الألم صفة ملازمة لبني البشر جميعاً، ولا يوجد في جنس البشر من لم يذق الألم يوماً ما. لقد عَرَفَ الوحي الإلهي البشر بأنهم تحت الآلام قائلاً عن إيليا النبي أعظم أنبياء العهد القديم: "كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَانًا تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى الأَرْضِ ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ" (يع٥: 17). في النقاط التالية نعرض لمنطقية الألم وشموليته لجنس البشر:

أولاُ: انعدام البر بين بني البشر:

أكد معلمنا القديس يوحنا الرسول أننا لسنا بلا خطية مؤكداً أن ذلك حق، وما هو غير ذلك كذب قائلاً : " إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا… إِنْ قُلْنَا: إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِبًا، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا. " ( ١يو١: ٨- ١٠). وأيضاً معلمنا بولس الرسول أكد ذلك بقوله: "الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ."(رو٣: ١٢). أما الرب يسوع القدوس فهو الوحيد الذي لم يعرف شر؛ لأنه القدوس الذي حبل به بالروح القدس، لذا قيل عنه: "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ" (١بط٢: ٢٢).

ثانياً: الوراثة نظام وقانون الحياة:

  • الوراثة قانون طبيعي لجميع الأحياء: كل إنسان هو ابن لآدم، وذاك واقع لا اختيار لبشر فيه، ولهذا ورثت البشرية من أبيها آدم الطبيعة الفاسدة التي تخطئ كثيراً، والتي هي المسبب لكل ألم، وهذا ليس بغريب؛ فلا غرابة في مشابهة الابن لأبيه، بل ما يستحق العجب هو أن يوجد أبناء أبرار لأب البشرية آدم، فالأطفال تولد ومعهم الأنانية، وحب التملك، والغيرة من بعضهم البعض. لقد أنجب أبونا آدم ابناه قايين وهابيل بنفس طبيعته الفاسدة ، ولهذا قتل قايين أخاه هابيل بسبب غيرته وحسده له.
  • الميراث التراكمي، ومسئولية الآباء نحو أبنائهم: يرحب الإنسان بما يرثه من أبيه من ثروة، ويعتبر ذلك حقه الذي لايمكنه التنازل عنه، ويتأثر الابن أيضاً بأخلاق أبيه، التي تؤثر في تربيته، وفي صفاته الشخصية، وأيضاً في نفسيته بطريقة مباشرة، بل قد يتأثر الابن بعلم وأخلاق أبيه. وأيضاً بصيته وسمعته الطيبة، أو الرديئة. إن هذه الحقيقة تنطبق كذلك على المجتمعات والبلاد؛ فثمرة اجتهاد أفرادها وحضارتها تورثه لأجيالها المتعاقبة.

أما المجتمعات المتخلفة فتورث أجيالها اللاحقة التخلف والفقر. إذاً هي مسئولية الآباء التي تقتضي، وتحتم عليهم السلوك بالصلاح، والقداسة خوفاً على فلذات أكبادهم (الأجيال القادمة). ولهذا حذر الرسول من نتائج الشر قائلاً: "مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ" (عب١٢: 15).

ثالثاُ: قانون الوحدانية والشركة:

  • البشرية وحدة واحدة تتأثر ببعضها البعض: إن من يدعي أنه لم يخطئ يتناسى أن كل إنسان يرتبط بأب البشرية آدم، كما ترتبط كل أغصان الشجرة بجذعها، حتى وإن بعدت المسافة بين هذا الغصن وجزع الشجرة، وإن أي عطب في ساق أو جذع الشجرة يؤثر على أغصانها وثمارها .إن ما نراه تحت الميكروسوب من عينة لمادة حية، سواء من الجذع أومن الغصن يتطابق مع بعضه البعض من حيث إصابتها بأمراض النباتات أو سلامتها. لقد أوضح معلمنا بولس الرسول ما تسببه له هذه الطبيعة الفاسدة من أوجاع، وشقاء قائلاً: "وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" (رو٧: 23- 24). البشرية إذاً جسد واحد تأثر بمرض واحد (الخطية) ولهذا يتألم جميع أفراد هذا الجسد.
  • علم الاجتماع يشهد بمسئولية الفرد نحو من حوله: الألم ليس مسئولية الإنسان الشخصية فقط، ولكن المخطئ يضر بمن حوله. ويشهد علم الاجتماع بأن تزايد الأشرار، والفاسدين في مجتمع ما يسبب آلاماً كثيرة لأفراد ذلك المجتمع، والعكس صحيح. وعلى هذا إذاً لا غرابة أن يتألم البعض لشر وخطيئة غيرهم. ولهذا حذر سليمان الحكيم من مرارة وآلام الخطية قائلاً: "اَلْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنْ أَدَوَاتِ الْحَرْبِ. أَمَّا خَاطِئٌ وَاحِدٌ فَيُفْسِدُ خَيْرًا جَزِيلاً." (جا٩: ١٨).

