لآلام البشرية

  • إن كانت الخطية وراء آلام البشر، فلماذا يتألم الأبرار الذين لم يخطئوا؟

    الألم صفة ملازمة لبني البشر جميعاً، ولا يوجد في جنس البشر من لم يذق الألم يوماً ما. لقد عَرَفَ الوحي الإلهي البشر بأنهم تحت الآلام قائلاً عن إيليا النبي أعظم أنبياء العهد القديم: "كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَانًا تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى الأَرْضِ ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ" (يع٥: 17). في النقاط التالية نعرض لمنطقية الألم وشموليته لجنس البشر:

    أولاُ: انعدام البر بين بني البشر:

    أكد معلمنا القديس يوحنا الرسول أننا لسنا بلا خطية مؤكداً أن ذلك حق، وما هو غير ذلك كذب قائلاً : " إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا… إِنْ قُلْنَا: إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِبًا، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا. " ( ١يو١: ٨- ١٠). وأيضاً معلمنا بولس الرسول أكد ذلك بقوله: "الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ."(رو٣: ١٢).أما الرب يسوع القدوس فهو الوحيد الذي لم يعرف شر؛ لأنه القدوس الذي حبل به بالروح القدس، لذا قيل عنه: "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ" (١بط٢: ٢٢).

    ثانياً: الوراثة نظام وقانون الحياة:

    • الوراثة قانون طبيعي لجميع الأحياء:كل إنسان هو ابن لآدم، وذاك واقع لا اختيار لبشر فيه، ولهذا ورثت البشرية من أبيها آدم الطبيعة الفاسدة التي تخطئ كثيراً، والتي هي المسبب لكل ألم، وهذا ليس بغريب؛ فلا غرابة في مشابهة الابن لأبيه، بل ما يستحق العجب هو أن يوجد أبناء أبرار لأب البشرية آدم، فالأطفال تولد ومعهم الأنانية، وحب التملك، والغيرة من بعضهم البعض. لقد أنجب أبونا آدم ابناه قايين وهابيل بنفس طبيعته الفاسدة ، ولهذا قتل قايين أخاه هابيل بسبب غيرته وحسده له.
    • الميراث التراكمي، ومسئولية الآباء نحو أبنائهم:يرحب الإنسان بما يرثه من أبيه من ثروة، ويعتبر ذلك حقه الذي لايمكنه التنازل عنه، ويتأثر الابن أيضاً بأخلاق أبيه، التي تؤثر في تربيته، وفي صفاته الشخصية، وأيضاً في نفسيته بطريقة مباشرة، بل قد يتأثر الابن بعلم وأخلاق أبيه. وأيضاً بصيته وسمعته الطيبة، أو الرديئة. إن هذه الحقيقة تنطبق كذلك على المجتمعات والبلاد؛ فثمرة اجتهاد أفرادها وحضارتها تورثه لأجيالها المتعاقبة.

    أما المجتمعات المتخلفة فتورث أجيالها اللاحقة التخلف والفقر. إذاً هي مسئولية الآباء التي تقتضي، وتحتم عليهم السلوك بالصلاح، والقداسة خوفاً على فلذات أكبادهم (الأجيال القادمة). ولهذا حذر الرسول من نتائج الشر قائلاً: "مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ" (عب١٢: 15).

    ثالثاُ: قانون الوحدانية والشركة:

    • البشرية وحدة واحدة تتأثر ببعضها البعض: إن من يدعي أنه لم يخطئ يتناسى أن كل إنسان يرتبط بأب البشرية آدم، كما ترتبط كل أغصان الشجرة بجذعها، حتى وإن بعدت المسافة بين هذا الغصن وجزع الشجرة، وإن أي عطب في ساق أو جذع الشجرة يؤثر على أغصانها وثمارها .إن ما نراه تحت الميكروسوب من عينة لمادة حية، سواء من الجذع أومن الغصن يتطابق مع بعضه البعض من حيث إصابتها بأمراض النباتات أو سلامتها. لقد أوضح معلمنا بولس الرسول ما تسببه له هذه الطبيعة الفاسدة من أوجاع، وشقاء قائلاً: "وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" (رو٧: 23- 24). البشرية إذاً جسد واحد تأثر بمرض واحد (الخطية) ولهذا يتألم جميع أفراد هذا الجسد.
    • علم الاجتماع يشهد بمسئولية الفرد نحو من حوله: الألم ليس مسئولية الإنسان الشخصية فقط، ولكن المخطئ يضر بمن حوله. ويشهد علم الاجتماع بأن تزايد الأشرار، والفاسدين في مجتمع ما يسبب آلاماً كثيرة لأفراد ذلك المجتمع، والعكس صحيح. وعلى هذا إذاً لا غرابة أن يتألم البعض لشر وخطيئة غيرهم. ولهذا حذر سليمان الحكيم من مرارة وآلام الخطية قائلاً: "اَلْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنْ أَدَوَاتِ الْحَرْبِ. أَمَّا خَاطِئٌ وَاحِدٌ فَيُفْسِدُ خَيْرًا جَزِيلاً." (جا٩: ١٨).

