المزمور الثالث والثمانون

أعداء من كل جانب

 

يبدأ المزمور في شكل مرثاة جماعية، لكن تنتهي المرثاة عادة بتسبحة تمجد الله وتشكره على عمله مع شعبه وسط ضيقتهم. وقد اختلف الدارسون على المناسبة التي فيها وُضع هذا المزمور. كثيرون يرون أنه يناسب ما ورد في 2 أي 20 بخصوص تحالف كثير من الأمم ضد يهوشفاط. التجأ الملك إلى الله، حيث نادى بصومٍ في كل يهوذا، واجتمع يهوذا ليسألوا الرب. ووقف يهوشفاط في جماعة يهوذا وأورشليم في بيت الرب أمام الدار الجديدة، وصلى إلى الرب طالبًا تدخله، وبالفعل أنقذهم الرب بيدٍ قويةٍ وذراعٍ رفيعةٍ.

إنها قصة الكنيسة في كل العصور، بل وقصة كل مؤمنٍ حقيقيٍ حيث يثور عدو الخير عليه، ويُثير قوات الظلمة ضده، لكن الله يهبه النصرة.

يرى آدم كلارك أن هذا المزمور يتناسب مع التحالف الذي تم ضد يهوشفاط ملك يهوذا للأسباب التالية:

1.   أن أولاد عمون يمثلون العنصر الرئيسي في الحرب.

2.   مجيء أدوم لمساندتهم (2 أي 20: 1، 22؛ مز 83: 8).

3.   تحالف كثير من الغرباء من سوريا وما وراء البحر الميت الإسماعيليين وأبناء هاجر (مز 83: 7-8).

4.   ظهور يحزيئيل من بني آساف يعلن أن الحرب لله وليس للملك والشعب (1 أي 20: 14-15). ربما يكون هو نفسه واضع هذا المزمور.

1. صرخة لله               1.

2. تحالف شرير            2-5.

3. أسماء المتحالفين      6-8.

4. توسل للخلاص         9-17.

5. النصرة لمجد الله       18.

 

العنوان

تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لآسَافَ

هذا هو المزمور الأخير من مزامير آساف. يوجد تشابه كثير بين ما ورد في هذا المزمور المنسوب لآساف، وبين ما ورد في أخبار الأيام الثاني (ص20)، مما دعا بعض الدارسين أن يعتقدوا بأن آساف المذكور هنا هو يحزيئيل الوارد في أخبار الأيام الثاني.

مع أن هذا المزمور يحمل طابع مرثاة جماعية، لكنه دُعي "تسبحة".

 

1. صرخة لله

اَللهُمَّ لاَ تَصْمُتْ لاَ تَسْكُتْ،

وَلاَ تَهْدَأْ يَا اللهُ [1].

جاء عن الترجمة السبعينية: "اللّهم من الذي يشبهك يا الله. لا تسكت ولا تهدأ يا الله" [1].

v     إذ لا يوجد من هو مثلك، فإننا لا نتطلع إلى خالقٍ غيرك. "لا تسكت يا الله، ولا تهدأ". نحن صامتون، فلتشفع لحسابنا. هذا هو صوت الإنسان البار، إذ يقول: "لا تسكت يا الله" وهو في سلامٍ مع ضميره[1].

القديس جيروم

إذ يرى المرتل الأعداء وقد تحالفوا معًا ضد الله يقاومون شعبه في هياج ومرج، فإن الأمر يحتاج إلى مجرد كلمة من فم الله. لهذا يصرخ المرتل: "اللّهم لا تصمت لا تسكت ولا تهدأ يا الله" [1]. كثيرًا ما يبدو الله كأنه صامت لا يبالي بكل هياج الأعداء. فيقف المؤمن في حيرة. إن كان الله يبدو كمن هو في صمت إنما لكي لا نصمت نحن، بل نلح على الله أن يتكلم، حتى يقوم وينتهر الرياح، فيصير هدوء عظيم (مت 8: 24 الخ).

v   من يشبهك يا الله. ليس أحد مثلك. "اللهم لا تصمت، لا تسكت". إنه رجل الكنيسة الذي يتكلم، إنسان من داخله تفيض أنهار مياه حية (يو 7: 38). إنه يرى حصادًا عظيمًا وفعلة قليلين. حشود من المؤمنين، ولكن قلة من المعلمين يقومون بتعليمهم؛ كثير من الهراطقة، وكثير من المقاومين، وقلة من الجنود المحاربين لحساب المسيح. "اللهم لا تصمت، لا تسكت"[2].

