنيمة… إلخ…".

    إننا نخلص مما سبق شرحه أن طبيعة الخطية، حتى لو كانت فكرًا فقط لا تتماشى مع طبيعة الحياة الأبدية إطلاقًا