    رابعاً: المشقة طبيعة أرضنا المادية:

    • أرض المشقة: العالم الحاضر أرض مشقة، وليس أرض راحة. لقد أكد الكتاب ذلك قائلاً: "وَلكِنَّ الإِنْسَانَ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ الْجَوَارِحَ لارْتِفَاعِ الْجَنَاحِ." (أي ٥: ٧).وأكد أيضاً على ضرورة احتمال المشقات بصبر في هذا العالم قائلاً: "خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً لاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَاةِ: الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ. هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ." (يع٥: ١٠- ١١).
    • الأبدية موضع الراحة والأفراح:.وعد الرب شعبه، وخائفيه بحياة أبدية جديدة مفرحة خالية من الأوجاع والآلام يسكن فيها البر واصفاً تلك الحياة قائلاً: "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ، وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ، لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ». (رؤ٧: ١٥- ١٧). إننا الآن نجاهد بطهارة، وصبر في أرض المشقة شاكرين لكي ننال المكافأة في الأبدية بحسب قول الكتاب: "فَلْنَجْتَهِدْ أَنْ نَدْخُلَ تِلْكَ الرَّاحَةَ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ أَحَدٌ فِي عِبْرَةِ الْعِصْيَانِ هذِهِ عَيْنِهَا." (عب٤: 11).
    • ألم المخاض: ليس بالضرورة أن يتألم الإنسان بسبب شره، ولكن هذا الكون يتسم بصفة الألم لصعوبة الحياة ومشقتها، أو قد تكون الآلام بسبب مقاومة الأشرار للأبرار لمنعهم من صنع الخير، وعن هذا النوع من الألم قال معلمنا بطرس الرسول: "وَلكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، فَطُوبَاكُمْ. وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ وَلاَ تَضْطَرِبُوا،" (١بط٣: 14). لقد أكد الرب يسوع أن مثل هذه الآلام، وما يصاحبها من حزن ستتحول إلى أفراح قائلاً: ".اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ" (يو١٦: ٢١).

    خامساُ: من هو الله، ومن هو الإنسان؟:

    • حكمة الله غير المدركة: إنها عظمة الله التي لا نستطيع إدراكها. ومن منا بمقدوره أن يخبر طفله الصغير كل ما يدركه من حقائق هذه الحياة،؟! وهل إن فعل ذلك سيدرك طفله ما يدركه هو من حقائق؟!. إنه لمن المنطقي أن يعترف الإنسان بقصوره وضعفه، وأن يثق في الله، ولا يخاصمه بحسبما علمنا الوحي الإلهي القائل:"... لأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنَ الإِنْسَانِ. لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟ لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا" (أي٣٣: ١٢- ١٣).
    • ثق في الله، وتمتع بإعلاناته: 16لايسعنا غير أن نقول إنها إرادة وحكمة الخالق، التي ليس بمقدورنا أن نلم بها تماماً، فنحن كبشر ليس لنا أن نتجرأ لنطالب الله بإعطائه لنا حساباً، أو تبريراً عما لا ندركه، لأن طبيعتنا قاصرة، ولا تستوعب المعرفة الكاملة. لقد سبق معلمنا بولس الرسول وأجاب على مثل هذه التساؤلات قائلاً:"بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا:«لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟».(رو٩: ٢٠). إن الله كأب حنون بحكمته قد يعلن للإنسان ما هو مناسب لفائدته، ويحجب عنه أيضاً ما هو ليس لفائدته، وقد شهد بذلك موسى النبي قائلاً:السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا، وَالْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِينَا إِلَى الأَبَدِ، لِنَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هذِهِ الشَّرِيعَةِ." (تث٢٩: ٢٩).
  • هل الخطيئة حقاً هي السبب لآلام البشرية؟ ولماذا لم يتدخل الله لمنع أبوينا الأولين من السقوط فيها؟ وكيف تتسبب الخطية في الآلام ؟