القديس جيروم

v     اللهم من الذي يشبهك (يماثلك)... إن المماثلة تكون في الجوهر وفي الكيفية... الله ليس له شبيه في الجوهر، أعني الآب والابن والروح القدس الثلاثة أقانيم حيث لا يوجد خلاف في الجوهر، إذ هم لاهوت واحد ذات ثلاثة أقانيم... أما المماثلة بحسب الكيفية فيمكن أن يُدعى الصديقون مماثلين لله، ولكن مماثلتهم له ليست طبيعية فيهم، بل بتناول نعمة منه. أعني أن الله قدوس وعادل وديان ومهما يُقَال فيه من هذه الصفات فهي موجودة فيه طبيعية لا بالاكتساب. ويُدعى الإنسان بهذه الصفات لكنها ليست فيه طبيعية بل هي اكتسابية جزئية.

إذن يقول النبي: من يماثلك يا الله جوهريًا. وأما قوله: "لا تسكت"، فمعناه لا تعد تتمهل وتطيل أناتك على الأشرار بل أسرع للانتقام منهم.

الأب أنثيموس الأورشليمي

 

2. تحالف شرير

فَهُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَعِجُّونَ،

وَمُبْغِضُوكَ قَدْ رَفَعُوا الرَّأْسَ [2].

لا يهدأ الأعداء، بل يعجُّون، أي يجتمعون معًا في حالة اضطرابٍ وهياجٍ. إنهم كذئاب جائعة تود أن تلتهم شعب الله كقطيع غنمٍ. يرفع العدو رأسه في تشامخ ضد الله نفسه، كمن قد انتصر عليه.

يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن ما ورد هنا هو نبوة لما سيحدث بعد ذلك عندما يسمح كورش ملك فارس ببناء الهيكل والمدينة، حيث تهيج الأمم عليهم، لكن الله أعطى نعمة لزرُبابل للتغلب عليهم.

يتسم المقاومون لكنيسة الله بالآتي:

أولًا: يصرخون في ضجيج عال،ٍ لكن كما بلغة غير مفهومة، لأنهم غير متعقلين. إنهم يحملون العداوة بلا سببٍ حقيقيٍ.

ثانيًا: متشامخون، يرفعون رؤوسهم على الرب نفسه، كما على مؤمنيه، بينما يقول الرب: "تعلموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). أما الإنسان المتشامخ فيتبع ذاك القائل: "أصعد إلى السماوات، أرفع كرسي فوق كواكب الله، وأجلس على جبل الاجتماع في الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العليّ" (إش 14: 13-14).

ثالثًا: يدبرون مؤامرات بخبثٍ ومكرٍ، ضد أولئك الذين هم تحت حماية الله. يريدون استئصال كنيسة الله تمامًا ومحو اسمها.

يلاحظ القديس أغسطينوس أن المرتل لم يقل: "رفعوا الرؤوس"، إنما "رفعوا الرأس"، كأن الأعداء قد بلغوا إلى هذه النقطة حيث يتجمع الكل حول رأسٍ واحدٍ. هذا الرأس الذي قيل عنه: "المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا" (2 تس 2: 4). فإن كان هذا المزمور هو صرخة تخرج من قلب الكنيسة كلها، فإنها تصرخ عند مجيء ضد المسيح الذي في تشامخه "يجلس في هيكل الله كإله، مظهرًا نفسه أنه إله" (2 تس 2: 4). يجتمع كل الأشرار تحت لواء ضد المسيح لمقاومة الكنيسة في كل الأرض. تطلب الكنيسة من إلهها ألاّ يصمت، فقد بلغت الضيقة أشدها، وظن ضد المسيح أنه ليس من إله يقدر أن يقف أمامه.

v   هوذا أعداؤك يعجون (في شغبٍ). الآن يتكلم الهراطقة، بينما يحتفظ الكنسيون بسلامهم. هم يصنعون هياجًا، ونحن نسكت. هم يجدفون، ونحن لا نغضب... حسنًا يقول: "يعجون"، ولكن ما يقدمونه هو مجرد ضوضاء وارتباك وتمزيق.

"ومبغضوك قد رفعوا الرأس". جموع الهراطقة عدد ضخم، وأما عدد الذين يؤمنون بك فقليلون[3].

v     ينطقون بكلمات، بتأكيد كمن يشجبونني. لكن ما أسمعه ليس بصوت نهائيًا إنما هو ضجيج[4].

القديس جيروم

عَلَى شَعْبِكَ مَكَرُوا مُؤَامَرَةً،

وَتَشَاوَرُوا عَلَى أَحْمِيَائِكَ [3].

يُجمع أعداء الرب على محاربة المؤمنين، ويلجأون إلى الخداع والخبث لتدبير مؤامرات ضدهم. لهذا يطلب المؤمنون من الله أن يحفظهم ويحميهم.