رابعاً: المشقة طبيعة أرضنا المادية:

  • أرض المشقة: العالم الحاضر أرض مشقة، وليس أرض راحة. لقد أكد الكتاب ذلك قائلاً: "وَلكِنَّ الإِنْسَانَ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ الْجَوَارِحَ لارْتِفَاعِ الْجَنَاحِ." (أي ٥: ٧). وأكد أيضاً على ضرورة احتمال المشقات بصبر في هذا العالم قائلاً: "خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً لاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَاةِ: الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ. هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ." (يع٥: ١٠- ١١).
  • الأبدية موضع الراحة والأفراح:.وعد الرب شعبه، وخائفيه بحياة أبدية جديدة مفرحة خالية من الأوجاع والآلام يسكن فيها البر واصفاً تلك الحياة قائلاً: "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ، وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ، لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ». (رؤ٧: ١٥- ١٧). إننا الآن نجاهد بطهارة، وصبر في أرض المشقة شاكرين لكي ننال المكافأة في الأبدية بحسب قول الكتاب: "فَلْنَجْتَهِدْ أَنْ نَدْخُلَ تِلْكَ الرَّاحَةَ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ أَحَدٌ فِي عِبْرَةِ الْعِصْيَانِ هذِهِ عَيْنِهَا." (عب٤: 11).
  • ألم المخاض: ليس بالضرورة أن يتألم الإنسان بسبب شره، ولكن هذا الكون يتسم بصفة الألم لصعوبة الحياة ومشقتها، أو قد تكون الآلام بسبب مقاومة الأشرار للأبرار لمنعهم من صنع الخير، وعن هذا النوع من الألم قال معلمنا بطرس الرسول: "وَلكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، فَطُوبَاكُمْ. وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ وَلاَ تَضْطَرِبُوا،" (١بط٣: 14). لقد أكد الرب يسوع أن مثل هذه الآلام، وما يصاحبها من حزن ستتحول إلى أفراح قائلاً: ".اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ" (يو١٦: ٢١).

خامساُ: من هو الله، ومن هو الإنسان؟:

  • حكمة الله غير المدركة: إنها عظمة الله التي لا نستطيع إدراكها. ومن منا بمقدوره أن يخبر طفله الصغير كل ما يدركه من حقائق هذه الحياة،؟! وهل إن فعل ذلك سيدرك طفله ما يدركه هو من حقائق؟!. إنه لمن المنطقي أن يعترف الإنسان بقصوره وضعفه، وأن يثق في الله، ولا يخاصمه بحسبما علمنا الوحي الإلهي القائل:"... لأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنَ الإِنْسَانِ. لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟ لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا" (أي٣٣: ١٢- ١٣).
  • ثق في الله، وتمتع بإعلاناته: 16لايسعنا غير أن نقول إنها إرادة وحكمة الخالق، التي ليس بمقدورنا أن نلم بها تماماً، فنحن كبشر ليس لنا أن نتجرأ لنطالب الله بإعطائه لنا حساباً، أو تبريراً عما لا ندركه، لأن طبيعتنا قاصرة، ولا تستوعب المعرفة الكاملة. لقد سبق معلمنا بولس الرسول وأجاب على مثل هذه التساؤلات قائلاً:"بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا:«لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟».(رو٩: ٢٠). إن الله كأب حنون بحكمته قد يعلن للإنسان ما هو مناسب لفائدته، ويحجب عنه أيضاً ما هو ليس لفائدته، وقد شهد بذلك موسى النبي قائلاً:السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا، وَالْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِينَا إِلَى الأَبَدِ، لِنَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هذِهِ الشَّرِيعَةِ." (تث٢٩: ٢٩).