    إن الألم عرضٌ ناتج عن معرفة الإنسان للشر، وهو أيضاً صناعة بشرية خالصة، ومقياس صادق لا يخطئ (ثرموميتر) لشرور البشر وأنانيتهم. وكلما زاد بُعدَ البشر عن الله طبيب البشرية الصالح زاد فسادهم وشرورهم، وقلّ صلاحهم، وبالتالي كثرت آلامهم، والعكس صحيح، وذلك كشهادة الكتاب القائل: " وَتَعْبُدُونَ الرَّبَّ إِلهَكُمْ، فَيُبَارِكُ خُبْزَكَ وَمَاءَكَ، وَأُزِيلُ الْمَرَضَ مِنْ بَيْنِكُمْ. لاَ تَكُونُ مُسْقِطَةٌ وَلاَ عَاقِرٌ فِي أَرْضِكَ، وَأُكَمِّلُ عَدَدَ أَيَّامِكَ" (خر٢٣: ٢٥- ٢٦). يتضح من الشاهد السابق إن زوال البركة عن الأشرار هي سبب الكثير من الآلام، وأما بركة الله للإنسان فَتُرِيَحهُ وتُجَنِبَهُ الكثير من الأتعاب بحسب قول الحكيم:"بَرَكَةُ الرَّبِّ هِيَ تُغْنِي، وَلاَ يَزِيدُ مَعَهَا تَعَبًا" (أم ١٠: ٢٢). والآن دعنا أيها السائل العزيز نبين ذلك من خلال ما جاء في السؤال بالتتابع من خلال النقاط التالية:

    أولاً: الخطية وراء آلام البشرية:

    • ارتباط الألم بالخطية وفساد وشرالإنسان: بدراسة سفر التكوين نجد أن بداية آلام البشرية بدأت بالتعدي على وصية الله، بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر. لقد أحس أبونا آدم ولأول مرة بالاضطراب النفسي والخوف نتيجة لمخالفته لوصية الله، وهذا ما يؤكد ارتباط الخطية بالألم النفسي. لقد كانت إجابة أب البشرية على سؤال الله له : " أين أنت" هي: … «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ».( تك: ٣: ٩- ١٠). وهذه الإجابة تشهد على آثار ونتائج خطيته. إن أعظم دليل على أن أبونا آدم كان يستمد سلامه النفسي وسعادته من إرتباطه بالله هو خوفه وفقدانه للسلام بمجرد معاداته، ومخالفته لله. لقد كان ما عاناه أب البشرية من إضطراب، وخوف هو مقدمة لما عاناه البشرمن أوجاع وآلام فيما بعد.

    ثانياً: لم يمنع الله الإنسان من الخطأ حفاظاً على حريته:

    أن الألم هو النتيجة الحتمية للخطية، والتي فعلها الإنسان بكامل حريته الممنوحة له من الله. أما إذا منعه الله من الخطأ فكان لابد أن يسلبه نعمة الحرية والإرادة، وهذا بالطبع ما لا يُرضي الله، ولا يُرضي الإنسان المخلوق على صورة الله في الحرية والإرادة. إن مشيئة الله للإنسان هي خيره وسلامه، ولكن الإنسان رفض طريق الحياة، واختار طريق الموت والألم. لقد أكد إشعياء النبي هذه الحقيقة قائلاً: "لَيْتَكَ أَصْغَيْتَ لِوَصَايَايَ، فَكَانَ كَنَهْرٍ سَلاَمُكَ وَبِرُّكَ كَلُجَجِ الْبَحْرِ. وَكَانَ كَالرَّمْلِ نَسْلُكَ، وَذُرِّيَّةُ أَحْشَائِكَ كَأَحْشَائِهِ. لاَ يَنْقَطِعُ وَلاَ يُبَادُ اسْمُهُ مِنْ أَمَامِي." (إش٤٨: ١٨- ١٩).

    ثالثاً: كيف تسببت الخطية في آلام البشرية؟:

    • تأصل الخطية في البشر، أو فساد طبيعتهم: صار لأبوينا الأولين خبرة في معرفة الخير والشر بعد أن صدقا الحية وأطاعاها. وقد أثرت هذه الخبرة السيئة سلبياً على سلوكهما وحياتهما، وذلك لأن الإنسان حينما يقع تحت تأثير الخطية يعتاد عليها بسهولة، ثم تتحول فيه إلى طبع يتحكم فيه، فلا يقدر التوقف عنها، حتى لو كانت تسبب له ضرراً. وأبسط دليل على ذلك هو: أن الناس كثيراً ما يذكرون عيوب بعضهم البعض، وكأنها طبيعة فيهم، وليس كأنها شيئاً عارضاً فيقولون مثلاً: فلان طبعه أناني، أو أنه مراوغ ومخادع، أو عنيف، أو شهواني، أو... ،أو...
    • الخطية تُفقِدُ الإنسان سلامه: بتحول الخطية إلى طبيعة في الإنسان وُجد الصراع في قلبه بين الخير الذي خُلِقَ عليه، والشر الذي أصبح واقعاً في حياته، ولكن الشر أكثر قبولاً للإنسان الطبيعي من الخير. كقول الكتاب: «الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ». (أم٩: ١٧). لقد تملك الشر على الإنسان، حتى أنه إذا أراد فعل الخير يجد الشر حاضراً أمامه ويمنعه أيضاً عن صنع الخير. إن فعل الحق والبر للإنسان الطبيعي يحتاج منه لصراع وجهاد، وهذا بعكس صنع الشر الذي صار سهلاً وميسوراً، كقول الكتاب: " لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ. إذًا أَجِدُ النَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى أَنَّ الشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي." (رو٧: ١٩- ٢١).
    • البغضة والأنانية وراء الكثير من الآلام: لقد صار الانسان مُستَعبداً للخطية والشر، وبالتالي زادت آلام البشرية بازدياد شرور الناس، فُوجد الطمع والغيرة والحسد والشهوة التي أدت إلى العنف والإيذاء و....و...، وكلما زاد شر الإنسان زاد إبتعاده عن الله القدوس، وبالتالي صار يطلب شهوته ولذته ويبحث عن ذاته في كبرياء، ففقد النعمة الإلهية. لقد اتخذ من الشيطان مُلهِماً وسيداً له، بل صار الشيطان هو رئيس هذا العالم الذي يقود الناس في طريق الفساد وهكذا ملأ الغم والألم الناس.
    • شر الناس وإيذاؤهم لبعضهم البعض مصدر أساسي للألم: بتحكم الشر في البشرية اصطدم البشر بعضهم ببعض، ولم يراعِ الإنسان انسجامه، واتفاقه، ووحدانيته مع إخوته من البشر. لقد تمكنت الكراهية والبغضة من قلوب الكثيرين من أبناء البشر نحو إخوتهم، حتى تخلى الكثيرون عن محبتهم لإخوتهم، وصار لسان حالهم قول قايين لله بعد قتله لأخيه: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟»، ومع ازدياد شر الناس زادت العداوة والقتل بين البشر، وقامت الصراعات والحروب بين الأفراد، والعائلات، والقبائل، والشعوب، والدول، واخترع البشر الأسلحة الفتاكة المدمرة، والتي تركت آثارها على صحة البشر لأجيال متلاحقة، بل أكثر من هذا أثرت على الطبيعة نفسها كما هو الحال في استخدام الأسلحة النووية. إنها الذات وعدم المحبة علة الشقاء والألم.
    • فساد الطبيعة والألم الجسدي: بدأ الألم الجسدي يزحف إلى جسد أبوينا الأولين مع سريان الحكم الإلهي بالموت، وذلك بعدما كسرا وصية الله وأصبحا مستحقين للموت بحسب القول الإلهي: "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ» (تك٢: ١٧)، ومع أنهما لم يموتا في الحال، لكن الموت بدأ يعمل فيهما تدريجياً من خلال الضعف والشيخوخة التي زحفت إلى كل خلية من خلايا جسديهما، ومنذ ذلك الوقت أصبح الإنسان معرضاً لأنواع كثيرة من الأمراض، وبالتالي دخله الألم الجسدي كنتيجة للخطية، والذي لا نهاية له سوى بانفصال روح الإنسان من جسده، (أي بموته).   
    • الأمراض العضوية، والاضطرابات النفسية تسري في جسد البشرية: إن الجينات الوراثية التي تحمل صفاتنا الجسمانية مصدرها واحد وهو أبوينا الأولين، ومع دخول الخطية وطمع الإنسان، وما سببه ذلك من اختراعات صناعية وحربية تأثرت البيئة الطبيعية المحيطة بنا بعوامل صناعية كثيرة، وهذا بدوره له تأثيره الضار على الجينات الوراثية للإنسان، وهكذا ظهرت أمراض عضوية كثيرة مستحدثة، توارثتها الأجيال المتعاقبة، وبالطبع صاحب الألم تلك الأمراض. إن عامل الوراثة يؤثر أيضاً في انتقال الأمراض النفسية من الآباء إلى الأبناء كما في انتقال الأمراض العضوية.
    • الأرض الملعونة سبب لآلام وشقاء البشرية: خُلق الإنسان ليكون سيداً للخليقة كلها، لكنه بخطيته وشره أضر بالطبيعة التي أصبحت ملعونة بسببه بحسب قول الرب: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِك. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ». (تك ٣: ١٧- ١٩). ومن ذلك الحين لم تعد الأرض تعطيه قوتها. لقد صارت الأرض الملعونة ضمن 14أسباب شقائه. أما الحيوانات والبهائم فقد كانت خاضعة لأبونا آدم الذي أعطاها أسماءها، ولكن ذلك لم يدم بعد الخطية، لأن الكثير منها أصبح مفترساً للإنسان بحسب قول قايين القاتل: "... : «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَل. إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي"(تك ٤: ١٣- ١٤).