يعلق القديس أغسطينوس على كلمة "يعجُّون" [2] أو "تَشَاوَرُوا" [3] أي يعطون صوتًا، أي ضجيجًا أكثر منه حديثًا أو حوارًا. فالأعداء يقاومون الكنيسة بروح العنف والضجيج ووضع مؤامرات دون تعقلٍ أو فهمٍ أو حوارٍ.

v   على شعبك فكروا مؤامرة". يقولون إنهم يودون أن يفتنوا كنيستك. "تشاوروا على قديسيك"، يومًا فيومًا لا يفكرون في شيءٍ سوى كيف يعثرون رجال الكنيسة الذين لك ويسقطونهم في شرك[5]ٍ.

القديس جيروم

قَالُوا: هَلُمَّ نُبِدْهُمْ مِنْ بَيْنِ الشُّعُوبِ،

وَلاَ يُذْكَرُ اسْمُ إِسْرَائِيلَ بَعْدُ [4].

إن كان إسرائيل هنا يشير إلى الكنيسة بكونها إسرائيل الجديد، فإن العدو وهو عاجز عن إبادتها من العالم يعلن عما في قلبه "لا يُذكر اسم إسرائيل بعد" (مز 83: 4). هذا ما سيحدث عندما يستشهد النبيان في أخر الأيام، إذ قيل: "ويشمت بهما الساكنون على الأرض، ويتهللون ويرسلون هدايا بعضهم لبعض" (رؤ 11: 10).

لن يطلب العدو أقل من أن يبيدوا شعب الله تمامًا ولا يعود لهم ذكر بعد.

v   "يقولون: هلم نحطم أمتهم"... كما أن هيرودس وبيلاطس – كمثالٍ – اللذين كانا عدوين صارا في سلامٍ معًا لاضطهاد المسيح، وصارا أكثر رعبًا في صداقتهما عما كانا عليه في عداوتهما، هكذا الهراطقة مختلفون فيما بينهم في شرورهم، يتحالفون معًا لممارسة شرٍ أعظم[6].

القديس جيروم

لأَنَّهُمْ تَآمَرُوا بِالْقَلْبِ مَعًا.

عَلَيْكَ تَعَاهَدُوا عَهْدًا [5].

يتحالف الأعداء معًا حتى يصيروا كمن لهم قلب واحد، وغاية واحدة، هي إبادة شعب الله. كما فعلت كل القيادات ضد السيد المسيح.

يرى القديس أغسطينوس أن الأشرار المقاومين لكنيسة الله يقيمون فيما بينهم عهدًا ليكونوا أكثر قوة، يحملون روح الوحدة في الشر.

v   "تآمروا بذهنٍ واحدٍ معًا". يا لنا من خلائق تعيسة، شعب الله غير السعيد، إذ لا يمكننا أن نتحد معًا حسنًا كما يتحالف صانعو الشر في الشر[7].

v   "عليك تعاهدوا عهدًا". لقد تكلمت معنا خلال الأنبياء؛ وهؤلاء خلال ماني ومرقيون وآريوس وفالنتينوس[8].

القديس جيروم

3. أسماء المتحالفين

خِيَامُ أَدُومَ وَالإِسْمَاعيلِيِّينَ.

مُوآبُ وَالْهَاجَرِيُّونَ [6].

يذكر المرتل هنا أسماء الأمم المقاومة للكنيسة. ويرى القديس جيروم أن عدد الأمم المقاومة لله هو 11، إذ لا يقدرون البلوغ إلى رقم 12 رقم الكمال. وكما سبق أن أشرنا في مواضع كثيرة أن رقم 12 يشير إلى مملكة الله على الأرض، حيث يؤمن البشر في أربعة جهات المسكونة (رقم 4) بالثالوث القدوس (رقم 3)، فالمحصلة لضرب رقمي 4,3 هي 12.

يرى كل من القديس أغسطينوس والقديس جيروم أن اسم كل أمة منها يشير إلى طبيعة المقاومين وقد جاء التفسير يكاد يكون متقاربًا، لهذا فضلت تقديم تفسير يضم ما ورد في الاثنين منعًا من التكرار:

أ‌.       الأدوميون، وتفسيرهم "رجال الدماء" أو "رجال الأرض". قيل: "خيام أدوم" إذ لا يعيش الأدوميون في بيوت ثابتة لها أساسات، إنما في خيامٍ تتحرك بسهولة من موضع إلى موضعٍ.

ب‌. "الإسماعيليون" ومعناها "الذين يسمعون لأنفسهم، ويتظاهرون أنهم يسمعون لله. يمثلون من هم ناموس لأنفسهم، يخضعون لشهواتهم الشريرة. وكما جاء في حزقيال: "يا ابن آدم، تنبأ على أنبياء إسرائيل... هم أنبياء من تلقاء ذواتهم... ويل للأنبياء الحمقى الذاهبين وراء روحهم ولم يروا شيئًا" (حز 13: 2-3).

ج. "موآب" أي من الآب، هذا الذي ولد كثمرة علاقة بين لوط (الأب) وابنته، أي علاقة غير شرعية، وغير مقدسة.

v   "خيام أدوم والإسماعيليين". ما أن نترك المفهوم التاريخي العادي ونلتزم بأسلوب التفسير السامي، التفسير الرمزي، ففي الحقيقة ببساطة يتحدث اليهود عن أمم أخرى يناضلون ضدهم، ليكن هذا، لكن هذا يحدث معنا خلال الرمز. إسرائيل هوجمت، ونصرتها هي نفع لنا. لنتأمل من هم الأعداء الذين يحاربون ضد الكنيسة.

"خيام أدوم"، ترجمة كلمة "أدوم" هي "الأرضي". وكلمة "خيام" تعبَّر حسنًا، لأن الأدوميين ليس لهم أساسات ثابتة، وليس لهم بيوت، وإنما لهم خيام فقط، مساكنهم ليست ثابتة، وإنما دائمًا مؤقتة.

"خيام أدوم والإسماعيليين". معنى الإسماعيليين "لهم مظهر المستمعين"... فهم لا يبالون بالله، بل يعبرون عنه...

اسم "موآب" معناه "من الأب". إنهم ليسوا في الأب بل من الأب، لأنهم هجروا أباهم الأول.

"الهاجريون" هؤلاء الذين كانوا قبلًا مواطنين وصاروا بعد ذلك غرباء. لم يعودوا بعد أهل البيت بل غرباء. الغرباء في الحقيقة يهاجمون بيت أبيهم[9].

القديس جيروم

جِبَالُ وَعَمُّونُ وَعَمَالِيقُ.

فَلَسْطِينُ مَعَ سُكَّانِ صُورٍ [7].

هـ. "جِبال": وهي جزء من أدوم شرق البحر الميت. معناها وادي عقيم بلا ثمر أو فارغ. فإن "جي" معناها وادي، و"بال" معناها فارغ. فإن أعداء شعب الله ليسوا من الجبال، وإنما من الوادي العقيم.

و."عمون" أي "شعب غير هادئ" ، أو "شعب الحزن".: تشير إلى شعب مرتبك يضعون ثقتهم في الغوغاء وليس في الإيمان الأبناء الحقيقي.

ز. "عماليق" أي "شعب يلحس" الأرض، فإن أعداء شعب الله لا يأكلون الخبز السماوي، بل يلحسون الأرض كالحية.

ح. "فلسطين"، معناها يموتون من الجفاف السام، الذين يشربون من كأس الشيطان المُسكر. وفي اللاتينية تعني "جنس غريب"، ويرى القديس أغسطينوس أنها تعني من يسكر بسبب الترف في الأمور العالمية.

ط. "صور" يرى القديس أغسطينوس أنها تعني "ضيق" أو "ضيقة". وكما يقول الرسول: "شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر" (رو 2: 9).

v   "جبال" معناها وادي قفر. أعداء الكنيسة ليسوا من الجبال، وإنما من الوادي. حكمتهم ليست من فوق بل من أسفل. إنهم ليسوا من السماء بل بكاملهم من الأرض.

يخصص الكتاب المقدس واديًا فارغًا، إذ يوجد وادي غير فارغِ. الإنسان المتواضع الذي يضحي بكل ما لديه من أجل المسيح، هو وادي وحقل، ليس بمقفرٍ بل مثمر.

"عمون" تنطبق بالتأكيد على الشعب المخادع، يشير إلى الهراطقة، إذ هم ليسوا أتباع القائل: "أنا هو الحق" (يو 14: 6)، بل ذاك الذي هو رئيس الكذب.

"عماليق" تُفسر: "يلحس". إنهم لا يتركون شيئًا للكنيسة، بل يلحسون كل أساسها. إنهم لا يقتاتون بكلام الكتاب المقدس، إنما يلحسون الأرض مثل الحية[10].

v   "غرباء (فلسطين) مع سكان صور". إنما نجد كلمة غرباء alienigenae، فإن النص العبري هو Phelistim، ويترجم "كوب من السم"، لأن الهراطقة جميعًا يشربون من كأس بابل، التي يقول عنها إرميا: "بابل كأس ذهب تسكر كل الأرض" (إر 51: 7). لاحظوا "بابل كأس ذهب". بابل تشير إلى الارتباك (بلبلة)، "كأس ذهب حقيقي"، تعاليم الفلاسفة وبلاغة الخطباء. من بالحقيقة لم يضله الفلاسفة؟ من لم يخدعه خطباء هذا العالم؟ لهم كأس ذهبي، سمو البلاغة من الخارج، ومن الداخل مملوء سمًا، الذي لا يقدرون أن يخفوه إلا ببريق الذهب. إنكم تذوقتم عذوبة بلاغتهم، لتتأكدوا ولا تتشككوا في السم القاتل.