    رابعاً: هل نشترك مع الله الحنون في رفع آلام البشر ولا تكون سبباً في مضاعفتها؟:

    أشفق الله على البشرية، وأعطاها إمكانيات كثيرة لتبرأ من آلامها، ولكن الكثير من الناس يتقاعسون، ولا يستخدمون تلك الإمكانيات  لتخفيف آلام إخوتهم من البشر مضاعفين آلام أنفسهم بشرهم، وعدم محبتهم لبعضهم البعض وفيما يلي نذكر بعض هذه الإمكانات:

    • المشاعر والأحاسيس الطبيعية والتي وضعها الله في قلوب البشر: وضع الله هذه الأحاسيس النبيلة لتدفع الناس للإحساس بآلام المرضى، والمساكين، والفقراء، والمشردين، والمعاقين، والمنكوبين لنخدمهم ونهتم بهم. لقد أكد الرب في مثل السامري الصالح أهمية الإحساس بالآخرين ومسئوليتنا نحو إخوتنا المنكوبين. وفي هذا المثل فضح الرب خطية البشرية التي لا تشعر بآلام أفرادها في صورة الكاهن واللاوي، اللذين لم يكترثا بالرجل المجروح والمتألم بقوله: "فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِنًا نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضًا، إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ" (لو ١٠: ٣١- ٣٢). إن الرب يريدنا كلنا أن نشعر، ونتفاعل مع إخوتنا مثله، وذلك كقول الكتاب: "فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ. مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا، غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِالأُمُورِ الْعَالِيَةِ بَلْ مُنْقَادِينَ إِلَى الْمُتَّضِعِينَ. لاَ تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ" (رو ١٢: ١٥- ١٦).
    • الإنسان وكيل الله على كل الإمكانيات والطاقات المعطاة لخدمة البشرية: أعطى الله البشرية طاقات وإمكانيات جبارة لتحيا بها. لقد استأمن الله البشر على الكثير من الخيرات، سواء كانوا أفراد أو جماعات أو دول، وعندما استخدم البشر تلك الإمكانيات لحساب الخير عم السلام والفرح. لقد خفف النبلاء من البشر آلام إخوتهم بإقامتهم المستشفيات ودورالرعاية للاهتمام بالأيتام والمسنين والمشردين، وأيضاً بذهابهم في رحلات شاقة إلى بلاد لم يعرفوها بحثاً عن المتألمين والفقراء والمعذبين، وكم أيضاً صنعوا خيراً باختراعاتهم واكتشافاتهم العلمية المفيدة و… و… و… لقد اقتدوا بالرب يسوع الطبيب الشافي، وخادم البشرية الحنون والمتضع

    الذي قيل عنه: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا" (مت٩: ٣٥-٣٦).

    الخلاصة:

    إن الألم صناعة بشرية خالصة، لأنه ثمرة شر الإنسان، ولكن الله كطبيب شفوق وضع بين أيدي البشر الكثير من الإمكانيات لتفادي آلام إخوتهم، أو على الأقل تخفيفها، ولكن على البشر أولاً أن يمتلئوا حباً بعضهم نحو بعض وأن يستغلوا الإمكانيات الموهوبة لهم من الله في خدمة البشر إخوتهم بحسب وصية الله القائلة: " فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ." (غل ٦: ١٠).

    أما العكس فهو الشر بعينه من كبرياء البشر وأنانيتهم، وطمعهم الذي يتسبب في الحروب والإيذاء للآخرين، وعدم مد يد الحب للشعوب الفقيرة، وهذا بخلاف الحروب والعنف، وما ينتج عنها من قتل للآلاف بل للملايين من البشر، وما تتركه وراءها هذه الحروب من تشريد، وتجويع، وأمراض، بل تدمير وإفساد للطبيعة الجامدة.