"غرباء مع سكان صور". "صور" تقف في مكان "الضيق narrowness". بالحقيقة لا يوجد هناك مكان، لا يوجد القلب المتسع للمسيح، كما يقول الرسول لأهل كورنثوس: "لستم متضيقين فينا، بل متضيقين في أحشائكم" (2 كو 6: 12)[11].

القديس جيروم

أَشُّورُ أَيْضًا اتَّفَقَ مَعَهُمْ.

صَارُوا ذِرَاعًا لِبَنِي لُوطٍ. سِلاَهْ [8].

مساندة أشور لموآب وعمون يؤكد أن المزمور كُتب قبل أن يصير أشور إمبراطورية عظيمة.

الأشوري هو نبوخذنصر عدو الله الذي قاد شعبه إلى الأسر، وهو يشير إلى الشيطان الذي يطلب أن يأسر أولاد الله.

v     الآن أشور غالبًا ما تُستخدم رمزيًا عن الشيطان الذي يعمل في أبناء المعصية (أف 2: 2)، كما في آنيته، لكي يقاوموا شعب الله[12].

القديس أغسطينوس

v   "أشور أيضًا اتفق معهم". الآخرون سبقوهم، وهؤلاء تبعوهم. لننظر من هم هؤلاء التابعين!

يرمز “أشور" للشيطان، فإنه ليس من شك في مكره وانتقامه، كما هو مكتوب في المزمور 8: "لتحطيم عدوٍ ومنتقمٍ" (راجع مز 8: 2). إنه هو الذي يجعلنا نخطئ، وهو الذي يتهمنا لكي نُعاقب. "أشور أيضًا اتفق معهم". الشيطان هو رئيسهم، وقائدهم؛ وليس يسوع الملك البار هو حاكمهم، وإنما أشور.

"صاروا ذراعًا (القوة العسكرية) لبني لوط".

"لوط" معناها "يتحول عن" الله. وذلك كما فعل اليهود، إذ يشترك الهراطقة مع اليهود في التجاديف[13].

القديس جيروم

يرى القديس أغسطينوس أن بني لوط تعني "أبناء الانحطاط" أو "أبناء الانحدار".

v     الملائكة المرتدون يُفسرون بالحق أنهم ملائكة منحدرون، لأن بانحدارهم عن الحق مالوا ليصيروا أتباع الشيطان. هؤلاء قال عنهم الرسول: "فإن مصارعتكم ليست مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات " (راجع أف 6: 12). هؤلاء الأعداء غير المنظورين (الروحيين) يعملون بواسطة غير المؤمنين، يعملون فيهم لمقاومة شعب الله[14].

القديس أغسطينوس

 

4. توسل للخلاص

اِفْعَلْ بِهِمْ كَمَا بِمِدْيَانَ كَمَا بِسِيسَرَا،

كَمَا بِيَابِينَ فِي وَادِي قِيشُونَ [9].

مديان وسيسرا ويابين، هؤلاء الثلاثة فسدوا على الأرض وصاروا مثل الروث.

"مديان" ، يعني من هو متهاون بالحكم. محاربو شعب الله لا يبالون بالدينونة أو الحكم القادم.

سيسرا تُفهم بمعنى "رؤية حصان". أعداء شعب الله ليسوا من قطيع الله بل هم اتباع عدو الخير الثائرين بجنون.

يابين معناها تمييز الذين يتكلون على حكمتهم وليس على مجد الله يفسدون على الأرض مثل الروث.

يبدأ هنا بصلاة نبوية، كما يقول القديس أغسطينوس فهو يسبق فيخبر بما سيحل بهم أكثر منه يلعنهم. هذا ويرى في الأسماء الواردة هنا معانٍ رمزية بجانب أنها حقائق تاريخية، فيقول: ["مديان" تفسيرها "حكم فاسد". "سيسرا" معناها "توقف عن الفرح". "يابين" معناها "حكيم". ولكن يفهم بهؤلاء الأعداء الذين هزمهم شعب الله الإنسان الحكيم الذي يقول عنه الرسول: "أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر" (1 كو 1: 20)[15].]

بَادُوا فِي عَيْنِ دُورٍ.

صَارُوا دِمْنًا لِلأَرْضِ [10].

v     الذين يتشامخون بجيشهم، ملكهم هو الأشوري، الذي اعتاد أن يفتخر، قائلًا: "أصعد إلى السماوات" (إش 14: 13)، ليس فقط يقطعون على الأرض إنما على الأرض يصيرون روثًا[16].

القديس جيروم

اجْعَلْ شُرَفَاءَهُمْ مِثْلَ غُرَابٍ، وَمِثْلَ ذِئْبٍ.

وَمِثْلَ زَبَحَ وَمِثْلَ صَلْمُنَّاعَ كُلَّ أُمَرَائِهِمُ [11].

أهلك الرب جيش المديانيين، وقد سقط غراب قتيلًا على صخرة غراب، وسقط ذئب قتيلًا على معصرة ذئب. لقد تباهوا أن يشبّهوا أنفسهم بالغربان والذئاب، فبات مصيرهم كمصير الجوارح والوحوش المفترسة. تحصّن زبح وصلمناع وتبعهما جدعون وأمسكهما ثم قتلهما. فإذ قام الرب تبدد كل أعدائه "يبيد المناص عن السريع، والقويٍ لا يشدد قوته، والبطل لا يُنجي نفسه" (عا 2: 14).

v     غراب Oreb هو الجفاف، وذئب Zeb أي الذئب wolf، وزبح Zebee أي ضحية للذئب... وصلمناع أي ظل الهياج. كل هؤلاء يتناسبون مع الشرور التي يغلبها شعب الله بالصلاح. علاوة على هذا فإن "قيشون"، أي السيل الجار الذي فيه غُلبوا، يعني قسوتهم. "عين دور" التي فيها بادوا تعني "ينبوع التجديد" حيث يُزال الميلاد الجسدي ويُباد، إذ لم يهتموا بالميلاد الذي يقود إلى الحياة، هناك لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، ولا يموتون بعد.

بحق قيل عن هؤلاء: "اجعلهم مثل روث الأرض (الجل)، فلا ينتجون شيئًا بل ثمر الأرض".

إذ هذه جميعها رموز يهزمها شعب الله، لذلك يصلي (المرتل) أن هؤلاء الأعداء الآخرين يُهزمون في الحق[17].

القديس أغسطينوس

الَّذِينَ قَالُوا: لِنَمْتَلِكْ لأَنْفُسِنَا مَسَاكِنَ اللهِ [12].

غاية أمراء أو رؤساء هؤلاء الأعداء أن يقتحموا هيكل الله ومسكنه فينا. فالعدو الشرير لن يكف عن المقاومة حتى يقيم نفسه إلهًا في قلوب البشر.

v   "الذين قالوا لنمتلك لأنفسنا مساكن الله". لقد تخيلوا في أنفسهم أنهم رجال الكنيسة، مدعين هذا من أنفسهم[18].

القديس جيروم

يَا إِلَهِي اجْعَلْهُمْ مِثْلَ الْجُلِّ،

مِثْلَ الْقَشِّ أَمَامَ الرِّيحِ [13].

يصير المقاومون لله كالتبن الخفيف الذي يظل طائرًا مع الريح ولا يستقر له قرار.أما الذين يلتصقون بكلمة الرب فيثبتون إلى الأبد. الذين يعادونه يكونون كالعصافة التي تذريها الريح (مز 1: 4).

الجل: التبن الناعم الخفيف، أو رؤوس نبات الخرشوف البري الخفيف كالريش، والذي ينفصل عن السيقان في فصل الخريف ويتطاير أمام الريح.

v   "يا إلهي أجعلهم مثل العَجَلَة wheel". ليته لا يكون لهم استقرار في ذواتهم، ليكونوا دومًا غير مستقرين، فلا يكون لهم مركز ثابت، إنما يكونون دائمي الحركة، يتدحرجون إلى خلف فصاعدًا. كما أن العَجَلَة ليست ثابتة في ذاتها، ولا راسخة، هكذا لا يثبت الهراطقة في تعاليهم وآرائهم، وإنما دائمًا يغيرونها.

"مثل القش أمام الريح": طلبات المرتل هي إحدى عشر عقوبة ضدهم، إذ أنكروا قانون الإيمان الذي للأحد عشر رسولًا[19].

v     "يا الله اجعلهم مثل عجلة" [13]. لاحظ مراحم النبي، فإنه لا يصلي ضدهم بل لأجلهم. انظروا ماذا يقول: "إلهي الذي هو إله الجميع، أنت هو إلهي الخاص، اجعلهم يا إلهي مثل عجلة. هؤلاء الذين وضعوا أساساتهم في الخبث، اجعلهم بلا أساسات نهائيًا، فيتدحرجون هنا وهناك ولن يثبتوا قط في خبثهم[20].

القديس جيروم

كَنَارٍ تُحْرِقُ الْوَعْرَ،

كَلَهِيبٍ يُشْعِلُ الْجِبَالَ [14].

كثيرا ما تعاني الجبال المكسوّة بالغابات باشتعال حرائق هائلة، كما يحث في بعض غابات الولايات المتحدة الأمريكية التي تكتسح آلاف الأفدنة، وتستمر أحيانًا لأيام كثيرة.

نار الروح القدس تلهب القلب بالحب، أما نار الشر فعلامة اللعنة (عب 6: 8). "تصير الشعوب وقود كلس أشواكًا مقطوعة تحرق بالنار" (إش 33: 12).

يرى القديس أغسطينوس أن النار واللهيب هنا يشيران إلى حكم الله بمعاقبة الأشرار.

v     كلهيبٍ يشعل الجبال"، ليحترق الكبرياء الذي فيهم[21].

القديس جيروم

v     لقد أشعلوا لأنفسهم نار الغضب والشهوات الجسدية، فلتشتعل فيهم وتضرمهم النار. هذا ما قد تحرر في الأصحاح الخمسين من نبوة إشعياء النبي حيث يقول الله: "يا هؤلاء جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرارٍ، اسلكوا بنور ناركم، وبالشرار الذي أوقدتموه" (إش 50: 11).

الأب أنثيموس الأورشليمي

هَكَذَا اطْرُدْهُمْ بِعَاصِفَتِكَ،

وَبِزَوْبَعَتِكَ رَوِّعْهُمُِ [15].

يقول أيوب البار عن نصيب الشرير: "الأهوال تدركه كالمياه، ليلًا تختطفه الزوبعة، تحمله الشرقية فيذهب، وتجرفه من مكانه" (أي 27: 20- 21).

"وبزوبعتك روعهم": عذاب الشياطين أنهم يرتعدون دائمًا. هذا ما أصاب الجيوش التي هاجت على يهوشفاط. أُصيبت بالرعب، وطردهم الرب أمامه. هكذا يدافع الرب عن شعبه ويحميهم.

v   "هكذا اطردهم بعاصفتك"... لم يقل المرتل "اقتلهم"، بل "اطردهم" حتى يرجعوا إليك[22].

القديس جيروم

امْلأْ وُجُوهَهُمْ خِزْيًا،

فَيَطْلُبُوا اسْمَكَ يَا رَبُّ [16].

إذ يحل بهم الرعب يسقطون في الخزي من عداوتهم لله ولشعبه (إش 26: 11). يخزون من حماقتهم أنهم وقفوا أمام القدير ضابط الكل. أما غاية هذا كله فهو خلاصهم لا هلاكهم، إذ يقول: "دعهم يخافون اسمك لكي يطلبوا اسمك".

يقول القديس أغسطينوس: [إنني أتجاسر فأقول إنه خير للمتكبرين أن يسقطوا في عصيان واضح مشهور حتى يحزنوا في نفوسهم، لأن سقوطهم هو بسبب فرحهم بذواتهم. فبطرس كان في حالٍ أفضلٍ حين بكى وهو غير مكتفٍ بذاته عما كان عليه حين كان متجاسرًا معتدًا بذاته. هذا ما أكده المرتل الطوباوي بقوله: "املأ وجوههم خزيًا، فيطلبوا اسمك يا رب" (مز 83: 16)[23].]

كما يقول القديس أغسطينوس إن هذه النبوة وإن أعلنت مقدمًا ما يحل بهؤلاء الأعداء من خزي إلا أن بعضًا منهم سيرجعون إلى الرب ويطلبون اسمه قبل مجيء اليوم الأخير للدينونة.

v   "املأ وجوههم خزيًا"، وليس بالعقوبات. لماذا لا تهلكهم؟ تقدم كلمات الوحي الإجابة: "فيطلبوا اسمك يا رب". فإنهم إذ يطلبون يجدون، هؤلاء الذين ضللهم الهراطقة يرجعون إلى الرب[24].

القديس جيروم

لِيَخْزُوا وَيَرْتَاعُوا إِلَى الأَبَدِ،

وَلْيَخْجَلُوا وَيَبِيدُوا [17].

إن لم يرجعوا إلى الله بالتوبة، ويطلبوا اسمه يبادون. لا يبقى أمامهم سوى العار والخزي مع الرعب الأبدي (دا 12: 2).

ليس أمام الأشرار الخيار سوى الرجوع إلى الله أو الهلاك الأبدي. ليس من طريق وسط بين الاثنين: مملكة الله أو مملكة الظلمة.

بعض الأعداء يُصرون على عداوتهم فيخزون إلى الأبد، وآخرون يرجعون إلى الرب.

v   "ليخجلوا ويبيدوا". فإن من يخجل من خطاياه يقترب من عدم الخطأ... ليتهم يبيدون كهراطقة - يقول المرتل - فيخلصون كرجال الكنيسة. وذلك تمامًا كأن تقول: ليهلك الزاني، ليس لأنك تتمنى للشخص غير الطاهر الهلاك، بل أن يتحطم الزنا فيه، فيخلص الزاني. يخلص لا كزانٍ، بل كبارٍ وطاهرٍ[25].

v   لاحظوا أن هذا الدمار لا يعني الفناء بل الخلاص ماذا بعد ذلك: "ليعلموا أنك اسمك يهوه، وحدك العلي على كل الأرض" [18]. ليت ذاك الذي يريد أن يتشامخ ينتفخ، أما نحن فنقول: "أنت وحدك العلي على كل الأرض". لا يشغلنا إلى أي مدى يتشامخ الشخص، فإن لدينا الله الذي هو رب الكل[26].

القديس جيروم

 

5. النصرة لمجد الله

وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ اسْمُكَ يَهْوَهُ،

وَحْدَك الْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ [18].

كما حدث مع يهوشفاط، فبقدر ما تحالفت الأمم والشعوب ضد شعب الله، تجلّى الله وظهر أنه هو يهوه الحاضر وسط شعبه، العليّ وحده على كل الأرض.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يليق بنا أن نسبح الله ونشكره من أجل أعماله العجيبة، ليس عندما يخلصنا من الشرور بل وحينما يسمح لنا بالمتاعب والضيقات التي نحسبها شرورًا: [لنشكر الله على كل شيءٍ، ليس فقط عندما يخلصنا من الشرور، بل وأيضًا عندما نعاني من تلك الشرور[27].]

v   لكي تعرفوا أن تفسيرنا صادق يتحدث الروح القدس: "ليخجلوا ويبيدوا". بأية طريقة يبيدوا؟ "لكي يطلبوا اسمك يا رب" (83: 16). ليبيدوا في الخطأ ويخلصوا في الحق. فإنك "وحدك العلي على كل الأرض". ليس تجمعات الهراطقة، ليس الأرواح الشريرة، وأيام فلانتينوس التي لا تُعد، ولا باسيليدس الذي ادعى وجود 365 إلهًا ولا جموع الآلهة الباطلة التي بلا عدد، وإنما "وحدك العلي على كل الأرض"، الذي لك المجد إلى أبد الأبد[28].

القديس جيروم

 

من وحي مز 83

من يسندنا سواك؟!

v   إذ أرى قوات الظلم تتكاتف ضد كنيستك،

تصرخ أعماقي إليك:

إلى متى تصمت؟ إلى متى تهدأ؟

هوذا الأعداء يتآمرون، ويعجون ضدك!

وضعوا في قلوبهم أن يحطموا كنيستك،

وينزعوا اسمك القدوس.

تآمروا معًا، وتعهدوا ألا يهدأوا

حتى يحققوا ما في قلوبهم.

v   ليرجعوا إلى التاريخ،

ففي عبر الأجيال لم تهدأ حرب الأشرار.

تشامخوا عليك،

فصاروا كالقش أمام لهيب النار.

v   نعترف لك، أننا نحبهم كما تحبهم أنت!

لتملأ وجوههم خزيًا، فيرجعوا إليك.

عوض مقاومتك، يلتصقون بك.

عوض العداوة يتمتعون بالمصالحة!

فيتمجد اسمك في كل الأمم!

وتسبحك الأرض كلها!


 

[1] On Psalms, homily 15.

[2] On Psalms, homily 62.

[3] On Psalms, homily 62.

[4] On Psalms, homily 15.

[5] On Psalms, homily 62.

[6] On Psalms, homily 62.

[7] On Psalms, homily 15.

[8] On Psalms, homily 62.

[9] On Psalms, homily 62.

[10] On Psalms, homily 62.

[11] On Psalms, homily 62.

[12] On Psalms 83 (82).

[13] On Psalms, homily 62.

[14] On Psalms 83 (82).

[15] On Psalms 83 (82).

[16] On Psalms, homily 15.

[17] On Psalms 83 (82).

[18] On Psalms, homily 62.

[19] On Psalms, homily 62.

[20] On Psalms, homily 15.

[21] On Psalms, homily 15.

[22] On Psalms, homily 62.

[23] مدينة الله 14: 13.

[24] On Psalms, homily 62.

[25] On Psalms, homily 62.

[26] On Psalms, homily 15.

[27] Homilies on Statues, 17: 1.

[28] On Psalms, homily 62.